العدد 3556 - الجمعة 01 يونيو 2012م الموافق 11 رجب 1433هـ

إفطار اسطنبول وغداء بغداد وعشاء موسكو

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يومان «نوويَّان» قضاهما المفاوضون الغربيون والإيرانيون في سجال، داخل مبنى محصن في المنطقة الخضراء في «عاصمة الرشيد». ما سَبَق المحادثات من ظلال وتخمينات منذ ما بعد اجتماع اسطنبول، بانَ أثرها على أجوائها «البغداديَّة المستعِرة». جولات تبعتها جولات، واجتماعات تبعتها اجتماعات. جولات ثنائية وثلاثية ورباعية، ثم خلوات بين الحلفاء، وأخرى بين الوسطاء والمتخاصمين، ساعدت ألا يخرج الطرفان، بلا شيء.

في الساعة التاسعة، من مساء السابع والعشرين من مايو/ ايار، اختتمت الجولة الأخيرة، والتي تقرَّر فيها أن يجتمع الطرفان، بعد أسابيع في موسكو، فتعززت الجدية.

كل من سَمع المؤتمر الصحافي لكبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي، أدرك أنه يستخدم سياسة «إغراق ساحة الحدث بالتصريحات العامة والاختزالية»، لكتم صفقة ما قد تحصل قريباً. في السابق، كان الظاهر للمحللين أن جليلي، لا يمتلك تفويضا من حكومته ومن المرشد الأعلى إلاّ في الإفصاح عن الرفض، وفي أقصى الأحوال، التحفظ على العروض والطلبات، لكن المحادثات الأخيرة في بغداد، بيَّنت أنه يمتلك أكثر مما كان يُظَن. فالجولة الليلية الأخيرة، أكدت أنه يستطيع أن يتفاوض على ما هو أقل من الرفض، وأعلى من القبول، وفق المصالح الإيرانية.

لكن السؤال الأهم من بين كل ذلك، هو: ما الذي جعل الإيرانيين، يُقبلون على المفاوضات، وهم يُبيِّتون نية «إمكانية القبول بصفقة ما» والقدرة على تجاوز سقوفهم المتبدلة في الطلبات؟ كل مَنْ تابع الملف النووي الإيراني، منذ اشتداده في العام 2003 ولغاية اليوم، سيرى أن هذا الملف شهِد مساراً طردياً من المفاوضات. بمعنى، أن التعنت الإيراني، واكبه تعنت غربي. التعنت الإيراني، كان في التصعيد العلمي والعملي داخل برنامجهم النووي. والتعنت الغربي، كان بفرض عقوبات اقتصادية متوالية، كالقرار 1696 (أغسطس/ آب 2006) والقرار 1737 (ديسمبر/ كانون الأول 2006) والقرار 1747 (مارس/ آذار 2007) والقرار 1803 (مارس 2008). والقرار 1929 (يونيو/ حزيران 2010).

أمام هذيْن التعنتيْن يظهر أمرٌ ما. فالفارق هو في كيفية النزول من على سطحيْهِما عند التفاوض. فالإيرانيون، عندما سيقدمون تنازلاً، فإنهم سيقدمونه على أساس ما انتهوا إليه في برنامجهم النووي من خطوات على الأرض، وهو ما يتم الحديث عنه اليوم. بمعنى أنهم يتفاوضون مع الغرب على إيقاف تخصيب اليورانيوم، عند درجة العشرين في المئة. وهذا يعني، أنه لم يعد التحفظ قائماً على منشأة فردو، ولا على معمل طهران، أو مختبر أصفهان، أو منشأتي نتنز وأراك، أو التعليق الدائم للتخصيب، أو التعليق المؤقت للتخصيب، ولا على الوقوف عند التخصيب، بنسبة 3.5 في المئة، أو عن سلاسل أجهزة الطرد المركزي في المنشآت، وهي جميعها أمورٌ كان الغرب يطالب بتفكيكها، ووقف العمل بها طيلة سنوات التفاوض العشر الماضية.

فيما خص الجانب الغربي، فإن تنازلهم أمام التنازل الإيراني سيكون على مستوى العقوبات الأممية والعقوبات الأحادية، التي يفرضها الأوروبيون والأميركيون والكنديون والأستراليون، ومسائل الأمن الإقليمي. وهنا يجب الإشارة إلى خريطة إيران الاقتصادية والتجارية، لكي نفهم طبيعة الضغط الذي يواجه إيران نتيجة تلك العقوبات، وهل هو مؤثرٌ لدرجة الإعاقة، أم لدرجة الخنق، أم انه لا يعدو كونه سلوكاً دبلوماسياً رمزياً.

إيران هي ثاني دولة على مستوى العالم في مجال الاحتياطات النفطية والغاز الطبيعي، والأولى من حيث الاحتياطات الهيدروكاربونية. ومع حلول العام 2014، سيبلغ إنتاج إيران من الغاز الطبيعي مليارا و470 مليون متر مكعب، وهو ما يعني ضعف الإنتاج الحالي. كما أنها زادت من إنتاج المشتقات النفطية، بواقع مليون برميل، الأمر الذي جعلها تستغني عن الوارد الفنزويلي. وخلال العام الحالي 2012 هي ملزمة بعقود تصدير المنتجات النفطية، بواقع عشرة مليارات دولار، لكل من العراق وأفغانستان وباكستان وأرمينيا. أما في الإنتاج البتروكيماوي فهي تنتج الآن 54 مليون طن كل عام، تصدّرها لخمسين بلداً حول العالم. هذا وفقاً للأرقام الرسمية المعتمدة.

هنا، وأمام هذه الخريطة التجارية النفطية لطهران، يظهر لماذا لم يُصِر المفاوض الإيراني على مسألة العقوبات، أمام تنازله النووي خلال مفاوضات بغداد، بل وفي موضوع مبادلة الوقود النووي الجاهز، وعدم ربطه بالعقوبات الاقتصادية. بالتأكيد، فإن العقوبات لها دور مهم في الإضرار بمخزون العملة الصعبة والاستثمارات، وهي تقلل من سرعة الحركة التنموية العامة للدورة الاقتصادية، لكنها لم تستطع لحد الآن، أن تخنق الاقتصاد الإيراني، أو أن تجعله مشلولاً. لذلك، فالغرب عادةً ما يُلوِّح بالخيار العسكري، بين الفينة والأخرى، لتسريع أثر العقوبات على إيران، لكنه أيضاً يواجه محذور ارتفاع أسعار النفط، الناتج عن مسألة تسخين الملف الإيراني.

هنا، يظهر ما هو أبعد من مسألة العقوبات، وهي المتعلقة بموقعها بين القوى الدولية، وطريقة تشبيك مصالحها بمصالحهم. فإيران أصبحت ترى أن مسألة تأخيرها في تسوية إشكالاتها وخلافاتها مع الغرب، قد تجلب عليها المزيد من الأخطار غير المحسوبة، ومن ضمنها الخيار العسكري، الذي قد يشعله، أي خطأ غير محسوب، وغير متوقع. والأهم من كل ذلك، خوفها من مآل حضورها الإقليمي، الممتد من العراق حتى لبنان. فالوضع السوري غير مطمئن، وهو في طريقه نحو التعقيد والتأزم أكثر. ولأن الإيرانيين، لم ينجحوا في تليين موقف المعارضة السورية، وبالتحديد، «الإخوان المسلمين»، ومحاولة كسبهم تحسباً لسقوط نظام الأسد، فإنهم يحاولون جهدهم أن يبقى النظام السوري، ولو بحالة مختلفة عن وضعه السابق. المهم بالنسبة لديهم، أن يبقى حليفاً لهم، وممراً لنفوذهم، وأيضاً ورقة لديهم يستخدمونها في الصراعات.

في كل الأحوال، هذا المسعى لدى طهران، قد يكون المحدّد الذي ستستقر عليه محادثات موسكو القادمة. وربما كانت الفترة القصيرة، التي تقع ما بين اجتماع بغداد وموسكو لافتة جداً، وقد تصبح كفيلةً بفهم أن الأمور بين الطرفين باتت لا تحتاج إلاّ إلى مراسم توقيع ولو من تحت الطاولة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3556 - الجمعة 01 يونيو 2012م الموافق 11 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:54 ص

      اتفاق قريب

      هناك حديث عن تاريخ 29 يونيو سيوقع فيه اتفاق بين ايران والغرب

    • زائر 1 | 11:55 م

      تحليل

      مقال جميل جدا وتحليل منطقي عزيزي محمد

اقرأ ايضاً