العدد 1460 - الإثنين 04 سبتمبر 2006م الموافق 10 شعبان 1427هـ

التفكير السليم والتفكير الأعوج

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

واحد من أهم الكتب التي نشرها المجلس الوطني للثقافة في الكويت في سنوات سابقة، كتاب اقترحه المفكر فؤاد زكريا، يتحدث الكتاب عن التفكير السليم والتفكير الأعوج في حياة الشعوب، أهم ما جاء في الكتاب أن التفكير الأعوج قد يبدو للبعض في وقت ما انه سليم ومنطقي، يضرب الكتاب أمثلة عن التفكير السياسي الأعوج الذي بدا سليما للجميع في وقته، كان التفكير الفاشي والنازي، الذي تبنته الكثير من الشعوب مباشرة أو مداورة و ذلك في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومن أهم أشكال التفكير الأعوج، التفكير المؤقت الحماسي ذو الرؤية القصيرة، الذي يبدو أن كثيرا من العرب قد ابتلوا به.

يبدو أن التفكير السليم والأعوج مازال ظاهرا بيننا في الثقافة العربية، فقط للتذكير، هل يذكر بعضنا الحملة الضخمة التي حدثت بعد نشر رسوم كاريكاتيرية في إحدى صحف بلاد الشمال الأوروبي، عن رسولنا الكريم (ص)، وقتها قامت الدنيا وخرجت المظاهرات وتلاسن الجميع على صفحات الصحف وفي الإعلام المرئي، وفجأة انخفضت حرارة الحملة وتلاشت، وكأنها لم تكن.

حملة أخرى ضخمة اندلعت قبل ذلك عن حرق المسجد الأقصى، وقامت مظاهرات وتبارت دول كثيرة لإعادة بنائه، بل وشُكلت لذلك لجنة على مستوى القمة العربية، هي لجنة المسجد الأقصى، ثم انتهى الأمر من دون نتيجة... وهل يتذكر احد نصرة الانتفاضة الفلسطينية، التي شُكلت لها لجان وجمعت لها تبرعات ثم ماتت الفكرة فجأة كما قامت. هل يسمع احد عن تلك اللجنة اليوم! يستطيع المراقب أن يذكر الكثير من الحوادث التي مرت خلال ربع القرن الأخير علينا نحن العرب. انه الفرق بين التفكير طويل المدى ذي الأهداف الواضحة والتفكير العاطفي الفوري!

من آخرها طبعا حوادث لبنان، وقد فوجئ الكثيرون بتصريحات السيدحسن نصرالله الأخيرة التي قال فيها ما معناه، انه لو قدر أن تكون ردة فعل «إسرائيل»، كما حدثت فعلاً لما قام بما قام به. لن ادخل في تفسير النيات أو اصطياد الكلمات، فالموضوع اكبر وأكثر أهمية من التفسير أو الاصطياد أو حتى من طرح سؤال من كان على حق أو من كان على باطل؟، أو خدعته المظاهر. إلا أن البدء بالقول انه قول شجاع يصدر عن رجل لا يتعاطى السياسية بمعناها السلبي، بل بمعناها الايجابي. ولكن الحروب الحديثة لا تفرق بين الجبهة والعمق، تلك بدهية يعرفها من خاض حروب التحرير من الجزائر إلى فيتنام.

إلا أن القضية ليست هنا، القضية في طرق التفكير أو حتى أكون دقيقا أكثر، فقد كتب عبدالباري عطوان في صحيفة «القدس العربي» اللندنية مقالا مطولا (يدغدغ المشاعر طبعاً، ولا يقدم تفكيرا سليما) كتب ما نصه (ان حرب «إسرائيل» على لبنان... لحرمان سورية وإيران من ذراع عسكرية قوية...) استعنت بفكر السيد عطوان لأنه من المتحمسين الكبار، للتدليل على أن بعض التفكير الأعوج بين ظهرانينا مازال قائما ومروجاً له. فالقول إن حزب الله هو ذراع عسكرية قوية لسورية ولبنان يصب في غير صالح الثلاثة، لا حزب الله، ولا سورية ولا إيران.

إلا أن الإشكال لا يتوقف هنا، فأن المقاومة التي أبداها حزب الله لا احد ينكر أنها مقاومة بطولية، إلا أن الحرب، أية حرب لها ذراعان، الحرب والسياسة. كون حزب الله حزبا وليس دولة فهو لا يستطيع أن يستفيد سياسيا من كل هذه الممانعة. فالحرب ضئيلة الفرص وهدفها دائما سياسي، كون حزب الله حزبا في دولة ضعيفة هي لبنان، فهو حزب ليست له ذراع سياسية مقبولة دوليا، ولا تستطيع الدولة اللبنانية أيضا أن تستفيد من هكذا حرب، للأسباب المعروفة المحيطة بالدولة اللبنانية.

أيضا لا سورية ولا إيران استطاعتا أن تستفيدا سياسيا من هذه الحرب، حتى الساعة على الأقل. لأسباب خاصة بتركيبة التفكير السياسي الحالي، في كل من دمشق وطهران. فلا جبهة الجولان تحركت سياسيا، ولا الملف النووي الإيراني وجد له متنفساً دولياً، لقد بدا الملف في آخر شهر أغسطس/ آب، كما كان في الحادي عشر من يوليو/ تموز، قبل اختطاف الجنديين الإسرائيليين! مكانك راوح.

الحرب الضخمة التي استخدمت فيها «إسرائيل» كل قدرتها العسكرية وخربت لبنان وأرجعته إلى ربع قرن مضى على الأقل، وأزهقت أرواح أكثر من ألف لبناني بعضهم نساء وأطفال، بدأت وكأنها (حرب عبثية) في التحليل العقلاني النهائي في موازين الخسارة والربح.

هذا لا يعني أن «إسرائيل» لا تقوم بأفدح الأعمال غير الإنسانية ضد الفلسطينيين، وهذا لا يعني أن الظلم الفادح الذي يُوقع عليهم كل مطلع شمس ومغربها غير مستهجن، وهذا لا يعني تجاهل آلاف المعتقلين الفلسطينيين، كل هذا قائم حتى الأسلحة التي استخدمت في الحرب الأخيرة على لبنان هي أسلحة بعضها محرمة دوليا للاستخدام ضد المدنيين، هذا شيء والاستفادة السياسية شيء آخر.

إذاً هناك كفتان، كفة العدوان، وكفة المقاومة للعدوان. مذابتان في فضاء عالمي يحارب الإرهاب ويدعو إلى الديمقراطية.

كفة المقاومة للعدوان هي إنشاء دولة فلسطينية قابلة للعيش في أراضي الضفة والقطاع، وانسحاب إسرائيلي من الجولان السورية (بعد أن تم تطبيع العلاقات المصرية، الأردنية والإسرائيلية).

إذا كانت هاتان الكفتان هما المعادلة المعروضة أمام التفكير السليم في إطار فضائهما الذي وصفناه، فإنها تحتاج إلى تفكير سليم مقابل لها يتوخى الاستفادة السياسية القصوى من القوة النسبية لتغليب المقاومة بمعناها الشامل على العدوان بمعناه الشامل.

أين الدور اللبناني؟ التفكير السليم يرى أن الدور اللبناني هو في القيام بتقديم البديل، وهو الإصرار على قيام لبنان تعددي، يفشل النظرية الإسرائيلية، في التفرد (اليهودي) البحت وقصر الدولة العبرية على ديانة واحدة! فهناك في لبنان طوائف عرقية ومذهبية ودينية مختلفة. كما أن قيام لبنان ديمقراطي، يعني الابتعاد عن الدعوى الإرهابية، فجميع الملفات المختلف عليها وطنيا، تحل من خلال مؤسسات منتخبة.

هذا هو الدور اللبناني المراد بجناحيه. الأمر إذاً أن يفكر حزب الله في تقديم نتائج الحرب إلى مشروع الدولة اللبنانية للقيام بذلك الدور، تحت مظلة الغطاء العربي الفاعل، من اجل أن تجري الاستفادة القصوى من هذه الممانعة في المجال الدولي على ارض الثلاثة والثلاثين يوما من المقاومة والتضحيات الجسام، بدلا من إرهاق لبنان بحرب تحت شعار حرب (الإرهاب) المذموم دوليا دوليا، وبعثرة الممانعة اللبنانية سدى!

غير هذا الطريق سيدخلنا جميعا في طريق التفكير الأعوج العاطفي، الذي يقود في النهاية إلى تقديم أوراق كثيرة لـ «إسرائيل»، ويحرمنا جميعا من التفكير السليم، وتصبح تضحيات الثلاثة والثلاثين يوما مثل صيحة الكاريكاتير، أو تعضيد الانتفاضة، أو غيرا ممن مر بنا جميعها صيحة في واد خرب... هي فقط هبة مُضرية، لا تترك إلا الغبار في الجو، والمرارة في الحلوق وهي بالتأكيد تفكير اعوج

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1460 - الإثنين 04 سبتمبر 2006م الموافق 10 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً