العدد 1411 - الإثنين 17 يوليو 2006م الموافق 20 جمادى الآخرة 1427هـ

تكنولوجيا ضد إنسان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حرب التقويض المفتوحة التي تشنها حكومة إيهود أولمرت على غزة ولبنان تشبه كثيراً تلك الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق. فالحرب تقنية تعتمد على الغزو الجوي والضرب الصاروخي من بعيد... وتتجنب قدر الإمكان المواجهات البرية المباشرة.

إنها حرب تقنية بامتياز تقوم على معادلة التفوق الجوي لكسر المعادلة البشرية على الأرض. وهذا النوع من الحروب يعتبر جديداً نسبياً في الاستراتيجيات العسكرية، وبدأ التعامل به منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حين قررت الولايات المتحدة الانسحاب من فيتنام وجنوب شرقي آسيا.

بعد ذلك القرار دخلت التكنولوجيا على خط الحروب ولم تعد المواجهات تعتمد أساساً على الجيوش البرية وانما حلت مكانها الجيوش التقنية. في الحروب السابقة كانت القوات الجوية والصاروخية والمدفعية تشكل قوة نارية مساعدة تغطي هجوم القوة البرية أو تنظم عملية انسحابها في حال وجدت نفسها في موقع ضعيف عسكرياً.

الآن اختلفت تكتيكات الحروب وبدأ العالم يشهد تلك اللقطات التي تصور من بعيد هجمات صاروخية بعيدة المدى تطلقها الطائرات من مكان مجهول أو تنطلق من بوارج في عرض البحر أو قواعد إطلاق محصنة في مكان يصعب تحديده. فالحرب التكنولوجية المعاصرة هي أشبه بغرف سرية مجهزة بالآلات التي تتحكم بقواعد الصواريخ وتعطي التعليمات للطائرات والبوارج بالقصف من بعيد على أهداف مدنية في الغالب.

الحرب الحديثة هي أساساً تقع ضد المدنيين ولا تستهدف إلا في حالات قليلة المواقع العسكرية والقوات المرابطة على الحدود أو المنتشرة في الخنادق. فهذا النوع من الحروب يعتبر جديداً في كثافته وقوته النارية، وتفوقه التقني والجوي. فلم تعد الحروب تلك الموجات البشرية التي تقتحم الحصون وتستولي على التلال وتزحف برياً للاستيلاء على مواقع الخصم. كذلك لم يعد هدف الحروب السيطرة على الأرض وتوسيع رقعه الجيوش الجغرافية كدليل على الفوز.

هذه الحروب انتهت تقريباً في العام 1990 - 1991. آنذاك خاضت الولايات المتحدة حربها التكنولوجية الأولى ضد العراق مستهدفة مراكز القيادة ومواقع رئاسة الأركان والاتصالات في بغداد. فالحرب لم تبدأ في الكويت وضد القوات العراقية المنتشرة هناك. والقوات البرية الأميركية لم تزحف قبل تأكدها أنها نجحت في شل قدرات الجيش العراقي على التحرك. التكنولوجيا إذاً حلت مكان الإنسان. وبات العامل البشري هو الطرف المساعد للحرب التقنية.

هذه الحرب التي شاهدها العالم على محطات التلفزة والفضائيات تحولت إلى لعبة أطفال تتحكم بها مجموعة عسكرية تراقب النتائج التدميرية على شاشات الكمبيوتر. وبعد نجاح واشنطن في تحطيم العراق عن بعد وتدمير مرتكزاته الحيوية ومحطاته وجسوره ومدارسه ومستشفياته بذريعة أنها تشكل مواقع تدير المواجهة من خلف الخطوط تقدمت القوات البرية تحت غطاء نيران قوي أمنته لها الطائرات والبوارج والمدفعية ومنصات الصواريخ. وخلال أقل من مئة يوم انجزت الولايات المتحدة مهمتها ولم تخسر أكثر من مئة قتيل.

الأسلوب نفسه تكرر في حرب صربيا حين دخلت قوات بلغراد مقاطعة كوسوفو وأخذت بتهجير الناس. الإدارة الأميركية آنذاك لم ترسل قوات برية وانما اكتفت بالاغارة والقصف من بعيد وإرسال الصواريخ من البوارج ونجحت في طرد الجيش الصربي من كوسوفو بعد أن حطمت كل المرتكزات الحيوية ومراكز القيادة والجسور والمصانع والمؤسسات في العاصمة وجوارها.

الحرب الحديثة إذاً معركة تحطيم قدرات الخصم من بعيد وتدمير كل المؤسسات المدنية والعسكرية واللوجستية التي يعتمد عليها. فهذا النوع من الحروب موجه أساساً ضد الناس والأبرياء والاحياء المدنية والمرافق الحيوية التي تشكل مصدر رزق وعيش.

الأسلوب تكرر أيضاً في الحرب على أفغانستان في العام 2001، ثم تكرر مجدداً في حرب التقويض على العراق في العام 2003. فالولايات المتحدة دمرت الجيش العراقي وحطمت فرق الحرس الجمهوري (ثماني فرق) المدربة والمجهزة وصاحبة خبرات في القتال... قبل أن تحرك قواتها البرية إلى داخل بلاد الرافدين. كذلك لم تقتحم القوات الأميركية بغداد إلا بعد أن تأكدت من أن كل المجموعات المسلحة النظامية والميليشاوية قد انشلت ولم تعد تملك القدرة أو المواجهة أو التصدي للفرق الزاحفة إلى العاصمة.

إنها حرب تكنولوجية وموجهة أصلاً ضد المدنيين وكل المؤسسات التي ترفد الناس بالمياه والكهرباء. وهذا النوع من الحروب الحديثة لا يحتاج كثيراً إلى قوات برية تعتمد على العنصر البشري. فالطائرة الواحدة تعادل كما يقال في العلم العسكري المعاصر قدرة 2700 جندي على الأرض. ومن يملك الكثير من الطائرات يستطيع السيطرة على قوات المشاة. هذه الفلسفة الجديدة في الاستراتيجيات العسكرية قلبت موازين القوى وباتت الأقلية المنظمة التي تتحكم بآخر ابتكارات القتل عندها الأفضلية في تسجيل أكبر الخسائر في الخصم. وهذا ما نشاهده اليوم على شاشات التلفزة والفضائيات من غزة إلى لبنان.

حزب الله يملك قوة بشرية منظمة ومدربة وقادرة على انزال الخسائر بالعدو على الأرض. وهو يستطيع تكبيد «إسرائيل» ما يناسبها من إصابات في حال وقع التصادم المباشر أو المواجهة البرية على الأرض بين قوات المشاة ومجوعات حزب الله. وهذه الوقائع تعرفها «إسرائيل» جيداً وسبق أن اختبرتها وذاقت طعمها واضطرت بسببها إلى الانسحاب من لبنان في العام 2000.

الحرب القائمة الآن من غزة إلى لبنان اختلفت قوانينها ولعبتها وقواعدها، فضلاً عن شروطها السياسية الدولية والعربية والإقليمية. الحرب الجارية الآن من القطاع إلى هذا البلد الصغير المنكوب هي أميركية بامتياز تقودها «إسرائيل» نيابة عنها.

إنها حرب تكنولوجية موجهة ضد القرى لتفريغها من المدنيين وتعتمد فلسفة التحطيم الشامل لكل البنى والمؤسسات والمرتكزات والمرافق الحيوية. فالقصد منها شل الإرادة وتكسير عناصر القوة وتقطيع الاوصال وتفكيك كل الروابط التي تشد الناس إلى حزب الله حتى يصبح قوة معزولة ميدانياً على الأرض.

الرد التدميري والهمجي والحاقد الذي تشاهد أجزاء من صوره على شاشات التلفزة والفضائيات القصد منه ليس الإفراج عن جنديين وانما تحطيم إرادة المقاومة وسحق الدولة وتحويل لبنان إلى جمهورية غير قابلة للحياة. وهذا النوع من الحروب التكنولوجية اختلقته الولايات المتحدة بهدف الاذلال والتخويف والترهيب وقلب الطاولة على إرادة الناس من خلال استهداف كل المصادر المدنية التي لا يستغني عنها البشر في حياتهم اليومية.

هذا ما خططت له أميركا بالتناغم والتفاهم مع «إسرائيل». فالحرب لا تستهدف مواقع حزب الله ومراكزه العسكرية ومؤسساته فقط وانما تدمر كل لبنان وتحطم كل اللبنانيين أيضاً من الشمال إلى الجنوب ومن البقاع إلى بيروت.

إنها حرب دمار شامل ضد المدنيين وهي أميركية في أصلها وفصلها وجوهرها وشكلها. والقصد منها في النهاية توجيه رسالة واضحة إلى المنطقة وخصوصاً سورية وإيران. فالمسألة أكبر من لبنان. وما يحصل على الأرض أقوى بكثير من قدرات هذا البلد الصغير والمنكوب والمغلوب على أمره تحمله.

الحرب كما تظهر على شاشات التلفزة ضد الحجر والبشر. ولكن «إسرائيل» التي حطمت الحجر كما فعلت أميركا في أفغانستان والعراق ستصل في نهاية المطاف وبعد خراب الخراب إلى معادلة الأرض وهي أن تحطيم البنى التحتية مسألة سهلة في الحروب التكنولوجية المعاصرة بينما القدرة على تحطيم البنى البشرية مسألة صعبة وتحتاج إلى وقت طويل لا تستطيع تل أبيب تحمل نتائجه وعواقبه.

أميركا حطمت نظام طالبان وقوضت دولة العراق ودخلت قواتها البرية... إلا أن الناس، حتى هذه اللحظات، ابتكروا الكثير من الوسائل والأدوات للممانعة والمقاومة. إنها فعلاً حرب تكنولوجيا ضد المدنيين، ولكنها أيضاً حرب المدنيين ضد التكنولوجيا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1411 - الإثنين 17 يوليو 2006م الموافق 20 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً