العدد 3398 - الإثنين 26 ديسمبر 2011م الموافق 01 صفر 1433هـ

كاسبارا ستامبا... فراشة تصنع من النار قوسها الأخير

شعيب حليفي comments [at] alwasatnews.com

.

يُبهجني كثيراً أن تعْلَم كاسبارا ستامبا، دون غيرها، جلوسي اليوم لأجلها، أكتبُ عنها ما كنتُ كتمته طوال عمري.

فأنا لم أوقِّرها على امتداد قرون وليس سنوات معدودات، على رغم أني تعرفتُ عليها منذ عقدين تامَّين مندهشاً بشعرها وشعورها وبكل خلجات روحها الأخاذة التي هدمت أي حياء أو عُقد وأنا طالب جامعي - لحظتئد - منخرط في الحياة بكل مباهجها.

فكلما قرأت أو أعاود قراءة ديوانها الوحيد، أعتقد أنها تتحدث عني في كل كلمة معنى.. وهذا هو المدخل الذي دفع بأصدقائي في تلك المرحلة (كنا ستة طلبة ننتمي جميعاً إلى منطقة واحدة وجامعة واحدة) إلى التعرف عليها فأصبحت شاعرتنا جميعاً نتنافس على شعرها وشعورها، نحاورها بلغاتنا النثرية الدافئة، كما كانت تبادلنا الود نفسه بقصائد عذبة ونظرات تأسرنا.

شاعرتنا كاسبارا ستامبا ولدت ببادوي الإيطالية العام 1523، وعاشت إلى جانب أختها كاسندرا وأخيها بالتازار، فتلقوا تربية فنية وأدبية، ثم سينتقلون إلى فينيسيا/ البندقية، مسقط رأس والدتها، عقب وفاة والدها وعمرها سبع سنوات.

أصبحت كاسبارا متفوقة في الشعر والموسيقى والغناء، تحفظ أشعار بيتراركا وما ينظمه أصدقاؤها؛ ما جعلها مطلوبة في الصالونات الأدبية؛ إذ سيرتبُ لها القدر لقاءً أرجوانيا في العام 1548 بالكونت كولانتينو، وهو شاب مغامر يحب الشعر والصيد والحروب أيضاً، فتشكلت بينهما قصة عاطفية، لكنه بعد سنة واحدة سيرحل عنها إلى فرنسا في مهمة عسكرية لخدمة ملكها هنري الثاني. لما عاد أخذ كاسبارا معه إلى قصره بسان سالفاتوري، ثم لم يلبث أن غادرها مرة أخرى وهو الأمر الذي جعل تيمة الغياب حاضرة في عدد من قصائدها .

ولتأتي شُعاعاتكَ لتُريحَ قلبي

وآسفاه! على الأقل في هذه لهنيهة

فقريباً ستبتعد

في غياب يُفجِّرُ دموعي.

دعْ تلك الهضاب الضاحكة، مسكنك العالي

الكارهة لما أبتغي

تلك الهضاب، في العادة، أصبحتْ

تُعذبتي اليوم، وهي عليمةٌ.

الأزهار في شعرها ..إذا تركتَ الجميلات

لا تموت .لكن لو تتركني

أنا ... حياتي معكَ يمكن أن ترحل!

الجواب : لا! الشفقة ..أليس كذلك أيها الكونت

نعم، ترفضُ من يلتمسُ الغوثَ

فلُطفا ورحمة.

***

في العام 1551 رجع الكونت كولانتينو إلى البندقية وكانت علاقته بكاسبارا قد فترت ثم انقطعت بعد ذلك.

آنذاك لم تتحمل ستامبا هذا الانفصال عن حبيبها وحبها المتوحش له، فانهارت وفي روحها خسارة كبيرة . وعلى رغم تحسن حالتها الصحية لسنة واحدة، عاودت السقوط وماتت يوم 23 أبريل/نيسان 1554 عن عمر 31 عاماً.

***

كان لمقطع شعري كتبه الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875-1926) في المرثية الأولى من مراثي دوينو العشر، أثر شاعري لمعاودة تذكر كاسبارا التي ظلت - ولمدة طويلة - منسية في قبرها بحسراتها.

يقول ريلكه:

«كاسبارا ستامبا كفايةً ؟ إنَّ أيَّ فتاةٍ، هجرها حبيبُـها،

كمثالٍ بارزٍ لهؤلاء العشّاق، تَحسَبُ: هل سأكونُ مثلَها؟

ألا ينبغي لهذه الآلام الأكثَرِ قِـدَماً أنْ تكونَ في النّهاية

أكثرَ إثماراً لنا؟ أليس هذا وقتَ

أنْ نحرِّرَ أنفسَنا بحبٍّ مِمّن نُحبُّ، وأنْ نتحمّل مُرتَعِشين:

كما يتحمّـل السّهمُ وتـرَ القوس، لنتجمَّع في وثبة نكون أكثرَ

وجوداً من وجوده؟ لبقاءٍ في لا مكان.

أصواتٌ أصواتٌ. أصْـغِ، يا قلبي، لأنَّ قدّيسين فقط أصْغَوا:

إلى أنْ رفعهم النِّداءُ الجبّارُ عَـلِـيّـاً من على سطح الأرض».

***

في حياتها القصيرة، ذات الثلاثين ربيعاً، عاشت كاسبارا ستامبا كل لحظاتها على إيقاع الشعر والألم والانتظار.. وعلى رغم ذلك استطاعت، ببلاغة ناعمة، رصد حالتها الوجدانية في 311 سونيتة كتبتها ما بين 1540و1553 حكت خلالها يوميات حب حارق بدواخلها الهشة بعدما حولته إلى مرايا عشق ساخن ..فكانت مثل فراشة تصنع من النار قوسها الأخير.

وستعمل أختها كاساندرا في السنة التي توفيت فيها كاسبارا على جمع وإصدار ديوانها الوحيد تحت عنوان «قافية « (Rime).

وإذا كانت إشارة ريلكه إلى كاسبارا في قصيدته الشهيرة الشرارة الأولى، فإن التفات النقاد في أوربا وأميركا إلى الشاعرة، وشاعرات أخريات من القرن السادس عشر، وترجمة ديوانها جعلها تحيا من جديد ضمن أسئلتنا المعاصرة، من بينهم اسم غريب لناشر إيطالي يحمل اسماً عربياً هو عبدالقادر سالزا، والذي اعتنى بجمع ديوان كاسبارا وضم إليه قصائد أخرى للشاعرة فيرونيكا فرانكو وطبعه بمدينة باري الايطالية العام 1913 وفي السنتين التاليتين سيُصدر كتابين آخرين، الأول دراسات عن لودفيكو ارييسوتو، أما الثاني فكان كتيباً عن قواف جديدة ونادرة لكاسبارا وفيرونيكا.

مساء الخير فيرونيكا!

فرانكو فيرونيكا التي وُلدت العام قبل وفاة كاسبارا بالبندقية، هي شاعرة وموسيقية، اشتهرت بحياة التحرر رفقة النبلاء والأدباء والفنانين، بحيث قُيِّدت في الكاتالوغ الأساسي للبندقية كأمتع وأجمل مومس مثقفة؛ ما جعل هنري الثالث، ملك فرنسا، يختارها خليلة له أثناء زيارته للبندقية في يوليو/تموز 1574. إثر ذلك رسم لها الرسام الإيطالي جاكوبو روبوستي صورة زيتية تعكس فتنتها ونظراتها الحية.

في العام 1575 ستنشرُ فيرونيكا ديوانها الأول متضمناً بعض قصائد شاعر مغمور يدعى ماركو فيني. كما ستصدر في العام 1580 مؤلفاً ثانياً عبارة عن رسائل، أهدت الرسالتين الأوليتين منه إلى هنري الثالث بينما العشرون رسالة الموالية إلى الرسام جاكوبو.

وسواء في قصائدها أو رسائلها، فإن فيرونيكا لم تكتب سوى عن ذاتها وعن تلك الفسحة المشتعلة والعريضة من مسار حياتها المتحررة بالبندقية فوق ماء عائم يتخايل بين الدروب والساحات.

وكما هو حال بعض الشعراء والشاعرات، ستنتهي حياتها فقيرة وتموت في الخامسة والأربعين من عمرها (21 يوليو 1591) بعدما خلفت ستة أبناء من آباء مختلفين، لم يعش منهم سوى ثلاثة. وقبل موتها قُدمت للمحاكمة بتهمة ممارسة السحر في بيتها؛ ما جعلها في القرن العشرين مادة سحرية للمخرج السينمائي هنري هيرسكوفيتز في فيلم سينمائي أميركي (1998) عن كتاب لمارغاريت روزانتال. كما أصدرت الكاتبة والرسامة الفرنسية مشيل تسيير رواية بعنوان «أنا فيرونيكا ماركو»

إقرأ أيضا لـ "شعيب حليفي"

العدد 3398 - الإثنين 26 ديسمبر 2011م الموافق 01 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً