رجل يوشك عالمه أن ينتهي، قاتل مأجور أفقده الافراط في الشراب كل شيء بدءاً من عمله وصولاً للرغبة في الحياة. وفتاة في مقتبل عمرها، هي على رغم كل حبها للحياة حزينة، وحيدة، يتهددها خطر الموت عند كل منعطف وفي كل زاوية. يجمعهما اصرار صديقه على أن يجد لنفسه عملاً، ورغبة والديها في حماية الفتاة من خطر الاختطاف وربما الموت في بلد يشهد حادثة اختطاف واحدة كل 60 دقيقة، يفقد 70 في المئة من ضحاياها حياتهم ثمناً لها.
هو جون كريسي، عميل المخابرات السابق المكلف بعمليات الاغتيال، الذي يجسده الرائع دينزل واشنطن في واحد من أجمل أدواره، يكلف بمهمة حراسة فتاة صغيرة تعيش في أميركا اللاتينية وفي العاصمة المكسيكية تحديداً، واحدة من أشد المدن خطورة. وهي بيتا راموس، الابنة الوحيدة والمدللة لرجل الأعمال المكسيكي الثري صاموئيل راموس وزوجته الأميركية ليزا، تجسد دورها الصغيرة داكوتا فانينغ قبل العامين وحين لم يكن عمرها يتجاوز العاشرة. وفانينغ هنا لا تقدم واحداً من أجمل أدوارها، بل إنه الأجمل على الاطلاق وسط أعمالها التي لا يتجاوز عددها 16 دوراً تنوعت بين ظهورعلى الشاشة أو أداء صوتي.
منذ بداية الفيلم، ومع أول لقطاته، يجعلنا المخرج في حال ترقب وخوف مما سيحدث، ويشعرنا بالخطر المحدق بالصغيرة بل ويحملنا مسئولية الحفاظ عليها من أي خطر قد يهدد براءتها، ربما لنتفهم لاحقاً رد فعل بطله حيال ما سوف يحدث لها. حال الترقب تلك نجح المخرج في صنعها عبر مشهد افتتاحي حبس معه أنفاس المشاهدين، قدم فيه نموذجا لاحدى عمليات الاختطاف في وضح النهار وأمام أعين الجميع وهي التي تتم على مدار الساعة في تلك المدينة اللامبالية التي لا تكترث لصراخ ضحايا العنف فيها والتي تختلط فيها الأمور ويعيث فيها اللصوص والقتلة الفساد من دون حسيب أو رقيب.
هكذا وفي وسط شارع مكتظ، وعند منتصف النهار، يتم اختطاف شاب يافع ويشد عنوة من ايدي من بدت حبيبته. تصرخ الفتاة بأعلى صوتها من دون أن يكترث لها أي من المارة الذين تكتظ بهم ساحة بدت وكأنها في وسط البلد وفي أكثر المناطق أهمية وازدحاماً. بعدها ننتقل لمكالمة يتلقاها كهل على هاتفه النقال، ثم مشهد لأذن تقطع، وترسل الى ام مفجوعة وأب مكلوم، لا يملكان خياراً سوى الاذعان لمطالب الخاطفين، وتقديم فدية تدفع بطريقة بدت مثل كود لعصابة على درجة عالية من الدقة والتنظيم، وأخيراً الشاب الوسيم نفسه ملقى في وسط الشارع، معصوب العينين مقيد اليدين، يصرخ بالمارة وبسائقي السيارات المسرعة لكنه يحاول عبثاً.
لقطات سريعة، مقطعة، خاطفة وتقنية يمزج فيها المخرج بين الايقاع البطيء والسريع. كاميرا تهاجم أهدافها تماما كما يفعل الخاطفون، وموسيقى لاهثة مترقبة تمزج أنفاس الضحية الخائفة بلهاث خاطفيها المسعورين، وإضاءة يتم التحكم فيها بحرفية عالية تنقل كل مشاعر الخوف والهلع، ثم صور مشوشة متداخلة شديدة الاهتزاز تنبئ عن خلل في موازين تلك المدينة يصعب فهمه وفك شفراته.
مقدمة شديدة البراعة جاءت على يد مخرج متمكن هو طوني سكوت، الممثل المخرج، الذي اسعدنا بعدد لا بأس به من أقوى الأعمال السينمائية في هوليوود لعل أشهرها Enemy of the State وفيلم The Fan. وهي مقدمة تمكن من خلالها من نقلنا لأجواء الفيلم ومن إشعارنا بحجم الخطر المحدق وخطورة القضية التي يناقشها وصدقية ما يطرحه من حقائق ووقائع. بدايته جاءت مشوقة، مثيرة ومفزعة، وكفيلة بوضع أساس لعمل مميز، استحق كل اشادات النقاد التي حصل عليها، فهو المخرج بطريقة مذهلة، وهو افضل افلام العام 2004، وهو كذلك لا يشبه أي فيلم آخر شاهده الجمهور.
هكذا وبعد أن ضمن المخرج مدخلا رائعا ومثيرا لفيلمه، وأعلمنا بواقع الحال في هذه المدينة، كما أشعرنا بحال الفزع التي يعيشها سكانها، الأثرياء منهم على أقل تقدير، والآباء على وجه التحديد، الذين لا يجدون بدّاً من الاستعانة بالحرس الشخصيين لمرافقة ابنائهم في كل صغيرة وكبيرة. يصل جون كريسي الى هذه المدينة كحارس شخصي للصغيرة بيتا راموس، وهو لم يكن بداية راغبا بالعمل كحارس شخصي وخصوصا لطفلة، وإنما قبل به تحت ضغط من صديق عمره رايبورن (كريستوفر والكن) الذي لم يرتضِ حال اليأس والاحباط التي يعيشها صديقه بعد أن اجبر على الاستقالة. لا يحتمل في بداية الأمر تطفل الصغيرة عليه وأسألتها التي لا تنتهي عن حياته، ويبدو معها جافّاً وفظّاً بعض الشيء، لكن سرعان ما تتغير الأمور وتبدأ بين الاثنين صداقة تتقرر على أثرها ردود فعله لاحقاً تجاه ما يحدث لها. يجد كريسي لحياته هدفا آخر بعد أن تقترب منه الصغيرة وتحطم كل الاسوار الدفاعية التي يحيط نفسه بها. لكن أطماع البعض سرعان ما تتجه نحو الصغيرة الوحيدة لتفسد فرحتها بالصديق الجديد، وحياتها عموماً. يتم اختطافها على أيدي عصابة مسلحة، بينما يكاد هو أن يفقد حياته دفاعا عنها، حين يصاب بأربع طلقات قاتلة. لكنه يعود بعدها مصمماً على أخذ ثأر الصغيرة والانتقام ممن آذوها ليتوصل الى حقائق مفزعة تتسبب في صدمة كبرى للمشاهد ولأبطال الفيلم جميعهم على حد سواء.
يصمم كريسي على الانتقام والعودة لدور القاتل أو عميل الاغتيالات، لكنها في هذه المرة ليست اغتيالات سياسية، بل أخرى تصب في صالح المجتمع، أطرافها هو ومجموعة من رجال الشرطة الفاسدين أو عصابة الليرمينداد الذين يشكلون رابطة لها قوانينها التي يحترمها جميع أفرادها ويخلصون لها حتى النهاية.
وعلى رغم الصراع الذي كان يعيشه كريسي والذي تسبب له مسبقا بحالة من الانطواء وجلد الذات، وكان سببه ما ارتكبه مسبقا من اغتيالات، تمكن المخرج من تصويره في مشاهد صاخبة، امتزجت فيها صور غير واضحة من ماضي كريسي مع أصوات صراخ بعض ضحاياه. كان يريد الخلاص من ذلك الماضي لكنه اليوم عاد اليه وبملء ارادته إذ وجد أنه ما من سبيل لتحقيق العدالة سواه، وهو حين تحقيقه لم يسمع اصوات ضحاياه الأوليين بل استرجع صوراً للصغيرة داكوتا، وخصوصا تلك التي كانت آخر ما رآه منها، وسمع أصواتا لم تكن سوى صراخها الأخير حال شد المختطفين لها بالقوة.
هكذا لم يجد بدّاً من اللجوء الى القتل، وكذلك لم يجد المشاهدون حلاً سواه، وتلك براعة شديدة من المخرج في جعل المتفرجين يؤيدون كل سلوكيات بطله بل ويدعونه اليها. جميعنا أردنا الانتقام من القتلة وأردنا قتلهم بالبشاعة التي فعلها كريسي، وخصوصا مع صوت الصغيرة الذي يتردد في أذن كريسي وآذان مشاهديه، وصورتها التي ترتسم في مخيلة كريسي، وتراها عيون مشاهديه.
لم تمت الصغيرة، لكن كريسي فقد حياته ثمنا لانقاذها، ليصبح لحياته معنى أكبر وقيمة تذكر، فهذه الصبية التي لم تتجاوز التاسعة من عمرها علمته منذ بداية صداقتهما حتى النهاية انه لا بأس من أن يعيش على رغم كل ما ارتكبه، ولا بأس من أن يفتح صفحة جديدة يغفر فيها لنفسه كل ما ارتكبه من خطايا وذنوب، على الأقل هذه المرة حين أصبحت الغاية تبرر الوسيلة، وأصبح يحمل هدفا نبيلاً يتمثل في إنقاذ الفتاة وهو ما يبرر انتقامه البشع من قتلتها.
الفيلم رائع بكل ما تعنيه هذه الكلمة، مقنع وعلى درجة عالية من التأثير، وهو بحق واحد من أفضل أفلام الحركة والاثارة الهوليوودية. هو أخيراً وعلى رغم تجنيه على المكسيكيين وهو تجنٍّ مبالغ فيه، أوصل كاتب السيناريو الى الدرجة التي سمحت له بتوريط والد الفتاة في قضية ابنته، وجعل العدالة تتحقق على يد اميركي واحد، إلا أنه على رغم كل شيء فيلم لن تمل مشاهدته
العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ