العدد 3570 - الجمعة 15 يونيو 2012م الموافق 25 رجب 1433هـ

النص... الأصدقاء... المقهى... رؤية أخرى

لا يأوي أحدنا إلى مكان ما لم يكن استحوذ على زاوية، معنى، قيمة، حدث، وقت، وجوه. نحن أرواح الأمكنة. روحنا جزء منها أيضاً. تكون للأمكنة أرواح أكثر حضوراً وتوقّداً حين تشغر بالأصدقاء الذين تحب. وإذا كنت ممن أنعم عليهم الوقت بداء الكتابة أو عافيتها سمّها ما شئت، نصك هو الآخر؛ وخصوصاً ذلك الذي يتحدد شيء من ملامحه في أمكنة اعتدت ارتيادها؛ يكتسب روحاً أخرى. يمسسه شيء من تفاصيل المكان والأصدقاء.

المقهى بأشكاله وقيمه ومضامينه الجديدة والمتحولة؛ تحول القيم المعرفية والوسائط أصبح محط إعادة تناول ورؤية. النص هو الآخر في الأمكنة تلك ليس ما قبله. الأصدقاء في اللب من كل ذلك. ثمة من تحملهم إليك المقاهي، ثمة من يحملون المقاهي إليك. هنا محاولة استجواب أو استدراج يتناول أضلاعاً ثلاثة فيما يرمي إليه.

القاص والروائي والفوتوغرافي حسين المحروس، يذهب في تناول مثلث هذه الإضاءة من الاستجواب الحميم: الأصدقاء... النص... المقهى، بتناول يشبهه. ألاَّ يسطّح المفاهيم أن يدخل فيما بعدها. لكل منهم أرضه وسماؤه أيضاً...

حسين المحروس:

كتبت‭ ‬مرّة: ‬القهوة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬سرير،‭ ‬وفي‭ ‬المقهى‭ ‬كلام. ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬المقهى‭ ‬بدون‭ ‬الناس والأصدقاء.‬ أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬الناس لا‭‬ يشبه‭ ‬ذلك‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬قدّر‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تكتبه‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬ذاته‭ ‬فهو‭ ‬ذهاب‭ ‬إلى‭ ‬النفس‭ ‬وحدها‭ ‬لا‭ ‬شريك‭ ‬لها.‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬غياب‭ ‬الناس‭ ‬أيضاً؛‭ ‬لكن‭ ‬حضورهم‭ ‬سيختلف‭ ‬عن‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬المقهى.‬ هو‭ ‬حضور‭ ‬وفق‭ ‬مزاج‭ ‬النص‭ ‬الرائق،‭ ‬لعبة‭ ‬المجازات،‭ ‬حضور‭ ‬العقل،‭ ‬حركة‭ ‬القلب،‭ ‬ولياقة‭ ‬اللغة.‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬لكتابة‭ ‬نص‭ ‬بأي‭ ‬معنى؟‭ ‬الإعداد‭ ‬له،‭ ‬مسوداته‭ ‬الأولى‭ ‬أم‭ ‬كتابته؟‭ ‬أجزم‭ - ‬عن‭ ‬تجربة‭- ‬ أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬ممك. ‬
الذهاب إلى المقهى للكتابة لا يعني التقليد، فطقس الكتابة لا يمكن استعارته أو محاكاته. ولا تعني انحصار كتابة النص فيه إن غادرته غادرك النص وغدر بك. فالكتابة ليست من المكان وحده لكنها من القلب حين يفكر ومن العقل حين يحس به. لكن سيتخذ المقهى مكانة ما عند الكاتب بحسب ما كتب فيه. عندها يكون جزءاً مهماً من سيرة النص. طاولتي في مقهى كوستا لا أنساها. منها أطل على الناس والأصدقاء والنص. لا أقلل من شأن واحد منهم ولا أقوى على تعريفه: المقهى، الناس، الأصدقاء. يزيدون ينقصون يغيبون يصمتون يشتعلون يغضبون يسرحون.. هذا حالهم على طبقاتهم.
المقهى هو كل ذلك والقهوة فيه من كلام. أما النص فهو الشخص منفرداً. ساعة الكتابة ينفصل عن كل ذلك وعن مكانه كله. يبقى الشخص ونصه.. يبقى وعمله صديقاً يغلق نفسه عليه. لا شيء منهم، لا شيء منه. النص خلوة.

الشاعرة ليلى السيد، تذهب إلى الكتابة هنا عبر تلمّسهاً لعفوية الشعر. أن تصف الأشياء والحالات بعفوية فذلك يعني أنه لم يمسسك زيغ استجواب هنا أو تقرير هناك. المقاهي الأصدقاء .. النصوص تتجاوز أمكنتها المحصورة إلى السفر... في السفر مقهى آخر أيضاً.. أصدقاء ونصوص. تقرر أو أزعم أنها كذلك: "الكثير من الشعر اشتعل وانتهى تكوينه في المقاهي". ماذا عن الأصدقاء؟


ليلى السيد:

بين مقهى ومقهى متر أو متران من الشعر ومن الصداقة ... من الطريف أن يضع الأصدقاء خريطة للمقاهي عبر بوابتي؛ لمعرفتهم بمدى حبي وتوحدي بمكان المقهى. فقد جاء بداية كمرحلة أولى للوحدة بالذات والكتابة والقراءة، من منطلق أن البيت هو حاضنة الأمومة والأطفال يكرهون انشغال الأم عنهم، في حين ارتباط الأب بالمكتب يشكل حالة اعتيادية لديهم.

بدأ يتشكل محيط المقهى ونوعه في تحديد النشاط الأدبي الملتحق به.. فمثلاً لا تقرأ الرواية إلا عبر طقس احتفالي عبر مقهى قبالة البحر ويجوز الكتابة الشعرية في بعض حالتها.

أما كتابة المقال والنقد والقراءة أيضاً فهي تقتضي هدوءاً أكبر وبالتالي هي المقاهي غير المزدحمة والأنيقة.

الكثير يستغرب كيف يتولد الشعر في حلق الأصوات والضجيج، لكني حقاً أقول لهم إن هذه الأصوات لا تصل لأذني لأنها ببساطة لا تعنيني، وبالتالي أنا منفصلة عنها.

الكثير من الشعر اشتعل وانتهى تكوينه في المقاهي.

هذا في المرحلة الأولى من التعامل مع المقهى.

أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة الكوستا داخل البحرين وتكوين لحمة مع الأصدقاء السابقين كأصدقاء هم شعري أو تربوي، أو حياتي ...

شكلت اللقاءات الدائمة والمستمرة غربلة للكثير من المفاهيم الحياتية حتى عن الأشخاص ذاتهم، وكذلك تغني الروح بالابتسامة مرة، وبالحزن أخرى ، وبالتنوع مرات عديدة.

المرحلة الثالثة ولو شئنا تقسيمها كمحطة ثالثة هي المقهى والسفر. فقد شكل القانون الأول والعنوان الرئيس لي عبر سفراتي للدول العربية والأجنبية من أجل الالتقاء بالأصدقاء أو المعارف.

على سبيل الطرفة كان مقهى الروضة بدمشق ملتقى الغرباء من الشعراء والأدباء العرب فإن أردت أن تسأل عن أديب غادر أو لم يغادر دمشق فما عليك سوى أن تسأل إحدى الشخصيات عنه. وقد تتصادف بمن لم تره منذ سنوات يجمعكما هذا المقهى.

لكل مقهى في كل بلد حكايته معي وأسراره وطقوسه.

الكاتب والصحافي علي القميش يذهب به إلى أبعد من ذلك. يعرّج على الأصدقاء عروج من لا يحتاج إلى أن يطنب في الكتابة عنهم إنهم يكتبونه يكتبهم حضرت المقاهي أم غابت. يذهب إلى أبعد من ذلك في محاولة التلصّص على الذين يرتادونها. في الهامش والهامس من الكلام الذي تبني أو تؤسس عليه كتابة.

علي القميش:

المقهى، أصبح بالنسبة لي أكثر من مجرد كوب قهوة وكتاب، المقهى على ما هو عليه الآن أصبح ذلك النص صاحب النهايات المفتوحة، ليشكل سيرة الكلام، التي تكتب وتحلل. أحداث ووقائع وتاريخ. تختبر وتُعمل مشارط النقد في خطابات وجُمل نسقية اجتماعية وسياسية آنية ومباشرة. المقهى صار أشبه بتلك الجامعة المفتوحة، على الأقل بالنسبة لي. سأتحدث عن «كوستا كونتري مول» بوصفي أحد مرتاديه؛ إذ يكفيك أن تسترق السمع على طاولة مجاورة، لتشحذ ملكة التلقي على جملة الأسئلة التي تطرح بنحو مغامر ومراوغ ومغاير في آن معاً، حول الأحداث والوقائع السياسية و حتى الاجتماعية، لتكتشف فيما بعد بأن مثير تلك الأسئلة محام وآخر أستاذ جامعي، صحافي، اقتصادي وصاحب أعمال حرة، ناشط حقوقي، متدين مدع في مقابل ليبرالي متعصب، أديب وفنان تشكيلي أو مصور، موظف وصولاً إلى الشخص الجالس على طرف الطاولة «طالب جامعي».

الكل يجد في ملتقى المقهى هذا فرصة للنبش والبحث والتأسيس لنوع خاص جداً من القراءة والتلقي، فرصة يتجاوزون فيها فعل التلقي البليد للقنوات التنظيرية سواء كانت ممثلة في أفراد ساسة أو مؤسسات رسمية أو سياسية، لأنهم يجدون فيها تمثيلاً لخطابات غير بريئة بطبعها، أو على الأقل غير محايدة. المقهى كما أقرأه الآن، أصبح بمثابة مختبر حقيقي للبحث في مفاصل المعرفة، معرفة العالم على حقيقته مع التسليم بأن تلك الحقيقة متعددة، بتعدد المشارب الفكرية والثقافية، بعمقها وسطحيتها وبساطتها وصولاً إلى تلك الحقيقة الساذجة حد الرثاء. فإذا كان الديني يرى بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن اليساري الجالس على الطاولة ذاتها يرى بأن المعرفة تكمن في التفاصيل، لتهتز قناعة ما هنا وأخرى هناك، والطريف في الأمر بأن كثيراً من دوائر الخطابات المتمترسة بعباءة أيديولوجية ما، بدأت الشك في العمق الذي كانت تنطلق منه، ليتشكل بذلك وعي آخر مختلف، وبمعنى مجاوز وعي متصل منفصل، وقد يصل لفعل الانفصال بشكل ما. مقهى أصبح كل مرتاديه مصابين بلعنة الشك. الشك الذي هو بالنسبة لي أول شرارات حضور السؤال الحقيقي المأخوذ بصرامة تقصد الحقيقة التي لا تعرف سوى النهايات المفتوحة. من المواقف الطريفة والمسلية، التي أفرزتها تلك المنتديات ودوائر النقاش المتناثرة في «كوستا كونتري مول» أن نقد الذات أصبح مبتدأ بنية الشك، وزعزعة منطق التسليم الذي تعاني منه كثير من الخطابات، حتى التقدمي منها، ليتأخر بعد أن كشفت التجربة عن رجعية ممارساته واستاتيكية الشعارات التي طالما تجمل بها، ليتقدم ويتأخر في آن خطاب آخر كنا نزعم يقيناً بأنه يكرس كل صنوف الرجعية، لتتشكل خطابات انفصالية محايدة، تعطي لهذه الحياة معناها الجديد.

الفنان التشكيلي، حامد البوسطة، يرى في المقهى خروجاً على الأمكنة النمطية، وحتى الأنشطة التي باتت مكرورة ومستنسخة من دون أدنى فرصة لإغواء الذين اعتزلوا تلك الأنشطة والأمكنة كي يحضروها ويكونوا جزءاً من سماتها.

حامد البوسطة:

قبل المقهى كان محيط تجوالنا محصوراً بين ثلاثة أماكن (مرسم/ جمعية/ غاليري/ متحف) مع الوجوه والأفكار والنقاشات والأطروحات نفسها، فكان الحيز ضيقاً جداً؛ إذ إن النتاج يقتصر على عالم التشكيل فقط ولا صلة أخرى بالعوالم الأخرى التي تسبح في كنف الثقافة الإنسانية وبالكاد تكون زيارة خاطفة ومتواضعة لمسرحية أو أمسية أو غيرها. بعد المقهى تغير الوضع؛ إذ أصبحت النظرة أكثر شمولية وأكثر إثراء وثقافة لأن المقهى هو المكان الذي يخلع فيه كل مثقف عباءته الرسمية ويجلس بكل أريحيته يحتسي قهوته على طاولة تجمع التشكيلي والموسيقي والمسرحي والشاعر والكاتب والطبيب والمهندس والعامل وغيرهم. إن لوجود هؤلاء وغيرهم في خريطة الأمكنة أثر إيجابي في طرح المشاريع المستقبلية لدى أي مثقف أو مشتغل بالثقافة.

الشاعر الإماراتي عبدالله السبب، يشعْرن هذه العلاقة، ربما يمنحها ذلك النَفَسَ الرؤيوي. أن يُدخل المكان الخاص (المقهى) ضمن الدائرة الكونية الأوسع للمكان، بما تضمّه تلك الدائرة من بشر وتفاصيل ومشروعات وأحلام أيضاً.

عبدالله السبب:

المقهى كائن محرّض على فلسفة الاكتشاف، ودافع فاعل لصوغ نص لا تتخيل طبيعته ولا تفترض عمره الزمني الذي ينبغي.

المقهى بناء خارج قوانين الأبنية الأسمنتية أو مقاهي التراث .. هو فوق شيئية التخيل أو التوقع.

المقهى تجاوز في تفسيراته معنى المكان أو الزمان؛ أو هو كائن زئبقي بالمعنى الذي لا يتيح لك فرصة تأطيره في بيئة الأرض؛ بل يتجاوز في تأويله حدود الجغرافيا إلى أبعد منها، إلى ما هو فضائي وإلكتروني بحت بامتياز.

المقهى هو المقهى .. بصوره وتجلياته وذاكرته التي تحيلني إلى (مقهى الصمت) الذي تأسس من تلقاء سجيته ونفسه المغرمة بالود، وتأسس من تلقاء أنفاس الأصدقاء الذين كانوا أخذوا بالتوافد عليه تباعاً، ابتداءً من العام 1989؛ إذ بيتنا الكائن الاجتماعي والكائن في (الرمْس) النبيلة في رأس خيمة الإمارات العربية المتحدة.

ففي تلك الحقبة الزمنية، وفي تلك الرقعة الجغرافية، كانت (جماعة الشحاتين الأدبية) التي أخذت تشمّر عن أقلامها وتغرّد خارج سرب الرتابة الكتابية والإبداع الماضي عبر قنواته القديمة. وفي ذلك المناخ الزمني، وفي تلك الجغرافيا الثاقبة، كانت أرضية التكوين الطرية التي تخصبت بالرغبة الجامحة لتأسيس جيل أدبي يرمي بشباكه في بحار المستقبل الذي صرناه الآن. المقهى هو المقهى .. بمرتاديه، وبمروجيه، وبقهوته الزمنية والمزمنة والجاذبة لوفود ترفده بالحكايات والأساطير، وتصد عنه أعاصير الفوضى والفضفضة الفارغة من كل ما هو يسيء إلى طمأنينته وهدوء أعصابه. المقهى هو المقهى، ونحن هم نحن، والنص هو النص .. وتبقى القريحة، هي الفيصل الصديق.

العدد 3570 - الجمعة 15 يونيو 2012م الموافق 25 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً