حين سئل المخرج الغريب الأطوار كوانتين تارنتينو عن أي أفلام السير الذاتية يفضل، قال: «لا أحبها فهي لا تقدم أي متعة سينمائية. يمكنها أن تقدم أداء عظيما لأن هناك شخصية عظيمة يجب على أحدهم تقديمها، لكن هناك قلائل فقط ممن تبدو حياتهم مثيرة للاهتمام بشكل يكفي لعمل فيلم عنها».
ويواصل «لو أردت أن أقدم فيلم سيرة ذاتية، فسأتبع احدهم لمدة ثلاثة أيام علني أجد حدثا مثيرا للاهتمام أركز عليه، فلو أردت مثلا أن أقدم فيلما عن ألفيس بريسلي، فسأركز على اليوم الذي دخل فيه الى شركة سن للتسجيلات وأتجاهل كل شيء آخر في حياته».
تارنتينو إذاً لا يحب السير الذاتية لأنها لا تقدم شيئاً، لكن هناك أشخاص آخرين لا يحبون السير الذاتية لأسباب أكثر عاطفية. المغنية الأميركية الهندية الأصل نورا جونز مثلاً كانت غاضبة لأن أحد مخرجي بوليوود قام بعمل فيلم عنها وعن والدها الموسيقي رافي شانكر الذي لم يكن له أي وجود في حياتها حين كانت طفلة. تقول جونز: «ديف آناند لا فكرة لديه عما حدث في حياتنا، ولذلك لن يتمكن من أن يقدم قصتنا بطريقة واقعية. أنا واثقة من ذلك، وهذا فعلاً أمر محزن لأن هذه أمور شخصية لا تهم أحداً سوانا أنا وأسرتي».
انتحار سيلفي على الشاشة؟!
كذلك أثار فيلم Sylvia استياء مشابهاً إبان عرضه العام 2003، وهو الذي يستعرض جزءاً من حياة الشاعرة الانجليزية سيلفيا بلاث، ويصور أحد مشاهده الأسلوب البشع الذي أقدمت من خلاله على قتل نفسها. فريدا هيوز، ابنة الشاعرين سيلفيا بلاث وتيد هيوز، قامت بتوجيه لوم شديد للمنتجين لتصويرهم مشهد انتحار والدتها في الفيلم، كما قامت بكتابة قصيدة من 48 سطراً نشرتها في مجلة «تاتلر» هاجمت فيها صناع الفيلم، وكتبت في أحد مقاطعها ما معناه «الآن يريدون أن يصنعوا فيلما لأي شخص لا يملك أي إمكان. يصورون فيه الجسد، والرأس في الفرن، ونظرة الأطفال اليتامى».
ان خطورة تقديم أفلام السير الذاتية واضحة جداً، فهناك دائماً أقارب أو زملاء يطعنون في دوافع صناع الفيلم. تعترف منتجة فيلم Sylvia أليسون أوين بذلك إذ تقول: «تملكني ذعر شديد بسبب هذا الفيلم، إذ إنني أعلم أن هيوز كان متحفظاً جداً بشأن الفترة التي عاشها مع سيلفيا، وهذا ما منعني من التعرض لعلاقتهما. لكنني في الوقت ذاته اعتقدت اني حصلت على موافقة ضمنية منه لنشر بعض الرسائل التي تبادلها وسيلفيا في أعياد ميلادهما، إذ إنه كان قد أخرج هذه الرسائل قبل موته بقليل. أشعر بأنني تصرفت بشكل أخلاقي حين بدأت في تصوير الفيلم وضمنته بعض تفاصيل حياتهما الواردة في الرسائل».
وتؤكد أوين إنها التقت فريدا هيوز وتناولت العشاء معها قبل البدء في مشروعها، وتتذكر «كانت مبتهجة للغاية، وتحدثت بصراحة ووضوح، مؤكدة أنها تفضل لو لم يتم عمل الفيلم. لكنها أيضا قبلت بحتمية قيام أحدهم بهذا الأمر».
لكن أوين لا تبدي دهشة كبيرة من قصيدة فريدا، إذ إن «فكرة أن يعلن احد ما رغبته في عمل فيلم، تختلف تماماً عن أن يتم عمل الفيلم حقيقة، ولذلك لا يدهشني أن يثير فيلم Sylvia مشاعر قوية لدى فريدا، ربما لم تكن هي نفسها تتخيل أنها ستشعر بها».
«دوبري» تثير استياءً آخر
منتج الأفلام اندي باترسون ابدى تعاطفا شديدا مع فريق عمل Sylvia لأنه مر بخبرة مشابهة مع فيلم Hilary and Jackie، الذي قدمه العام 1998 واستعرض فيه السيرة الذاتية لعازفة الكمان الفرنسية الشهيرة جاكلين دوبري.
يعلق باترسون «بالنسبة إلى المؤسسة الموسيقية كانت دوبري التي قتلها تصلب الشرايين، رمزاً مهماً في عالم الموسيقى. لكن كثيرين هاجموا الفيلم واتهموه بالخروج عن حدوده حتى قبل الانتهاء من تصوير جميع مشاهده، وحتى عندما أعلنا تعاون أسرة جاكي معنا إذ لم يشكل ذلك أي حماية لنا».
الآن، وبعد أعوام من تقديم ذلك الفيلم يتساءل باترسون «السؤال الذي يجب أن تطرحه على نفسك قبل البدء في مشروع كهذا، هو: هل يجب عليّ فعل ذلك؟ وما هو الأمر المميز في حياة أي شخص ذلك الذي يبرر تحمل خطورة تقديمه في فيلم قد يعاني، كأية محاولة فنية أخرى، عدم الدقة في تفاصيله؟».
لكن ما حدث فعلاً لباترسون ولكثير من صناع أفلام السير الذاتية، هو أنهم حين يقررون صنع فيلم كهذا، فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين على تحري أقصى درجات الدقة والواقعية.
وفي حال فيلم باترسون تعني الواقعية كشف الخصومة التي حصلت بين جاكي وشقيقتها، وكذلك التعرض لموضوع الغيرة الجنسية والتحدث عن بعض حالات الزنا، وأخيراً فضح حقيقة دوبري التي كانت تتحول إلى امرأة عابثة ومتلاعبة بالآخرين في بعض الحالات.
يتذكر باترسون «لقد تم تشويه سمعتنا، فقط لأننا مررنا اعتقادنا بأنها ربما كانت تحمل أكثر من شخصية. وقد جاء الانتقاد من مصدرين، أولاً أولئك الذين لم يشاهدوا الفيلم، ولم يعتقدوا أنه يجب عليهم ذلك، ثم صدقوا كل ما قرأوه في الصحافة. وثانياً من المؤسسة الموسيقية التي لم تحتمل ما فعلناه».
وكما يشير باترسون لم يبدُ أن هناك أحداً كلف نفسه عناء السؤال، على أقل تقدير، عما إذا كان الفيلم لا غبار عليه. بل على العكس، إذ إن كثيراً من هؤلاء المنتقدين تجاهلوا حقيقة ان فرانك كوتريل بويس، أشهر كتاب السيناريو في صناعة الأفلام البريطانية،هو من قام بكتابة النص السينمائي الراقي والجميل للفيلم، كما ان النجمة ايميلي واتسون قامت بأداء رائع فيه».
لم تهتم وسائل الاعلام بكل تلك الأمور، وكل ما ركزت عليه واهتمت به كان فقط الكيفية التي شعر بها دانيال بايرن بوام، زوج دوبري السابق.
مرفوضة على أي حال!
لا تثير السير الذاتية الجدل دائمًا، ففي الثلاثينات بدأت شركة وارنر في عمل افلام السيرة الذاتية التي كانت تخصص لها موازنات هائلة وتدور موضوعاتها حول قصص حياة عظماء التاريخ من الرجال وبعض النساء اللواتي مررن بشكل عرضي في حياتهم. تلك الأفلام تعرض الحوادث بطريقة جافة وتاريخية بحتة، كما كان التسلسل الزمني يسيطر على سير الحوادث فيها، عدا عن امتلائها بحقائق كثيرة تثقل الفيلم.
مثال على ذلك أفلام مثل The Story of Louise Pasteur (1936) وفيلم The Life of Emile Zola (1937)، وهي أفلام مهمة، ذات ذوق راق، لا تحاول التطرق الى الجوانب السيئة لأي شخصية، كما أن صانعيها التزموا فيها بكثير من أسس صناعة الأفلام.
وعلى رغم ذلك جاءت الشكوى من أقارب لويس باستير على صناع الفيلم الأول، متهمة الشركة المنتجة بعدم أخذ رأيهم في الاعتبار، على رغم شكواهم من تلاعب هوليوود بتجربة باستير، وإخفاقها في عرض اكتشافاته.
كذلك أغاظ الفيلم الثاني أحفاد زولا الذين وجدوا تجسيد الممثل بول موني لشخصية جدهم مبالغ فيه، إذ لم يتمكن من تقديم صورة الروائي الذي يحمل حساً عالياً بقضايا مجتمعه.
كذلك يرى كثيرون أن تقديم مثل هذه الأفلام يفقد الشخصية موضع الفيلم احترام معجبيها، ولذلك يطرح المنتج والمخرج والممثل البريطاني لورد اتينبورو وجهة نظر مختلفة عما يجب تقديمه في هذه الأفلام إذ يشير إلى أن ما يثير اهتمامه في حياة أية شخصية مشهورة هو «الأشخاص الآخرين الذين تأثروا بهم وعاشوا معهم. إنها تلك العلاقات الإنسانية والقيم التي تخترق كل شيء هي ما أحب أن أقدم في أفلامي».
ويرى اتينبورو أن السر في تقديم أفضل أفلام السير الذاتية «هو تقديمهم بطريقة تختلف عن تلك التي نعرفها بهم».
ملاحم لا سير ذاتية
هناك بعض الأفلام مثل فيلم المخرج مارتين سكورسيسي Raging Bull الذي يتحدث عن حياة الملاكم جيك لاموتا، وفيلم المخرج رون شالتون اللاذع الذي يفضح كثيرا من الزيف بشكل رائع، والذي يصور حياة اسوأ لاعب بيسبول على الاطلاق، لا يمكن اعتبارها افلام سير ذاتية، على رغم أنها تظل قريبة نسبياً من حقيقة هذه الشخصيات.
التصنيف الأفضل لها هو اعتبارها من الأفلام الملحمية مثل Lawrence of Arabia, Patton، أو افلام اثارة سياسية كمعظم أفلام أوليفر ستون، أو حتى تلك الأفلام التي تصور بشكل دموي جرائم بعض أشهر القتلة التسلسليين كفيلم 10 Rillington Plac. وسواء كان هذا ام ذاك، فإن معظم هذه الأفلام تبدو مفعمة بالحياة وتستعرض حياة بعض الشخصيات بطريقة ذكية ومباشرة.
لعل أشهر وأعظم تلك الأفلام، فيلم Citizen Kane وهو فيلم سيرة ذاتية غير مباشر لحياة رجل الأعمال الشهير في مجال الصحافة وليام راندولف هيرست، وهو فيلم لا يمكن نسيانه، لكنه لا يمكن أن يشكل فيلم سيرة ذاتية.
أخيراً، يبقى السؤال المهم عند صناعة أي فيلم سيرة ذاتية يتعلق بالكيفية التي حصل عليها صناع هذه الأفلام على ترخيص بتقديم حياة أي شخص على الشاشة. ثم يأتي السؤال بشأن مدى قرب الاستشارات التي يتم القيام بها والتي تستطلع أراء أصدقاء وأسر الأشخاص الذين تستعرض آلامهم على الشاشة؟
طبعاً، لا يملك معظم صناع الأفلام اجابات واضحة على هذه الأسئلة، ولذلك فإن مقياس الحكم عليها يجب أن يتناول جوانب أخرى ويعتمد قواعد أخرى كتلك التي ترى أن أكثر أفلام السير الذاتية نجاحاً هو أنه لكي يصمد أي من هذه الأفلام في وجه الزمن، وليبقى خالداً عبر السنين، فإنه يجب على صانعية تحري الدقة في التفاصيل، والصرامة في السرد، حتى لو أزعج ذلك أقارب وأهل الشخصية موضوع الفيلم
العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ