العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ

لبنان و«الفوضى البناءة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل دخل لبنان دائرة «الفوضى البناءة» على غرار ما حدث في أفغانستان في العام 2001 والعراق في العام 2003؟ سياسة «الفوضى البناءة» بحسب توصيف الإدارة الأميركية لاستراتيجية التقويض تبدو الآن هي المنتصر الأول في المعارك الجارية بين حزب الله والعدو الصهيوني.

ما هي فلسفة «الفوضى البناءة» الأميركية؟ تقوم الفكرة على ثلاثة أبعاد. أولاً تقويض الدولة وتحطيم بناها ومرتكزاتها الاقتصادية ومواردها ومصادرها وفق أسلوب منهجي ومبرمج ينتهي بتفكيك عناصرها التوحيدية وبعثرتها إلى مراكز قوى متنافرة. ثانياً تشكيل حكومة ضعيفة برئاسة العلاوي أو الجعفري أو المالكي مثلاً وتكون وظيفتها الاشراف على ترتيب العلاقات بين المجموعات الأهلية والقيام بمهمات إغاثة وضمان أمن بعض المراكز الرسمية الحساسة. ثالثاً الدفع باتجاه تفريق الشمل من خلال الفرز السكاني (الطائفي/ المذهبي) وتوزيع السلطة على مناطق يحكمها «أمراء حرب» يديرون شئون ديرتهم ويصرفون أعمال إدارتهم ضمن ضوابط محكومة بحاجات ضيقة ومحلية.

هذه الحال العراقية (النموذج الأميركي للشرق الأوسط الجديد) يرجح أن تسود لبنان إلى فترة لا يستبعد أن تكون طويلة. فالدولة في هذا البلد الصغير هي أصلاً ضعيفة وتقوم على فكرة تعايش طائفي زئبقي تحكمه منظومة علاقات أهلية قلقة ومتوترة. فالدولة ضعيفة في تركيبها وتكوينها التاريخي وهي لم تتحول حتى لحظة العدوان الإسرائيلي الأخير إلى فكرة جامعة (هوية وطنية) بينما الطائفة في هذا البلد قوية وتتمتع بمواصفات سياسية وتمثيلية وتملك مؤسسات مستقلة وقانوناً خاصاً للأحوال الشخصية يعطيها ميزة الاستقلال والاستغناء عن الطوائف الأخرى والتفرد بالقرار.

حين اتخذت الإدارة الأميركية قرار تحطيم لبنان ونقل نظرية «الفوضى البناءة» إلى دياره كانت على علم ودراية بمدى ضعف الدولة فيه وقوة الطوائف. فالطوائف تاريخياً أقدم من الدولة وأعرق وتملك كل واحدة منها خصائص ثقافية تميزها في السلوك واللهجة ورؤية الواقع والنظر إلى العالم والمحيط. فهذا الاختلاف أقوى من التجانس النظري (فرضية غير موجودة في الواقع) والتعايش مجرد فولكلور شعبي راقص غير مستقر على نغمات وطنية مشتركة.

هذا الواقع المفكك تدركه الولايات المتحدة. وفي ضوء معلوماتها قررت تقويض الدولة (الحديثة العهد) ونشر سياسة «الفوضى البناءة» التي تعطيها أفضلية في إدارة الصراع من خلال الضغط الخارجي على حكومة غير قادرة على مدِّ نفوذها إلى مناطق يسيطر عليها «أمراء حرب» أو زعماء طوائف أو قادة ميليشيات.

أميركا إذاً خططت لهذه الحرب على لبنان منذ فترة طويلة وتلاقت مصالحها في هذا الشأن مع «إسرائيل». فتل أبيب تريد الانتقام والثأر من بلد اكتسب مناعة وتجاوز في محنه الطويلة «عقدة النقص» من الصهيونية و«الجيش الذي لا يقهر».

هذا جانب من الصورة. الصورة الأخرى تتمثل في مخاوف «إسرائيل» من نمو بيروت وعودتها إلى استعادة دورها الإقليمي كمدينة واعدة في شرق المتوسط. فالعاصمة اللبنانية تشكل تقليدياً المنافس الجغرافي لتل أبيب وهي في حال أعطيت فرصة يمكن أن تتحول إلى مركز يجذب المال العربي وتقوم بدور خاص في تطوير نظام الخدمات والعلاقات والسياحة والتبادل التجاري.

تحطيم بيروت بهذا الشكل يدل على وجود رغبة إسرائيلية جامحة في تعطيل موقع لبنان ومكانه ووظيفته. فتل أبيب لا تخاف من «دولة» لبنان فهي تعرف مقدار ضعفها وعدم قدرتها على تشكيل هوية جامعة لكنها تخاف من دور لبنان وموقعه ومكانه ووظيفته لذلك قررت استغلال الظرف وتوجيه تلك الضربات الجوية والصاروخية القاتلة لإلغاء كل احتمالات المنافسة والتزاحم في المستقبل.

دول «الشرق الأوسط»

حال الدولة في لبنان ليست استثنائية. فمعظم الدول في «الشرق الأوسط» مشابه في تكوينها وتركيبها للحال اللبنانية والفارق هو النسيج الاجتماعي الذي تتألف طبقاتها وأبنيتها منه. والولايات المتحدة حين اعتمدت استراتيجية التقويض كانت تدرك هذا الأمر. فهي على علم مسبق بالنتائج وتعرف أن مآل الدولة بعد تلاشيها سيدفع إلى مكانها تلك الفيسفساء (الكوكتيل) الذي يتألف منه المجتمع وستنتشر بسببها تلك الفلسفة الشريرة (الفوضى البناءة).

الدول في هذا العالم الممتد حديثة العهد وجديدة في تكوينها الاجتماعي والمؤسساتي. فهي أقرب إلى الأبنية الاسمنتية وتتألف من هيئات وإدارات وجسور وأنفاق وموانئ ومطارات. فالهيكل التنظيمي للدولة المعاصرة في هذه المساحة الجغرافية تم تركيبه منذ عقود قليلة وهي لا تتمتع ببعد تاريخي ولا تملك مؤسسات ضاربة جذورها في عمق المجتمع كما هو حال الدولة في أوروبا التي مضى على تشكيلها الحديث أكثر من 500 سنة.

الدولة في لبنان ضعيفة ويكفي أن تحطم أبنيتها الاسمنتية وجسورها وأنفاقها وتلك الهيئات التي تدير الموانئ والمطارات حتى تقوض وتصاب مؤسساتها بالشلل وتتعطل وظيفتها ودورها وموقعها.

وحال الدولة في لبنان هي كحال معظم تلك الدول في «الشرق الأوسط». في أفغانستان مثلاً فكرة الدولة وعمرها وتاريخها حديثة العهد أيضاً بينما القبائل العرقية أو الاعراق القبلية تتمتع بعمق تاريخي وجذور اجتماعية ضاربة في الهيكلية العامة وهي تشكل مركز الثقل. وهذا ما يفسر صمود قبيلة البشتون في أفغانستان واضمحلال الدولة وتشكيل حكومة ضعيفة برئاسة قرضاي بعد الغزو الأميركي لهذا البلد الجبلي المعقد في تضاريسه الطبيعية والاجتماعية.

الأمر نفسه يمكن تطبيقه كنموذج آخر على العراق. فالدولة الحديثة في بلاد الرافدين تأسست في العام 1920 وعليها تتابعت الأسر وتوالت الانقلابات إلى أن استقرت الدولة في دائرة التكريتي. وحين قررت واشنطن تقويض الدولة ضربت أبنيتها الاسمنتية لأنها كانت تدرك ضعف مرتكزاتها الاجتماعية والتاريخية. وبعد تقويض الدولة انتشرت «الفوضى البناءة» وأخذت بضرب النسيج الأهلي للمناطق والطوائف والمذاهب وصولاً إلى حال انفلات أمني خططت له إدارة شريرة قابعة في «البيت الأبيض».

ما حصل في لبنان يشبه تلك الحال التي حصلت في أفغانستان وليس بعيداً جداً عن «النموذج الأميركي» الذي أسسته الولايات المتحدة في بلاد الرافدين. بلاد ما بين النهرين تحولت إلى مقاطعات يحكمها «أمراء حرب» وزعماء طوائف وقادة ميليشيات لا يكترثون جداً بعودة الدولة ولا يقدرون أهمية الدولة التاريخية ودورها المطلوب في حفظ التوازن الاجتماعي وضبط «التعايش» ضمن الحد الأدنى من الخسائر. فالطائفة في العراق أقوى وأقدم من «الدولة» كذلك القبيلة في أفغانستان.

«إسرائيل» في حربها على لبنان التي امتدت حتى الآن عشرة أيام حققت أهدافها الخاصة ومشروع أميركا التقويضي وبدأت بدعم من واشنطن في نشر سياسة «الفوضى البناءة». وفلسفة هذه السياسة تقوم على خطوات ثلاث: تقويض الدولة، تشكيل حكومة ضعيفة، وتأسيس مقاطعات يديرها ولاة أو أمراء حرب أو زعماء ميليشيات ضمن منطق تتحكم فيه شروط المنطقة (الطائفية أو المذهبية).

«إسرائيل» وبغض النظر عن وقف إطلاق النار غداً أو بعد أسبوع أو بعد شهر أنجزت مهمة أميركية بامتياز... وبقي عليها لاحقاً أن تدخل في مفاوضات لإطلاق سراح الجنديين

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً