العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ

علاقة الدين والدولة في نظرية ابن خلدون

تواصل «الوسط» نشر فصول مختارة من مقدمة ابن خلدون بمناسبة مرور 600 سنة على رحيله. وفي مقال اليوم يتحدث الفيلسوف المؤرخ عن دور الدين في توحيد العصبية وزيادة منعة الدولة وقوتها، كذلك يتحدث عن حاجة الدين (الدعوة) إلى عصبية (شوكة) تمانع وتدافع عن صاحب الدعوة. ومن لا يملك عصبية تحمل الفكرة تذهب الدعوة أدراج الرياح.

عبدالرحمن بن خلدون

أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها. والسبب في ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق. فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم، وهم مستميتون عليه. وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم. وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل.

وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات. فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعة وثلاثين ألفاً في كل معسكر وجموع فارس مئة وعشرون ألفاً بالقادسية. وجموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمئة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم. واعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة. ودولة الموحدين كان فقد بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة فلم يقف لهم شيء. واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها من دون زيادة الدين، فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة.

واعتبر هذا في (دولة) الموحدين مع زناتة لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشاً. وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة أولاً واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم. فلما خلوا من تلك الصبغة الدينية انتفضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم والله غالب على أمره.

الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم

وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلابد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قوة. وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية. وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب «خلع النعلين» في التصوف. ثار بالأندلس داعيا إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين. ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن أركش وأمكنهم من ثغره، وكان أول داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته ثورة المرابطين. ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه.

والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال (ص) «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر. وهكذا كان حال الانبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لوشاء لكنّه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم.

فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك. وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه واعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين. ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأول ابتداء هذا النزعة في الملة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضا من آل الحسين فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه. وبويع ابراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد وانطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم.

وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل ابن سلامة الانصاري ويكنى أبا حاتم وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه (ص) فاتبعه الناس كافة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان وطاف ببغداد ومنه كل من أخاف المارة ومنع الخفارة لأولئك الشطار. وقال له خالد الدريوس أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان وذلك سنة إحدى ومئتين وجهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه. ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق لا يعرفون ما يحتاجون اليه في إقامته من العصبية ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن احدثوا هرجاً وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصفاعين. وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي ولا ما هو أكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية. فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يأملونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع اليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم.

وقد كان لأول هذه المئة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته. فتهافتت عليه طوائف من عموم البربر تهافت الفراش ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدس اليه كبير المصامدة يومئذ عمر اسكسوي من قتله في فراشه. وكذلك خرج في غماره أيضاً لأول هذه المئة رجل يعرف بالعباس وادعى مثل هذه الدعوة واتبع نعيقه الارذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة، ثم قتل لأربعين يوماً من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأولين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها وأما إن كان التلبيس فأحرى ألا يتم له أمر وأن ينوء بإثمه وذلك جزاء الظالمين. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.

المقال مأخوذ من الفصلين الخامس والسادس من «المقدمة»

العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً