العدد 1488 - الإثنين 02 أكتوبر 2006م الموافق 09 رمضان 1427هـ

صراع على السلطة في ظل الاحتلال

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المواجهات المسلحة التي وقعت أمس الأول بين أنصار الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأنصار رئيس الحكومة إسماعيل هنية تكشف بوضوح عن مدى قدرة القوى الكبرى (التدويل) على تأزيم علاقات داخلية ودفعها بالقوة نحو التصادم «الأهلي». فما حصل ويحصل في ساحات غزة ومدن الضفة هو نتاج ذاك التدخل الخارجي في شئون محلية ودفعها نحو التأزم لتحقيق غايات تخدم «إسرائيل». والمصلحة الإسرائيلية بالتأكيد تتوافق مع تأجيج الانقسامات الفلسطينية والتلاعب بها بهدف بعثرة الوحدة وتعطيل إمكانات الصمود والممانعة.

منذ وصول «حماس» إلى السلطة التشريعية وتشكيلها الحكومة الفلسطينية بدأت خطة الضغط الدولية (الأميركية - الأوروبية). فقررت الولايات المتحدة بدعم من دول الاتحاد الأوروبي مقاطعة الحكومة وعزلها سياسياً من خلال فرض عقوبات مالية واقتصادية عليها بقصد رفع درجة معاناة الشعب وانهاك قواه. وبعد مضي أكثر من يوم على فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية ونجاحها في تشكيل حكومة بدأت تظهر على السلطة عوامل الضعف والانقسام الذي انتقل من «فوق» إلى «تحت» وتمثلت في حصول استقطابات سياسية بين أنصار الرئيس (فتح) وأنصار هنية (حماس).

الشعب الفلسطيني ليس مسئولاً عما حصل ويحصل. وإنما الشعب هو الضحية. ضحية الاحتلال وضحية تأييد القوى الدولية (صاحبة القرار السياسي والمالي) للدولة العبرية. وهذا الانحياز المفضوح شكل أدوات ضغط نفسية زادها حادث خطف الجندي الإسرائيلي توتراً وتشنجاً.

الآن وبعد مضي أكثر من يوم على حكومة حماس يمكن مشاهدة تلك الانقسامات مكشوفة على الأرض بعد انتقال الصراع من قمة السلطة إلى الشوارع. فالانقسامات التي تتمظهر بأشكال عنف بين الفصائل الفلسطينية كان بالإمكان تجنبها لو لم تتدخل مباشرة دول القرار السياسي في أميركا وأوروبا ضد حكومة حماس وتضغط عليها مالياً وتقاطعها اقتصادياً بذريعة أن برنامجها السياسي لا يعترف بـ «إسرائيل» ويعارض «اتفاق أوسلو» ويطالب بتحرير فلسطين وطرد الاحتلال.

شكلت هذه الذرائع نقطة ارتكاز للسياسة الدولية وبدأت عواصم الاتحاد الأوروبي تمنع المساعدات والتحويلات المالية وهددت المصارف العربية بالتعامل مع الحكومة الفلسطينية وشجعت الاحتلال على إغلاق الطرق ومنع الإمدادات ومحاصرة الناس في منازلهم بقصد تأليب الشارع ضد حماس. ولم يتوقف العقاب الجماعي عند هذا الحد بل استغلت حكومة إيهود أولمرت حادث خطف الجندي لتنتقل من الحصار المعيشي إلى سياسة التحطيم وتدمير البنى التحتية (جسور، مدارس، مستشفيات، محطات وقود، ومراكز لتوليد الكهرباء أو ضخ المياه) في قطاع غزة. كما أقدمت على تنفيذ سلسلة اغتيالات وخطف للقادة والوزراء والنواب مضافاً إليها تسجيل اقتحامات للمدن والقرى والأحياء والمخيمات وإعادة احتلال بعض المناطق الحدودية وتشكيل ما يشبه أحزمة أمنية للتفتيش وتقطيع أوصال المناطق وعزلها عن بعضها.

كل هذه الاعتداءات الإسرائيلية المدعومة دولياً حصلت في أقل من يوم، وكانت كافية لإطلاق حملة تعبوية مضادة لحماس تتهمها بضعف الرؤية وعدم وضوح الأهداف وقلة الخبرة وعدم معرفة في إدارة شئون الناس، ما أدى إلى زيادة معاناتهم بسبب تمسكها بشعارات عامة غير مقبولة سياسياً وتتعارض مع القوانين والشرعية الدولية.

حماس بدورها لم تتردد في الرد على الحملة التعبوية. فهي أشارت إلى أن موضوع الاعتراف ليس السبب في محاصرة الشعب ومعاقبته على خياراته السياسية. فالسلطة الفلسطينية اعترفت منذ زمن بوجود «إسرائيل» وقام الرئيس الراحل ياسر عرفات بمصافحة المسئولين الإسرائيليين والتوقيع معهم على أوراق واتفاقات. كذلك صافح ويصافح الرئيس الحالي كلّ من التقاه من مسئولين إسرائيليين ويجدد يومياً اعترافه بالكيان والتزامه بالاتفاقات. وكل هذا لم ينفع ولم يمنع ارييل شارون مثلاً من محاصرة عرفات في مقره وعزله عن العالم ضارباً بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والاتفاقات الثنائية التي أشرفت واشنطن على صوغها وترتيبها.

مجرد ذريعة

مسألة الاعتراف إذاً مجرد ذريعة وهي لا تختلف كثيراً عن ذريعة خطف الجندي التي استخدمتها تل أبيب غطاءً لتنفيذ مشروع التقويض. المسألة تتصل بالسياسة ورفض «إسرائيل» مدعومة من الولايات المتحدة تقديم أي تنازل لا يصب في مصلحة تل أبيب ومشروع الاحتلال. فالمشكلة أصلاً في الاحتلال وليست في الاعتراف. الاعتراف الفلسطيني حصل ضمناً في العام حين وافقت فصائل منظمة التحرير على مشروع تسوية يقضي بإقامة «دولة» في الأراضي المحتلة في العام . وتطور الاعتراف لاحقاً حين وافقت منظمة التحرير سياسياً على قرارات مجلس الأمن وتخلت عن مشروع تحرير فلسطين واكتفت بالمطالبة بإقامة سلطة وطنية ضمن حدود ما بعد يونيو/ حزيران.

كل هذه التنازلات والتراجعات واللقاءات والمصافحات والتوقيعات تعاملت معها حكومات تل أبيب بسخرية ومن دون احترام، بل قالت إنها تظاهرت باعتماد هذه السياسة ليس بسبب قناعاتها وإنما تلبية لضغوط دولية وحتى لا تظهر أمام العالم بأنها الطرف الرافض للتسوية والسلام.

المشكلة في «إسرائيل» ورفضها الدائم للقبول بالحد الأدنى ومطالبتها بالتوسع والاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها في العام بما فيها الجولان. وهذه المشكلة تشكل مفتاح أي حل سياسي للاحتلال. وما يحصل بين فتح وحماس هو نتاج هذا التأزم الذي أوصل الشعب الفلسطيني إلى حال من الانقسام والفوضى والتخبط وعدم وضوح الرؤية وتحديد السبب الحقيقي الذي يقف وراء اشتداد الصعوبات المعيشية والمعاناة الحياتية.

هذا الوصف للوقائع لا يعني أنه ليست هناك مشكلة فعلية بين حماس وفتح. ولكن هذه المشكلة لا تنبع من مسألة الاعتراف وعدم الاعتراف، بل إنها نتاج ذاك التزاحم الداخلي على السلطة ومحاولة الاستئثار بها في ظل وجود الاحتلال والحصار. فأنصار فتح وجدوا في العقوبات الدولية المضافة فرصة للتأكيد على أن برنامجهم السياسي هو الصحيح والأفضل لأنه يعرف كيف يتعامل مع الخارج ويخفف عن الشعب المحاصر والجائع والمشرد تلك الضغوط النفسية والمعيشية والحياتية والأمنية الإضافية. وحماس ترى أن تلك العقوبات مقصودة وخطط لها بهدف إضعاف دورها وموقعها في الشارع من خلال إظهارها طرفاً لا يعرف كيف يدير شئون السلطة.

هذا التنافس على السلطة من خلال الكلام عن «الواقعية» و«الرومانسية» و«الخبرة» و«قلة الخبرة» و«الوضوح» و«الضياع» يكشف عن وجود خلل بنيوي في السياسة الفلسطينية التي لم تتوصل على رغم التجارب القاسية إلى برنامج موحد يربط المصالح المشتركة في خطة عمل منسجمة مع الإمكانات والقدرات وموازين القوى. فالمسألة ليست من يزايد على الآخر في الاعتراف أو عدم الاعتراف بل في قدرة الأطراف على تصليب الموقف الوطني المشترك وتعزيز الممانعة من خلال التوافق على نقاط موحدة تحدد المطالب ضمن مهلة زمنية. والمطالب في النهاية ليست شعارات مطلقة أو أفكاراً عامة تطلق في الهواء وإنما تتصل في قدرة الناس على رفعها والدفاع عنها والاستعداد للتضحية من أجلها. وهذا كله يتصل بعناصر القوة والثبات وليس له علاقة بحجم الشعار ومساحته. فأحياناً تحتاج الأهداف الصغيرة والقريبة إلى موازين قوة لا تقل عن تلك التي تحتاجها الأهداف الكبيرة والبعيدة. وفي النهاية من ينجح في الدفاع عن برنامجه المتواضع يستطيع أن يطور قدراته ويعزز خطواته للدفاع عن برنامجه الطموح.

المزايدة اللفظية لا تعني شيئاً حين يكون الاحتلال يسيطر على معظم الأراضي الفلسطينية ويمعن في تمزيقها والاستيلاء عليها قطعة بعد أخرى ويعزلها جغرافياً ببناء «جدار فصل عنصري» يمر وسط القرى والبلدات بتجاهل دولي ودعم أميركي.

الشعب الفلسطيني يستحق الكثير وبالتأكيد لا يستحق تلك المواجهات السياسية والمسلحة التي وقعت بين أنصار حماس وأنصار فتح وتوابعهما. فما يحصل أقرب إلى الفضيحة وهذا الاستقطاب الداخلي ستكسب منه «إسرائيل» الكثير من النقاط لمصلحتها، وبالتأكيد لن يستفيد منه الشعب الفلسطيني سوى المزيد من البهدلة والإهانات

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1488 - الإثنين 02 أكتوبر 2006م الموافق 09 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً