العدد 1413 - الأربعاء 19 يوليو 2006م الموافق 22 جمادى الآخرة 1427هـ

«إسرائيل» وتغيير قواعد الحرب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في اليوم الثامن لحرب التقويض ضد لبنان دولة ومقاومة التي تنفذها الآلة العسكرية الإسرائيلية انتقلت حكومة إيهود أولمرت من سياسة تدمير البنى التحتية والمرتكزات الاقتصادية والمرافق الحيوية والمؤسسات المدنية التابعة إلى القطاع العام إلى سياسة تدمير الملكيات الفردية والشركات الصغيرة والمعامل والمحلات التجارية وتلك المرافق والمؤسسات والمرتكزات الاقتصادية التابعة إلى القطاع الخاص.

نوع جديد من الاعتداءات

الهجمات لم توفر أي مكان ومنطقة وطائفة. فالكل كما يبدو يشكل سلسلة أهداف مترابطة. وهذا الشيء الإضافي يؤكد من جديد خطورة حرب 2006. فهذا العدوان أكثر شناعة من كل الاعتداءات التي عرفها لبنان في تاريخه المعاصر.

كل الهجمات السابقة كانت تقتصر على منطقة أو حي أو مدينة أو دائرة حيوية. فالاعتداءات التي حصلت في العام 1968 - 1969 مثلاً اقتصرت على مطار بيروت الدولي واسطول طيران الشرق الأوسط وبعض المواقع والمخيمات الفلسطينية. كذلك جاءت اعتداءات 1970 و1972 و1973 و1974. فكل هذه المحطات الزمنية شهدت ضربات مركزة أو محدودة القصد منها إيذاء جهة وتحييد جهات أخرى. وكانت معظم تلك الهجمات تحصل في الجنوب ومناطق العرقوب والبقاع الغربي والفاكهاني في بيروت الغربية بهدف تهجير سكان قرى ومدن الحدود ودفعهم للنزوح إلى بيروت للضغط على الدولة ومطالبتها بالتعويضات وحماية الأرض والناس من العدوان.

استمر هذا النهج المركز في توجيه الضربات يصعد ويهبط بحسب الحاجات العسكرية لـ «إسرائيل» أو الضغوط عليها من الحدود اللبنانية. ولم تطور تل أبيب اعتداءاتها الإسرائيلية إلا بعد أن نجحت في اختراق القرى وإقامة علاقات سياسية مع جهات محلية.

في تلك الفترة أخذت تل أبيب تستفيد من الحروب الأهلية والإقليمية الدائرة في لبنان بدءاً من العام 1975. فـ «إسرائيل» آنذاك نجحت في نقل معركتها من الحدود إلى الداخل وفرضت نوعاً من الحصار على ما أطلق عليه سابقاً بـ «الشريط الحدودي». ومن خلال هذا الحزام الأمني أقامت تل أبيب منذ العام 1976 سلسلة بوابات على الحدود سمحت بموجبها للعائلات وبعض القرى بالتوجه إلى الأراضي المحتلة للعمل هناك بناء على بطاقات خاصة أعطيت للعمال، كذلك سمحت للعاملين الاستفادة من شراء البضائع والحاجات.

وظائف «الشريط الحدودي»

أسست فكرة «البوابات الطيبة» أول علاقة مدنية - تحتية مع سكان القرى وحاولت «إسرائيل» الاستفادة منها سياسياً واقتصادياً وتحويلها إلى نموذج خاص يمكن تطويره وتوسيعه مع الأيام. واستمر هذا الواقع المفروض بالقوة إلى حين دخول قوات الردع العربية التي تحولت إلى قوات سورية. ومنذ تلك الفترة التي بدأت في خريف العام 1976 دخل لبنان في إطار إقليمي ولم يعد بإمكان الدولة التحرك السياسي من دون أخذ تلك المستجدات في الاعتبار.

هذا التطور الداخلي شجع «إسرائيل» بغطاء أميركي إلى توسيع عمق «الشريط الحدودي» وأخذت بالدفع نحو التصادم المحلي واستغلال الفرصة بقصد احتلال الجنوب بذريعة رد الهجمات الفلسطينية وحماية الجليل من صواريخ «غراد» و«كاتيوشا». وتحت هذه الذريعة نفذت «إسرائيل» هجومها الواسع في مارس/ آذار 1978 واحتلت الجنوب وصولاً إلى حدود صيدا. وبدأت من هناك تؤسس «جمهورية» خاصة تابعة لها. فأقامت هيئات ومؤسسات ودربت عناصر محلية أو جنوداً فارين من الجيش اللبناني. ومن خلال هذه المجموعات العسكرية جهزت «إسرائيل» قوات خاصة أطلقت عليها «جيش لبنان الجنوبي». وكانت وظيفة هذا «الجيش» المختلق والمصطنع حماية الحدود الإسرائيلية من تسلل المجموعات الفلسطينية ومنع الفصائل المسلحة من القيام بعمليات فدائية ضد المستوطنات ودوريات العدو.

في ظل هذا الوضع استقر لبنان على توازن إقليمي ثنائي: سورية تمسك بالوضع الأمني - السياسي من شمال صيدا إلى طرابلس ومن البقاع إلى بيروت. و«إسرائيل» تسيطر على جنوب لبنان على شريط يبلغ عمقه 40 كلم. وشكل هذا التوازن الإقليمي نوعاً من «التسوية» المؤقتة. فالعدو لا يستطيع التقدم إلى العمق وسورية لا تستطيع عبور نهر الزهراني والانتشار على الحدود الدولية.

الانسحاب من سيناء

تأسس هذا الوضع على مجموعة متغيرات إقليمية ودولية أبرزها خروج مصر من معادلة الصراع العربي- الصهيوني بعد توقيع الرئيس أنور السادات اتفاقات «كامب ديفيد» التي قضت بالصلح مع «إسرائيل» مقابل انسحابها من سيناء المحتلة وفق جدول زمني ينتهي في ابريل/ نيسان 1982.

وقبل تنفيذ تل أبيب الخطوة الأخيرة من الانسحاب اغتيل السادات في أكتوبر/ تشرين الأول 1981 وتولى الرئيس حسني مبارك مقاليد الحكم. ولكن هذا التطور لم يعطل تنفيذ الاتفاقات الموقعة فانسحبت تل أبيب وفق جدول البرنامج بعد خلافات واحتجاجات إسرائيلية في ابريل 1982.

بعد أقل من شهرين على الانسحاب شبه النهائي من سيناء أقدمت تل أبيب على تطوير هجومها البري في لبنان في محاولة منها لكسر ذاك التوازن الثنائي الذي تأسس إقليمياً وبرعاية دولية.

العدوان الإسرائيلي الذي بدأ في يونيو/ حزيران 1982 كان يريد تعويض خسائر الانسحاب من سيناء وإسكات المعارضة الداخلية وتوجيه ضربة للبنى التحتية الفلسطينية وإخراج قيادة ياسر عرفات من بيروت، وهذا ما حصل.

اجتياح 1982 وما بعده

في العام 1982 وسعت «إسرائيل» دائرة نفوذها العسكري إلى بيروت وطردت المقاومة الفلسطينية وعزلت القوات السورية في مرتفعات المتن وعقدة المديرج - ظهر البيدر وصولاً إلى مدخل البقاع الغربي. ونجحت سورية في هذا المعنى في الحد من نتائج الغزو الإسرائيلي ومنعت انتشاره إلى البقاع وصولاً إلى المصنع (بوابة دمشق).

هذا التطور الميداني كسر اتفاق 1976 كذلك تجاوز حدود الليطاني وجدد تعارضه مع القرار الدولي .,,425 والأهم من كل هذه العناصر أنه أعطى سورية ذريعة للرد على إقدام «إسرائيل» على كسر التوازن الثنائي الإقليمي الذي تأسس في العام 1978.

منذ العام 1982 دخل لبنان كله محطة تاريخية جديدة اختلفت عناصرها التكوينية عن تلك التي تحكمت بساحته منذ العام 1968. فالظروف الإقليمية تغيرت بعد انسحاب مصر من المنظومة العربية ودخول إيران بعد ثورتها الإسلامية على خط الصراع العربي - الصهيوني. وإيران آنذاك كانت مشغولة في الحرب مع العراق إلا أنها أسهمت في تشكيل نواة قتالية مدربة وبالتعاون مع دمشق لكسر تلك الآلة الحربية التي اجتاحت لبنان.

صعود حزب الله

في هذا الفضاء الدولي - الإقليمي صعد اسم «حزب الله» وقاد المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال. آنذاك شاركت كل القوى المحلية في التخطيط والتنظيم والتدريب وتشكيل مجموعات عسكرية لضرب مواقع «إسرائيل» ومناطق انتشارها. وأدى صعود العمليات وخصوصاً تلك التي أنزلت في قوات المارينز وفرقة المظليين الفرنسية في بيروت إلى زعزعة المنظومة الدولية في لبنان. وكانت النتيجة انسحاب «القوات المتعددة الجنسية» الدولية من لبنان وتراجع «إسرائيل» من الشمال إلى الجنوب وعودة سورية إلى الجبل وبيروت.

وتحت وطأة الضربات بدأت «إسرائيل» تنسحب خطوة خطوة حتى استقرت في «الشريط الحدودي» وبعض المناطق التي سبق واحتلتها في العام 1978.

ومنذ العام 1986 وصاعداً تولى حزب الله قيادة المقاومة اللبنانية ودخل في عملية صراع مديد وأخذ يضغط على «إسرائيل» لتنفيذ القرار 425. وبدأت المعارك تشتد وكانت تل أبيب هي الخاسر الدائم سياسياً وعسكرياً. فالكل مع حزب الله وشرعيته وحقه في المقاومة. وشكل هذا التضامن نقطة مركزية قوية أعطت شرعية وطنية ودولية لكفاح الحزب. حتى دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ومجلس الأمن كانت ترى في المقاومة حقاً تاريخياً وشرعياً وأن «إسرائيل» دولة محتلة ومخالفة للقرارات الدولية.

الولايات المتحدة كانت الوحيدة في العالم تؤيد «إسرائيل» في احتلال جنوب لبنان. وحاولت مراراً تغطية هجماتها واعتداءاتها بذرائع شتى كما حصل في عدوان 1993. وكذلك كررت أميركا الأخطاء نفسها كما حصل في عدوان 1996.

تفاهم أبريل

شكل عدوان 1996 نقطة تحول جديدة جاءت لمصلحة حزب الله. فآنذاك ارتكبت «إسرائيل» مجزرة قانا ونهضت أوروبا وخصوصاً فرنسا للدفاع عن لبنان. ودخلت روسيا على الخط الدولي لتدعم التحرك الفرنسي. وفي ضوء هذه التحولات الدولية هبت المنطقة ودولها معلنة دعم لبنان. وبسبب هذا الضغط العالمي اضطرت الإدارة الأميركية الديمقراطية برئاسة بيل كلينتون إلى التدخل وقادت مفاوضات مع سورية وفرنسا وصاغت ما عُرف لاحقاً بتفاهم نيسان.

تفاهم ابريل 1976 يعتبر أهم إنجاز حققته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وبرعاية إقليمية ودولية. وأبرز نقطة نص عليها التفاهم كانت تلك الفقرة التي تحرِّم على «إسرائيل» ضرب المدنيين اللبنانيين. وشلت هذه الفقرة ذراع «إسرائيل» العسكرية. فهذه الدولة الصهيونية تعتمد أصلاً سياسة قتل المدنيين لإرهاب الناس وتخويف القرى والمدن وإرباك المقاومة. وحين وافقت على تلك الفقرة تكون قد انتزعت من جيشها نقطة قوة عسكرية لا يستطيع التخلي عنها في تلك المواجهات البرية أو الصدامات مع قوات حزب الله. فالمقاومة في هذا السياق أقوى وهي أكفأ في توجيه ضرباتها العسكرية ضد المواقع الثابتة أو الدوريات المتحركة داخل الأراضي اللبنانية.

بعد «تفاهم نيسان» بدأ العد التنازلي للاحتلال واكتشفت تل أبيب أنها خسرت جولة كبيرة ولابد أن تعترف بأنها فشلت في حربها ضد حزب الله. وهكذا أخذت تتراجع منذ العام 1996 وقررت بناءً على تلك الموازين التي تبلورت على الأرض الانسحاب من لبنان من جانب واحد في العام 2000 تاركة وراء تلك «الجمهورية» التي أسستها في العام 1976 كل المؤسسات والهيئات والمتعاملين والميليشيات والسجون والمواقع. فالكلفة السنوية للاحتلال (موازنة الشريط الحدودي) تجاوزت 50 مليون دولار إضافة إلى مساعدات ومعونات وتوظيفات ووظائف.

قواعد جديدة

في العام 2000 تخلت «إسرائيل» عن كل شيء تقريباً وهربت لأنها أدركت أن الموازين الدولية لم تعد تلعب لمصلحتها وأن القرار 425 يعطي شرعية للمقاومة وأن تفاهم 1996 قيّد حركتها ومنعها من الرد على العمليات العسكرية بقصف المدنيين وقتل الأبرياء وهدم الجسور والقرى ومحطات الكهرباء والمياه للضغط نفسياً وسياسياً على حزب الله.

قرار الانسحاب اتخذته «إسرائيل» بقصد تحرير نفسها سياسياً من تلك القيود الدولية التي نص عليها القرار 425 وفقرات تفاهم 1996. ولذلك وجدت في الانسحاب وسيلة للتهرب من الضغوط الدولية وضربات المقاومة. فالانسحاب عدل قواعد اللعبة وما كان ممنوعاً على «إسرائيل» من ارتكاب مجازر ضد المدنيين بات مسموحاً في حال عادت الحرب إلى الحدود. هذا جانب من المعادلة الجديدة. والجانب الآخر كشف الانسحاب دولياً القوات السورية في لبنان. وحين انسحبت سورية من لبنان في العام 2005 انكشف لبنان إقليمياً.

الانسحاب إذاً لم يكن يعني على الإطلاق أن «إسرائيل» تخلت عن عدوانها وأنها لن تكرر فعل الاعتداءات والتحطيم والتدمير والثأر والانتقام حين تأتي الفرصة واللحظة المناسبة. فمنذ اليوم الأول بدأت تخطط تل أبيب لمعاودة الاحتلال تحت ذرائع جديدة وغير مقيدة بقرار دولي (425) ولا بتفاهم يمنعها من قتل المدنيين (1996). فـ «إسرائيل» اعتبرت أن القرار سقط بانسحابها وأن منع قتل المدنيين لم يعد وارداً لديها لأنها نفذت التفاهم وانسحبت. وبات لبنان ساحة مكشوفة ومفتوحة من جديد للصراع الدولي والإقليمي.

الآن ومنذ ثمانية أيام عادت «إسرائيل» إلى نقطة البدء، فهي تحاول ترتيب أوضاعها في سياق توازنات دولية وإقليمية قريبة من تلك التي حصلت في العام 1976 أو في العام 1978. توازنات قريبة وليست بالضرورة مطابقة. فالظروف الدولية والعربية والإقليمية تغيّرت وهي تحاول الاستفادة من هذا الفراغ العام والصمت الدولي والغياب العربي لتقويض لبنان دولة ومقاومة... وإنشاء ذاك الشريط الأمني على حدودها الدولية أو (ربما) توسيع دائرة الحرب إلى مناطق أبعد.

حتى الآن لم تكشف «إسرائيل» كل أوراقها، ولم تعلن بوضوح عن أهدافها. ولكنها كما يبدو تتصرف كما تشاء مستفيدة من سقوط السقف الدولي (القرار 425) وتلاشي «تفاهم نيسان». وهذا يعني أنها تريد تطوير حربها النظامية ضد حزب الله مستخدمة تفوقها الجوي والصاروخي قدر الإمكان لدك كل تلك المؤسسات والمرتكزات والمرافق الحيوية الاقتصادية والمدنية التابعة للقطاعين العام والخاص.

هذه الحرب المفتوحة تؤكد أنها لم تكن ردة فعل فورية على عملية دفاعية نوعية نفذها حزب الله في 12 يوليو/ تموز الجاري. فهذا النوع من التدمير المنهجي والمبرمج لا يمكن أن يكون نتيجة تخطيط جرى إعداده خلال ثلاث ساعات بعد الإعلان رسمياً عن العملية النوعية. فهذا السيناريو رسمته «إسرائيل» بعد الانسحاب وخططت لاستدراج لبنان إلى حرب نظامية لا يستطيع النفاذ منها إلا بعد تحطيمه وتفكيكه انتقاماً من هزيمة العام 2000.

ما يحصل في لبنان عمل عسكري من العيار الثقيل وهو يقع في إطار استراتيجية أميركية كبرى تعتمد منهج التقويض تمهيداً لنشر «الفوضى البناءة» وما ينتج عنها لاحقاً من سياسات تبرر تلك الفكرة التي طرحت بعد سقوط بغداد في العام 2003، وتقول: إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1413 - الأربعاء 19 يوليو 2006م الموافق 22 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً