العدد 1507 - السبت 21 أكتوبر 2006م الموافق 28 رمضان 1427هـ

ذكريات كويتية... عن الإرسالية الأميركية والدور التبشيري

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

لا يمل أهل الكويت من الرعيل الأول الذين عاصروا بداية قدوم الأطباء الأميركان المبشرين إلى الكويت خلال سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي في أحاديثهم من الإشادة بالدور الصحي الكبير الذي اضطلعت به الإرسالية الأميركية في الميدان الصحي، بينما أخفقت تمامًا في الميدان التبشيري بسبب تمسك الناس بالعقيدة الإسلامية ومبادئها السمحاء، وحالوا دون تحقيق ما وضعه هؤلاء الأطباء المبشرون من خطط وأهداف نصب أعينهم، الذينهم في المنطقة العربية ومنها العراق والجزيرة ودول الخليج في مهمة ذات شقين، أولهما خدمة للأعمال التبشيرية، وثانيهما تحمل جانب إنساني متمثل في علاج الناس ورعايتهم والدأب على خدمتهم.

تلك كانت رسالتهم ابتغاء مرضاة الله كما تذكر أدبياتهم، فهم منضوون تحت إمرة العمل التطوعي في مختلف مناطق العالم، وهذا مبثوث ومؤكد في الوثائق التاريخية المعروفة. وعندما كنت أؤدي عملي الدبلوماسي في بكين بالصين، أرسل إليّ الصديق الأديب والطبيب عيسى أمين عشرات من وثائق الإرسالية الأميركية، اطلعت على الكثير منها لما احتوته من معلومات قيمة بشأن عمل تلك البعثة في البحرين. وفي نيويورك هناك مجلس البعثات التبشيرية وعادة تتبنى إحدى الكنائس المتطوعين من المبشرين الجدد الراغبين في العمل في البلاد العربية والدول الأجنبية الأخرى، كما في البحرين ومنطقة الخليج والبصرة وعمان في مطلع القرن العشرين حتى الخمسينات. وكانت تنتشر أسراب البعوض، وهي شر مستطير لا يرحم ضحاياه وينشر الملاريا. كما يستشري مرض السل الرئوي إذ يصاب المريض بضعف وهزال شديدين وسعال شديد، يعقبه بصقه للدم بصورة مستمرة. وعانت الكويت من ظاهرة انتشار العميان شأنها شأن إمارات الخليج الأخرى، وكان أحد أسبابه تفشي الجدري آنذاك.

ويتحدث أهل الكويت عن الطبيبة الأميركية الوحيدة في مستشفى الإرسالية، (أليانور كالغرري)، واتسمت أخلاقها بالسماحة والأدب الجم بسبب حبها للناس وتفانيها في تطبيبهم وتقديم كل ما تستطيع من خدمات طبية وإنسانية ولو على حساب صحتها وراحتها. ويقولون إنها أول طبيبة أميركية مارست الطب هنا وأصبحت ملتصقة بالكويتيين ولاسيما النساء، وكونت علاقة حميمة معهن وكانت في تنقلاتها تمتطي حمارة بيضاء إلى منازل الأسر الكويتية من دون تفريق بينهم، فالكل سواسية لديها، غنيهم وفقيرهم، ولا يشابهها في شمائلها تلك إلا زوجة المقيم البريطاني دكسون التي يلقبها الكويتيون بأم سعود.

كانت التقاليد الاجتماعية في الكويت صارمة ولاسيما في النظرة إلى المرأة وهي لا تعدو أن تكون متاعًا وكمًّا مهملاً معزولة بين جدران المنازل، ولا تكاد تبرحه إلا للضرورة. ولكن هذا لا يمنع من أن كثيرًا من ربات البيوت سواء في الكويت أوالبحرين، كنَّ يقمن بشراء حاجات المنزل الغذائية بدل الأزواج إلا من يمنعهن أزواجهن القادرون على تلبية كل متطلبات المنزل ويحضرها عادة الحمالون. كما أن كثيرًا من النساء المعوزات يقمن بالخدمة في منازل الأغنياء أو الموسرين. ويذكر بعض الكويتيين من كبار السن أن بعض الأطباء الأميركان في تلك الإرسالية كانوا دارسين للدين الإسلامي كما الدين المسيحي، وكانوا يتكلمون اللغة العربية بصورة حسنة، وأقاموا قداسًا يوم الأحد إذ يرتلون بعض آيات من الإنجيل ويدعون الأولاد الصغار ليعلموهم اللغة الانجليزية من خلال تلقينهم بعض التعاليم المسيحية، إلا أنهم لم يحققوا أي نجاح يذكر في هذا السبيل، وانتهزوا فرصة أنه لم تكن في الكويت آنذاك مدارس نظامية في مستهل القرن الماضي باستثناء الكتاتيب، الذي واكب قدوم هؤلاء الأطباء المبشرين، واستطاع هؤلاء الأطباء أن يكسبوا قلوب أهل الكويت وثقتهم من خلال بعدهم عن أجواء حياة الرفاهية، إذ تقوم حياتهم في الأعم الأغلب على الكفاف وارتداء الملابس البسيطة واقتناء الأثاث البسيط الأقرب إلى الإمكانات المادية لأهل الكويت قبل عصر النفط، والذين لم يكونوا في أحيان كثيرة يملكون قوت يومهم، واستطاعوا أن يتأقلموا مع واقعهم المتجهم المعاش من دون ملل أو ضجر.

أما بالنسبة إلى حمارة الطبيبة المطيعة، فهي تشبه بغلة السياسي المصري محجوب ثابت، وللشاعر المصري إبراهيم حافظ قصيدة جميلة يداعب فيها صديقه متغزلاً وساخرًا ببغلته تلك يقول فيها:

لك يا صديقي بغلة تمشي على الأرض فتحسبها أنملة

أشبهتها بل أشبهتك كأن بينكــــما صلــة

وبجانب الحمارة كانت في منزل الطبيبة المذكورة عنزة تنعم مع زوجها الطبيب أدوين بشرب حليبها اللذيذ وبصحبتها والتمتع بمشاكستها، لدمها الخفيف وعبثها بحاجات المنزل القليلة والمتواضعة. وإذا كان الناس في عصرنا الحاضر هذا يقتنون السيارات بمختلف الأشكال والموديلات ومنها الفخم والغالي الثمين وما دون ذلك، فإن الناس في بلادنا في مطلع القرن العشرين حتى الأربعينات، كان علية القوم منهم يمتطون الحمير في تنقلاتهم وجولاتهم، وكان لكل وجيه حمارة قوية هي وسيلته للمواصلات المريحة، وما فعلته الطبيبة الأميركية ليس بدعًا وإنما محاكاة وسيرًا على سنة هؤلاء الرعيل

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1507 - السبت 21 أكتوبر 2006م الموافق 28 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً