العدد 1472 - السبت 16 سبتمبر 2006م الموافق 22 شعبان 1427هـ

كلام مقصود... ويعلم البابا ماذا يقول

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ردود فعل غاضبة اندلعت في ارجاء جغرافية العالم الإسلامي كافة رداً على تصريحات بابا الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم. ردود الفعل هذه كانت متوقعة من السلطة البابوبية. وحين قرر البابا طرح ما يراه قضايا خلافية بين المسيحية والإسلام توقع حصول مثل هذه الردود حتى لو ادعى انه لم يكن على علم أو أنه لم يتوقع هذا الرفض العارم لكلامه.

البابا يعلم تماماً ماذا فعل ويدرك عن وعي مسبق بأن كلامه سيكون له وقعه السلبي وسيستدرج الكثير من حملات الاستنكار والمظاهرات والمسيرات والمؤتمرات والبيانات وغيرها من تصريحات وربما فتاوى ومطالبات بقطع الاتصالات ووقف الحوار وسحب السفراء والدبلوماسيين... وغيرها من مواقف إسلامية شعبية ورسمية ودينية.

البابا الحالي (بنديكت السادس عشر) يعرف الإسلام جيداً وقارئ دقيق للقرآن والكتب والتفاسير والشروح. فهو من جيل المثقفين وتبوأ لسنوات منصب «أمين العقيدة» في الفاتيكان وتابع من خلال موقعه الرسمي الكثير من الدراسات والبحوث والندوات وكان مطلعاً على مختلف التطورات والاجتهادات. فالكلام الذي قاله عن الإسلام لم يصدر عن جهل أو نقص في المعلومات أو قلة معرفة أو ضعف في المراجع أو عن سهو أو غفلة من الزمن أو تسرع ناتج عن خطأ طباعي. الكلام الذي قاله قصده وتفوه به عن عمد وعن سابق تصور وتصميم. وحين قرر قول كلامه درس كل ردود الفعل والاحتمالات ورسم لنفسه خطة رد أو هجوم معاكس.

ما حصل من فعل مدروس ومبرمج ورد فعل عفوي على الإهانة ومنطق استسهال العبث بمعتقدات أكثر من مليار إنسان في العالم كان من التداعيات المتوقعة والمحسوبة والمدروسة. فالبابا الحالي ليس ساذجاً إلى هذا الحد ولا يقول الكلام للدلالة على جهله وتخلفه وقلة معلوماته واطلاعاته وضعف معرفته بالكتب والمصادر والمراجع. البابا الحالي ليس جاهلاً وهو يعلم ماذا يفعل. فالكلام مدروس وحين قاله كان يريد ان يفتعل أزمة ويثير مشكلة من خلال تحريك المشاعر والشوارع.

المسألة إذاً سياسية في جوهرها ولكنها اتخذت صفة الادعاء الديني لحسابات معقدة ومركبة تصب في النهاية في إطار مشروع دولي كبير يستهدف تطوير الهجوم على العالم الإسلامي ونقل المعركة من جانبها العسكري إلى جانب فكري/ ثقافي. هذا لا يعني أن الجانب العسكري من المعركة توقف وانما هناك جوانب أخرى كانت مغلقة ويراد الآن فتحها للتطرق إلى أبواب خطيرة تمس الجوهر العقائدي والنصوص وغيرها من أمور تتصل بالأصول وليس بالفروع.

قبل عام تقريباً تحدث وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عما اسماه «حرب أفكار»، معتبراً أن المعركة مع العالم الإسلامي لا تقتصر على تلك المواجهات الأمنية مع «الشبكات الإرهابية» ولا تلك الحروب ضد أنظمة استبدادية يقودها طغاة في هذه الدولة أو تلك. رامسفيلد كان يشير إلى مسألة أوسع وأكبر وأعمق حين ذكر «الأفكار». فالمسألة برأيه تحتاج إلى نوع من الاستئصال الثقافي وهذا لا يتحقق بالقنابل والصواريخ والمتفجرات واحتلال اراضي الدول وانما من خلال تفكيك الوعي الديني وزعزعة ثقة المسلمين بتراثهم واثارة مشكلات تهز العمق الايماني التي تعتمد على الكثير من المسلمات والقناعات.

حرب ايديولوجية

كلام رامسفيلد ليس الوحيد الذي جاء في هذا الإطار. فهناك الكثير من الإشارات والتنبيهات والتلميحات التي اطلقت في مناسبات مختلفة اعتمدت التورية ولكنها كانت واضحة في مقاصدها. فالأهداف كانت موحدة الاتجاهات وكلها ذهبت إلى القول بوجود مشكلة في الإسلام نفسه. فالإسلام برأي مجموعات الضغط هذه (لوبيات ايديولوجية) هو المنتج لهذه التيارات المتطرفة، وهو الجهاز الذي يصنع تلك القوى والأفراد، وهو المرجع الذي يلقن ويحقن ويغذي وجهات نظر لا تتناسب مع تطلعات العصر وطموحات الإنسان في المستقبل.

المعركة إذاً بدأت تتوضح معالمها. فهي أساساً ضد الإسلام حتى لو نفت واشنطن ولندن أو برلين والفاتيكان انها ليست كذلك. وتذرعت بأن تلك الحروب هي ضد فئة وانها حصلت لمساعدة المسلمين على الخلاص من هؤلاء المتطرفين أو التخلص من عوائق «إرهابية» و«دكتاتورية» تمنع العالم الإسلامي من النهوض والتقدم. هذا الكلام قيل مراراً وكان بمثابة قنابل دخانية لاخفاء الدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذه الحملات العسكرية المتكررة ضد دياره ومناطقه. والكلام العام قيل إلى جانبه الكثير من المفردات والمصطلحات التي أوضحت جوانب خفية من غايات «الحروب الدائمة».

كل الأمور مدروسة ومحسوبة من الفعل إلى ردود الفعل. الرسوم الكاريكاتورية كانت محسوبة ومدروسة. الفاظ بوش وشتائم برلسكوني لم تكن هفوات وزلات لسان. كذلك كلام البابا لم يصدر عن جاهل بل عن عارف ومطلع يعلم ماذا يقول ويدرك تداعيات اقواله.

ضمن هذا الإطار يمكن وضع المسألة وإلا فإن القراءة لن تكون دقيقة. فما صدر عن البابا جاء ضمن خطة مبرمجة ويستهدف نقل المعركة أو توسيعها من سياق تصادمي دموي إلى سياق عنف تصادم الأفكار. والمعركة الأخيرة طويلة وقاسية لانها ستنتقل من القشرة إلى لب الموضوع. وهذا الأمر يتطلب جاهزية فكرية ومعدات واستعدادات دائمة للرد والتوضيح والشرح والتفسير لمنع تشكل مناخات ثقافية تولد لوبيات (مافيات) ايديولوجية تضخ للعالم تصورات ذهنية جاهزة تؤخذ كوقائع عن المسلمين في ارجاء المعمورة وكأنها مسلمات نهائية لا تتقبل النقاش أو النقد أو إعادة النظر.

كلام البابا مقصود وهو فعلاً خطير ويرجح انه لن يتعذر عنه شخصياً لان ذاك التراجع يعتبر في نظر انصار المذهب الكاثوليكي مساساً بقدسية «الحبر الاعظم». فالبابا تعمد قول هذا الكلام لفتح معركة فكرية/ ثقافية كبيرة تصب في إطار تصريح رامسفيلد عن «حرب الأفكار». فالكلام الذي جاء في سياق سجال فقهي بين «بيزنطي وفارسي» له الكثير من الدلالات الرمزية والإشارات البعيدة المدى. كذلك فإنه يصب الزيت الايديولوجي على حرب تقودها أميركا بالصواريخ والطائرات على العالم الإسلامي. وهذا الزيت يرجح ان يرفع من وتيرة القلق والتوتر والاضطراب وسيعطي للاستراتيجية الأميركية التقويضية شرعية تقليدية كانت تحتاجها لتبرير مشروعها. فالكلام البابوي يوحد المشاعر والشارع المسيحي الأوروبي - الأميركي، كذلك يجسر العلاقات بين الكاثوليك والبروتستانت ويمنع التقارب السياسي بين العالمين الإسلامي واللاتيني (كاثوليك أميركا الجنوبية)، كذلك يقلل من ذاك الابتعاد بين شمال وغرب أوروبا البروتستانتي وجنوبها الكاثوليكي.

المعركة سياسية وكانت بحاجة إلى غلاف ديني وهي أيضاً دينية وتحتاج إلى غطاء سياسي. وهذا الأمر لم يساعد البابا السابق على توفيره وجاء الحالي ليلبي الجوانب الناقصة لتلك الحروب المكشوفة والمفتوحة على الإسلام. فهل دخل العالم في طور جديد من المواجهة الدولية أم أن كلام البابا مجرد زوبعة في سماء صافية؟ الدلائل تشير إلى أن السماء ملبدة بالغيوم وبقي أن ننتظر إلى اين تتجه العواصف

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1472 - السبت 16 سبتمبر 2006م الموافق 22 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً