العدد 3540 - الأربعاء 16 مايو 2012م الموافق 25 جمادى الآخرة 1433هـ

ماذا لو كنا مكفوفِيْن؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أكتبُ اليوم عن فتاة متميِّزة. وكم كنتُ أتمنى أن تقرأ ما سأكتبه عنها، إلاَّ أنها لن تستطيع ذلك، والسبب، هو أنها مكفوفة البصر لا البصيرة. فتاة صغيرة، تنتسب إلى عائلة، تورَّثت من دسائس العِرق والنَّسَب، عاهات وإعاقات، ما بين مُكسَّح وأحنف الساق ومكفوف. يضاف على كل ذلك الابتلاء والعناء، فاقة وفقر عائلي قاتليْن، حرَمها العديد من الملذات، ورغيد العيش، الأمر الذي فاقم العوز لديها واخوتها، ما بين قصر اليد، وقلة في فعل الحواس أو بعضها. إنه فعلاً بلاء كبير.

أبَت هذه العائلة العفيفة، إلاَّ أن تكون كما الآخرين. لا يوقفها في ذلك لا نقص العافية ولا المال. إنهم يستطيعون؛ لأنهم يعتقدون بأنهم يستطيعون. هذا ما قاله الشاعر الروماني القديم، فرجيل. وقد أيقنت الأسرة مجتمعة ذلك القول، فبدأوا العمل متضامنين. سَخَّر الوالِدان، كامل طاقتيهما لهؤلاء الأبناء، الذين أتوا إلى الدنيا بحالهم الذي هُم عليه. صار الأب، ينفق كل قرش يحصل عليه نهاية شهر عمل كامل لرعاية أبنائه في المأكل والملبس، ويحرم نفسه من أجلهم. يصطحبهم إلى مدارسهم بنفسه عند كلّ ساعة غَدَاة. ويُلبي طلباتهم دون تردد أو تسويف.

الأم، تقوم بدور يوازي خمسة أضعاف ما تفعله أيّ أم أخرى. فهي تشاركهم الفعل العضلي، والعقلي المفقود، لكي تكتمل أفعالهم. تسهر على رعايتهِم في المنزل، منذ ساعة البُكور، حتى ساعة العَتمة. تطعمهم وتلبسهم عند كل مقام ومجلس. تتتبعهم خطوة خطوة، وتسهر عليهم، مذاكرة وتعليمًا وحنانًا بلا حدود، وحضورًا عند مدارسهم كلما طلبوا ذلك. إنها دورة هائلة من العمل اليومي الدؤوب، الذي لا يعرف الانهزام، ولا التراجع ولا الأفَف، أمام مسئولية جسيمة لا حد لها.

قرَّر الاخوة، أن يكونوا، بالدافع ذاته، لمواجهة حياتهِم بِجَلَدٍ خرافي، ومن ضمنهم أختهم. تخرجت البنت المكفوفة البصر، وذراعها شابكٌ بذراع أبيها كل صباح، يراوح ما بين المرفق إلى طرف الإصبع. تتبع آثاره حُذوَ القُذَّة بالقُذَّة؛ دون خمول أو كلل. وعندما يصل بها أبوها إلى المدرسة، يبدأ نشاطها العلمي، بجهده المضاعف، ممزوجًا بهالة إنسانية عظيمة الشأن. فالبنات الأخريات، ممن يُشاركنها مقاعد الدراسة، يتسابقن على خدمتها ومساعدتها، في حَمْل متاعها، والصعود معها إلى الفصل، ثم شراء الطعام لها عند الاستراحة الزمنية اليومية، ومجالستها ومفاكهتها؛ لكي لا تحس بالوحدة، وكأنهن من لحمها ودمها.

وفي الفصل، تشَنِّف البنت بسمعها دائمًا باتجاه صوت مُعلِّمتها، وأمامها آلة بريل، ذات النظام الكتابي الليلي الأبجدي. صعوبة التعلُّم، بهكذا حواس منقوصة، هي التي دفعت الفرنسي، لويس بريل لأن يبتكر مشكورًا مثل هذه الآلة الذكية، التي نفع بها خلقًا كثيرًا من المكفوفين في العالم منذ القرن التاسع عشر، والذين سيصل تعدادهم مع حلول العام 2020، إلى 75 مليون مكفوف. هذا التحدي، يعكس حجم المعاناة، التي يقع فيه المكفوف عادة. وأيضًا ما يحتاجه لاحقًا من متابعة مستمرة، من والديه أو أحدهما، عندما يرجع إلى البيت، وبطرق غير تقليدية.

أكثر الأشياء العجيبة عند هذه الفتاة المتميِّزة، هو ثغرها الباسم دائمًا. فرغم وضعها الأسري الصعب، وعدم قدرتها على تمثل الأشياء، ولا التعرف على حيِّزها، ولا صورها، فإنها قادرة على الابتسامة دائمًا. فهي تدرك، أن الابتسامة حبائل المودة، كما قال الرسول الكريم (ص)، وهي أيضًا كلمة طيبة من غير حروف كما قيل. لقد حازت هذه الفتاة المثابرة، على شِق من قول لقمان الحكيم: ليس غِنى كصحة ولا نعمة كطيب نفس، وهي بحق حازت على ذلك وأكثر.

لكلٍّ منا المجال أن يضع نفسه محل هذه البنت ومعاناتها وظروفها، مادام القياس على النفس، هو أقرب موارد العدل. فأيُّ قدرة على العيش بكفاف المتاح، تستطيع هذه الصغيرة أن تحيا به دون الشعور بالضعف أو الهوان. لو كان أحدنا فاقدا لبصره، ويعيش شَظَفَ العيش، وسط عائلة لا يعرف أحدٌ منها العافية، ماذا كان سيصنع؟ إنه تحدٍ قد لا يتحسسه إلاَّ مَنْ هو واقعٌ فيه، فالفعل، لا يوازيه الكلام ولا التنظير والتخيُّل، وكما قال السياسي البريطاني روبرت سيسل: غرام من الخبرة يوازي طنا من النظريات.

أكثر الأشياء الملفتة، في تجربة هذه البنت، أنها يجب أن تُقرَأ باعتبارها نموذجًا ومثالاً وقدوة. فالبشر، يفعلون كل شيء، إلاَّ أنهم وفي أحيان كثيرة، يحتاجون إلى دالَّة، بها يهتدون إلى سبيلهم المضيَّع. ثم يتفاجأون، أن تلك الدالَّة، موجودة لدى مَنْ يعتقدون بأنهم في منقصة في العلم والعمل، كما في حالة قابيل وهابيل (مع الفارق). «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (المائدة، آية رقم 31).

أيضًا، وقبل أن أضع نقطة الختام لهذا الحديث، فإن الضمير والأخلاق، تتطلب من الجميع، أفرادًا ومؤسسات اجتماعية ودولة، أن يكونوا مسئولين أمام هذه الفئة من الناس. فهؤلاء ليسوا زيادة على الوزن البشري، وإنما بهم، يرجع الناس إلى إنسانيتهم، التي عادة ما تحركها المشاعر المشتركة، حين تتحسس النفس، معاناة نظرائها. هذه هي الرسالة الأسمى ولا غيرها.

«تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً

وإذا افترقن تكسرت أفرادا»

الفارق بين الأغنياء والفقراء هو أن الفقراء يفعلون كل شيء بأيديهم، أما الأغنياء فيستأجرون من يؤدي لهم...

بتي سميث

مؤلفة أميركية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3540 - الأربعاء 16 مايو 2012م الموافق 25 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:57 م

      أستاذ

      ما رايك باتحاد البحرين مع السعودية انت مع او ضد ولماذا ؟

    • زائر 3 | 1:22 م

      دافن شي والطبيعة البشرية

      لوح لمناظر من الطبيعة رسمتها ريش الرسامين. وصور شعرية صورت مشاهد للانسانية. وقصص وروايات بعضها قرن الأسد بالعرين والسلطان والامير بالقصور. وبعضها الاخر صور قصور السلاطين الدائم.
      فهل مشكلة القصر في النظر أم تقصير من سكن القصر؟

    • زائر 2 | 4:06 ص

      ماذا لو كنا مكفوفِيْن؟هذه مقالة اقول مقالة فكيف اذا اصبح واقع وحقيقة ؟

      نطلب من الله العزيز الحكيم ان يمن على الجميع بالخير والعافية ،وهو ارحم الراحمين وهوارحم واعطف على عبادة من امهاتهم ،والله يشافي كل مريض وفقد البصر في هذه المحنة العصيبة انه على كل شىء قدير ،ويكشف هذه الغمة عن جميع المؤمنين والمؤمنات الهي آمين ، ونرجو من الله أن يعطف المؤمنين على بعضهم البعض ويكف عوزهم .
      وكما قال امير المؤمنين : " نعمتان مجهولتان الصحة والامان " وشكرا لكم

    • زائر 1 | 2:07 ص

      البصر و البصيرة

      ما اكثرهم ناقصي البصيرة , صدقني قليل من البصيرة يسمؤ بصلحبه.

اقرأ ايضاً