العدد 1510 - الثلثاء 24 أكتوبر 2006م الموافق 01 شوال 1427هـ

فتنة السياسة ومحنة الصحافة... مصر نموذجاً

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

من المفترض أن تتسق الحال السياسية مع الحركة الصحافية، لأن هدفهما واحد، هو تحقيق الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، وإطلاق الحريات العامة، وصيانة الحقوق الأساسية لكل إنسان في الوطن.

ولكن يلفت النظر، ان الأيام الراهنة تشهد صدامات متتالية بين السياسة والصحافة، بدرجة أقوى وأسخن من المعتاد، يستغلها بعض السياسيين أساسا في إشعال حريق، يقوم على حجة ان الصحافة قد تجاوزت الحدود، وخرجت على الخطوط الحمراء، واقتحمت المحرمات وكسرت المقدسات، مستغلة هامش الحرية القائم، ولذلك وجب لجمها.

وفي اعتقادنا فانه مهما كانت تجاوزات الصحافة، فإنها أولاً تجاوزات لم تبلغ مرحلة تهديد وحدة الوطن وتقويض حريته وأمنه، وثانياً فإن الهجمة العنيفة الحالية على الصحافة والصحافيين، لا تندرج في إطار «الدفاع عن المقدسات الوطنية»، انما تندرج في نطاق الضيق بهامش حرية الصحافة المحدود والمحكوم، لانه نجح على رغم محدوديته في فضح تحالف الفساد والاستبداد، وفي كشف المسكوت عنه من أخطاء وخطايا المتنفذين من أصحاب القرار!

فتنة السياسة وخطايا السياسيين أوقعت الصحافة والصحافيين في محنة واضحة للعيان، فإن كان نقدنا للسياسات ولأفكار وسلوكيات السياسيين، ضرورة من ضرورات العمل الصحافي، فان أوضاع الصحافة وسلوك الصحافيين هي الأخرى ليست فوق النقد، فكلنا بشر يخطئ ويصيب، ولذلك فإن حرية النقد الموضوعي حرية مقدسة، ومصادرتها بأي شكل من الاشكال خطيئة مجرمة مؤثمة في كل الشرائع والقوانين الديمقراطية.

فأين الخلل إذن...

سنبدأ ببعض الملاحظات الكاشفة...

لابد قد لفت انتباه المارة والسيارة، منظر بضع عشرات من الصحافيين المصريين، يتجمهرون امام مبنى نقابتهم، يعرضون ويبيعون الخضراوات والفواكه والمشروبات، تعبيرا غريبا عن احتجاجهم الصارخ بإغلاق صحيفتهم «آفاق عربية» منذ سبعة شهور، ومن ثم تشريدهم وحرمانهم من حق العمل، وكانوا من قبل قد أقدموا في احتجاج سابق على نشر ملابسهم في مدخل النقابة، من دون ان يجذب ذلك كله أي تحرك عملي من جانب الحكومة، وان كان قد جذب انتباه الناس واستغرابهم، فضلا عن جذب الحرج للنقابة ذاتها!

وهذا تعبير على غرابته عن تجاهل متعمد لوضع حلول لبعض مشكلات الصحافة والصحافيين، تجاهلاً لهم وتقليلاً من شأنهم!

المؤكد ان الإحساس العام الذي يسود معظم الجماعة الصحافية «المتمردة دائما بطبيعتها» بأن الحكومة تتجاهل مطالبها ولا تحل مشكلاتها، وتتعمد إهانتها وتهميش دور نقابتها، قد تزايد في الفترة الأخيرة، في ضوء الصدامات العنيفة التي جرت خلال العامين 2005/ 2006، خصوصا بشأن قوانين حبس الصحافيين في جرائم النشر والرأي، ما أدى الى ارتفاع مشاعر التحدي وصولاً في بعض الاحيان الى الجنوح غير المقبول، في توجيه الاتهامات وفي نقد المسئولين، بل في نقد صحابة رسول الله(ص) في سابقة منكرة!

جنوح تخطي التحدي، نتيجة الشعور بالإهمال والتهميش، وربما لأسباب أخرى!

تحت ضغط شديد، ادخل البرلمان تعديلات محدودة، على قانون العقوبات، قبل شهور قليلة، تعلقت بمواد القذف والسب، فألغى عقوبة الحبس فيها واستبدل بها عقوبات الغرامة المالية المشددة.

وكانت هذه خطوة ايجابية بلا شك، لكنها ليست كافية على الإطلاق، فقد بقيت في قانون العقوبات وقانون الصحافة، فضلا عن قانون الطوارئ، عشرات المواد النافذة التي تحكم بالحبس وجوبا ليس على الصحافيين فقط، ولكن أيضا على كل أصحاب الرأي والتعبير.

والمعنى ان الحرية منقوصة، وان سيف «ديموقليس» لايزال معلقا على الرقاب، لا يثير ارتياحا كما تصور بعض دهاقنة السياسة، ولكنه يستثير روح التحدي المضاد عند الصحافيين والرأي العام باجماله، المطالب بحريات حقيقية، وليس تزويقا شكليا يدعي «ترزية القوانين» ضعاف الصنعة، انه الإصلاح المنشود!

والنتيجة ان حال الاحتقان التي اصطنعتها فتنة السياسة ومناورات بعض السياسيين النافذين، قد زادت حدة وشدة في الوسط الصحافي، ورفعت وتيرة المعارضة لدى أطراف سياسية عدة، وفي الوقت نفسه، شغلت ساحات المحاكم بمئات من القضايا المنظورة حاليا ضد مئات من الصحافيين وكتاب الرأي، التفافا على تعديل قانون العقوبات، وإلغاء الحبس في قضايا السب والقذف، وذلك باستخدام مواد أخرى في القانون نفسه تؤدي الى الحبس.

خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني القادم بسرعة، يواجه الرأي العام المتطلع الى حرية الصحافة والرأي والتعبير، عدة أحكام منتظرة بالحبس لثلاثة من كبار الصحافيين، هم رؤساء تحرير لثلاث صحف مستقلة بارزة... رئيس تحرير صحيفة «الدستور» إبراهيم عيسى يواجه حكما ابتدائيا بالحبس لمدة سنة، وينظر استئنافه في نوفمبر، بتهمة الاساءة لرئيس الجمهورية، على رغم ان القضية مرفوعة من غير ذي صفة، وان حكمت المحكمة بتأييد الحكم الابتدائي، فمصيره السجن لعام كامل هو ومن معه من المحررين المتهمين!

رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «صوت الامة» وائل الابراشي، يواجه نظر قضيته مع زملاء آخرين، متهما من جانب احد القضاة، في تهمة تتعلق بتزوير الانتخابات البرلمانية الأخيرة تورط فيها المشرفون عليها، ونشرتها الصحيفة.

اما ثالثة القضايا فهي الأغرب حقا، وهي التي تتعلق برئيس تحرير صحيفة «الأسبوع» مصطفى بكري، وقد رفعها ضده رئيس تحرير صخيفة أخرى، ليس عضوا بنقابة الصحافيين بما يشكل مخالفة قانونية كانت هي التي تستدعي المساءلة أصلاً.

وقد صدر حكم ابتدائي على مصطفى بكري بالحبس ستة أشهر بتهمة القذف والسب، التي يفترض انها ألغيت في التعديل القانوني السابق ذكره، لكن محكمة الاستئناف أيدت الحكم، بعد تعديل التكييف القانوني للتهمة من سب وقذف إلى تهمة الطعن في الأعراض طبقا للمادة 308 من قانون العقوبات التي تحكم بالحبس وجوباً... وهذا امر غريب حقا، لان ما نشر لا يتعرض للأعراض بأي شكل!

وعلى الطريق نفسه، ينتظر رئيس تحرير صحيفة «الفجر» عادل حمودة، ورئيس صحيفة «الكرامة» المصير ذاته.

والخلاصة ان أحكاما نافذة بالحبس، ينتظر أن تصدر في نوفمبر المقبل على ثلاثة رؤساء تحرير وبعض زملائهم، يديرون ثلاثا من أهم الصحف المستقلة، التي أثارت مع غيرها، حراكا مهنيا ونشاطا سياسيا واضحا في الساحة المصرية، وكسرت جمود الحال الصحافية وتردي الحال السياسية، ومارست نقدا صريحا لأوضاع عليلة، وخاضت معارك حادة ضد تحالف الفساد والاستبداد، حتى لو اتهم بعضها بالشطط احيانا، فانه يظل شططا بنية سليمة وبرغبة حقيقية لدى شباب يطلب الديمقراطية وإطلاق الحريات بكل حماس.

ولأننا ننطلق في هذه المعالجة من مبدأ رئيسي ومن موقف واضح وثابت، وهو الدفاع الصلب عن حرية الصحافة وشرف المهنة وتقاليدها السليمة، بعيدا عن الجنوح المغرض، فإننا نعتقد مثل كثيرين ان هناك حال تربص شرس، من جانب دوائر سياسية حاكمة، بالصحافة والصحافيين، تضعهم جميعا تحت ضغوط شديدة على الدوام بحجة «ألا تفلت الصحافة من عقالها»، وهي حجة تترجم النظرة الحكومية البيروقراطية للصحافة، إذ لا تراها الا في موضع الخدمة الاجبارية والطاعة القسرية، والا فالتهم جاهزة والحبس قائم!

وهي نظرة لا تؤدي إلا الى تأزيم العلاقات المحتقنة في الرأي العام أصلا، بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية الاجتماعية، وفي مقدمتها أزمة شكل نظام الحكم ومستقبله، والخلافات حولها التي ازدادت اشتعالا، كلما جرى الحديث عن الإصلاح الديمقراطي المنتظر أو عن احاديث التوريث المتداولة.

وها هو الدليل ساطع امامنا، كما سبق أن كتبنا، إذ إن الجهود التي تبذلها الصحافة على رغم القيود القائمة، لفضح الفساد وتعرية بؤر الاستبداد، تواجه بحملات عنيفة ومستمرة تهاجم الصحافة وتشوه صورة الصحافيين وتدفعهم إلى ساحات المحاكم، ووضعهم تحت سيف السجن، بحجة تقنين حرية الصحافة وضبطها حتى لا يزداد الصحافيون تهورا، والهدف الواضح هو إلغاء أو تجميد التعديل القانوني الأخير، وابقاء القيود القانونية والسياسية والإدارية كابوسا على انفاس كل من يفكر أو يكتب أو يعبر عن رأيه بحرية!

ونعتقد أن سجن ثلاثة من رؤساء التحرير مع عشرات من الصحافيين، وان حال التربص بحرية الصحافة والرأي والتعبير عموما، من جانب الطابور الخامس المجند لقهر الحريات العامة وعرقلة الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، لن يستطيع ايقاف التيار الديمقراطي الهاجم بقوة، وان كان يستطيع ان يختلق المشكلات كل يوم، وان يدبر التهم الجديدة للدفع بالصحافيين إلى المحاكم، في محاولة لتصفية الحسابات المعلقة، وكم هي كثيرة وخطيرة.

ولذلك ندعو جميع الأطراف الى بلوغ الرشد في التفكير، بتغليب مصلحة بناء وطن حر لمواطنين احرار، على المماحكات الصغيرة وتصفية الحسابات الشخصية، وتأزيم العلاقات بين السلطة والرأي العام، ودفعها نحو الاشتعال!

ولن نصل الى الرشد حقا في المعالجة، الا اذا اتفقنا على مبدأ أن الحرية مقدسة للجميع من دون تمييز، ووضعنا تعريفا واضحا لحدود حرية الرأي والتعبير ومعاييرها التي صارت دولية، وارتضينا في هذا الإطار قاعدة ان النقد الموضوعي، لكل مسئول، حق وواجب على الصحافة وأصحاب الرأي، في إطار المسئولية.

اما استمرار حال التربص المضاد، وابقاء العقوبات السالبة للحرية، والتمسك بقوانين تصادر الحريات وتنتهك حقوق الجميع، والاستمتاع بلذة جلب الصحافيين إلى ساحات القضاء والتشفي في وضعهم خلف القضبان وفي الزنازين، فإنها أمور لن تحل المشكلات ولن تفك الاحتقان، ولن تحفظ السلطة، ولن تصون الاستمرار أو الاستقرار، الذي يتخيله بعض السياسيين الذين أخذتهم العزة بالاثم وغرتهم قوة السلطة أو سلطة القوة!

خير الكلام: يقول الحلاج في تصوفه:

يا ويح روحي من روحي فوا أسفي

عليّ مني فإني أصل بلوائي

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1510 - الثلثاء 24 أكتوبر 2006م الموافق 01 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً