العدد 3468 - الإثنين 05 مارس 2012م الموافق 12 ربيع الثاني 1433هـ

العربيّة الفصحى: أزمة لغة أم أزمة أمّة؟

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

حين تقرّ المنظمّة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) يوم 1 مارس/ آذار يوماً عالميّاً للاحتفال باللغة العربية؛ فإنّها تؤكد وعيها الشديد بتفاقم أزمة هذه اللغة والتحديات الكبرى التي تحيط بها في عصر العولمة الثقافية.

وتتجلّى أبرز مظاهر أزمتها في مجالي الإعلام والتعليم: ففي وسائل الإعلام بشتّى أنواعها المكتوبة والمسموعة والمرئية والافتراضية شاعت الأخطاء النحوية في العربية الفصحى المستخدمة، كما انتشرت الكتابة بالعامية لا في الإعلانات الإشهارية فقط بل في المقالات والأعمدة الصحافية أو الأحاديث الإذاعية والتلفزية ومواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات وغيرها... كما لا يخفى على مشاهدٍ الاجتياح الكاسر للقنوات الفضائية المتحدثة باللهجة العامية في مخاطبة المشاهدين بحجة التبسيط ورفع الكلفة و... بالإضافة إلى ذلك نلحظ استخدام المفردات الأجنبية بشكل مفرط في ثنايا الخطاب الإعلامي عموماً والإعلانات خصوصاً بدعوى أن الكتابة بالعامية تسهل وصول الرسالة إلى المتلقّي فتضمن فاعلية الخطاب الإشهاري من دون مبالاة بالفصحى ويشجّعهم في ذلك عدم اكتراث الكثير من الصحف باللغة العربية التي يصدر بها الإعلان قدر اهتمامهم بالمبالغ المدفوعة ثمن ذلك الإعلان ولو كان على حساب رمز من رموز هويتنا ألا وهو اللّغة العربية.

والكتابة بالعامية ليست وليدة عصر الإشهارات التجارية وإنما هي ربيبة دعوات ارتفعت بها أصوات في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ونادت إلى الكتابة بالعامية... لكن لقيت تلك الدعوات صدى ومقاومة حتى أجهضتها على رغم الانتشار الكبير لنسبة الأميّة في تلك الفترة.

ولكن ماذا جنينا بعد رحيل المستعمر وانتشار التعليم وتعريب التدريس؟

لقد ارتفعت ولا شك نسب المتعلِّمين، غير أنّ ما يلاحظ وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة أنّ فئة كبيرة من أبناء عالمنا العربي يسارعون إلى تعلّم اللّغات الأجنبية وخاصة الانجليزية وبدرجة أقلّ الفرنسية، يسارعون إلى ذلك بالقدر نفسه الذي يهجرون معه لغتهم الأمّ! وهذا يظهر خصوصاً في المدارس الخاصة شديدة الانتشار في العالم العربي والخليج منه بالخصوص وكذلك الجامعات التي غدت فيها أقسام اللغات الأجنبية أكثر استقطاباً للطلاب. ومن اليسير اليوم أن ترى أطفالنا وخاصة في بعض البيئات «الراقية» يتقنون الانجليزية ولا يتكلمون العربية. بل يعمد أولياء أمورهم إلى عدم تسجيلهم في أقسام اللغة العربية بالمدارس أو الجامعات الخاصة، وإن ألزمتهم سلطة الإشراف على تسجيل أبنائهم في دروس العربية؛ تراهم يكتفون بتسجيلهم ضمن صفوف تكون فيها اللغة العربية لغة ثانية أو ثالثة بحيث تكون الدروس فيها أقرب إلى محو الأمية اللغوية منها إلى تكوين شخصية معتزّة بلغتها وانتمائها الثقافي والحضاريّ.

ولئن كان اكتساب اللغات الأجنبية مطلباً ملحّاً في عصر العولمة الثقافية والانفجار المعرفي؛ فإن اكتساب اللغة الأمّ يبقى واجباً مقدساً لأنه عنصر من عناصر تحديد الهوية والانتماء إلى الأمة العربية.

أمّا الأخطر من هذا؛ فهو فشل الكثير من مدرسي اللغة العربية سواء من ذوي الاختصاص أو ما قاربه من شدّ طلابهم باستعمال لغة عربية فصحى ميسرة قريبة من نفوس المتعلمين تكسر الفجوة بين اللهجة العامية التي يستعملها في محيطه اليومي والفصحى الأدبية التي تحتويها الكتب في رفوف المكتبات.

ولئن كان هذا الفشل مصيبة يمكن تداركها؛ فإن العجز عن التكلّم باللغة الفصحى – أيّا يكن مستواها – مصيبة أكبر وهو ما لا نعدمه – وللأسف – في مدارسنا العربية بين شريحة كبيرة من معلمي اللغة العربية حيث يلجأ أولئك إلى العامية في الشرح، فتضيع آخر فرصة ممكنة ومفروضة على المتعلم ليسمع أو يتكلم باللغة الفصحى.

لكن هل أزمة اللغة العربية التي تتجلى كأبرز ما يكون في الإعلام والتعليم معزولة عن واقعها السياسي؟ كلاّ، فبعد تراجع المشروع القومي العربي وانتشار الإحساس بالهزيمة السياسية والحضارية وخفوت جذوة الحلم العربي المشترك واندحار فكرة الأمة العربية الواحدة في الوعي الجمعيّ العربي وبالمقابل وفي ظل تنامي المشاعر القطرية وبروز التعصب للهجة المحلية تأكيدا للخصوصية الثقافية فضلاً عن الصراعات العربية العربية على الحدود التي رسمها المستعمر أو المصالح أو غيرها... كل هذا وذاك ساهم في تراجع الاعتزاز باللغة القومية في زمن تراجع فيه الإيمان بالمشروع القومي وكأن اللغة سقط أكثرها بسقوط همّة أهلها على رأي ابن حزم في كتابه (الأحكام).

وهكذا يبدو الاحتفال باللغة العربية في يومها العالميّ رثاءها ودفاعاً عنها في زمن التحديات الكبرى لكنه في الحقيقة دفاع عن الهوية والانتماء. وإذا كانت الأزمة قد تجلّت بوضوح في الإعلام والتعليم؛ فإنّ الحل يبدأ من هذين القطاعين: فليس صعباً أن توفّر وسائل الإعلام الكفاءات للتدقيق اللغوي وليس عسيراً أن تتخذ موقفاً جماعيّاً – متى توافرت فيها الحمية العربية – من نشر الإعلانات بالعامية أو أن يُسَنّ قانون يمنع ذلك ويعاقِب مخالفيه. وليس مثال فرنسا عنا ببعيد، ففي العام 1985 طالبت خمسون جمعية أهلية فرنسية البرلمان بإصدار قانون يفرض عقوبات على كل مواطن فرنسي يطلق اسماً على أولاد أو محلّه التجاري بغير الفرنسية أو يتداول كلاماً غير فرنسيّ... كما أن التوعية باللغة وجمال استعمالها الفصيح يمكن أن يمرّ عبر بوابة الإعلام.

أمّا في مجال التعلي؛ فالإصلاح لابدّ أن يبدأ بالمعلمين الذين يعتمدون اللغة العربية أداة لتواصلهم مع الطلاب، فمن الواجب تمهين أولئك المعلمين في مجال اللغة الأم أمّا من لا يحسن مخاطبة طلابه باللغة العربية الفصحى من مدرسي اللغة العربية أنفسهم؛ فأولئك مدعوون إلى مراجعة سبب وجودهم داخل الصفّ الدراسيّ.

هكذا فالقضية أعقد من أن تختزل في أزمة لغة بل إنها وبوضوح أزمة أمّة تحتاج إلى مراجعة سياستها الإعلامية وسياساتها التعليمية فضلاً عن اختياراتها السياسية قريبة أوبعيدة المدى

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3468 - الإثنين 05 مارس 2012م الموافق 12 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 3:05 م

      العربيّة الفصحى: أزمة لغة أم أزمة أمّة

      موضوع يستحق مزيد التدارس والبحث العميق عن الحلول الكفيلة

    • زائر 3 | 6:00 ص

      لغة القرآن

      شكرا على المقال فيه غيرة واضحة على اللغة العربيةو لكن لا تنس انها لغة القرآن سوف تضل محفوظة بحفظنا له في قلوبنا

    • زائر 2 | 11:29 م

      اللغة الأجنبية....................؟

      يعني همّ اكتسبوا اللغة الجنبية
      دول زي ما قال المثل لا طالوا عنب الشام ولا بلح اليمن

      الأساس اكتساب اللغة الأم ثم اكتساب لغات أخرى

    • زائر 1 | 10:55 م

      أزمة أمّة

      فعلا أزمة عميقة لأمة عقيمة
      فلا حول ولا قوة إلا بالله

      شكرا على المقال

اقرأ ايضاً