العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ

رواية «الحاسة صفر» تلقي حجراً في الماء الراكد

قليلة هي الروايات التي تستوقفك، وتثير فيك شهية التفكير، ولا يمكن أن تتركها إلا بعد أن توطن النفس على أن تعبر عن رأيك فيها، لأن تجاهلها باختصار خيانة لرواية بحجم «الحاسة صفر» التي نالت من الاهتمام والدراسة الشيء الكثير في مدة قياسية، وهذا يؤكد الأهمية الاستثنائية لهذه الرواية الصادمة، التي تتمرد على التابوهات الثورية التي كانت مقبولة في زمن سابق، ولكنها الآن مرفوضة، وهذا ما أشار إليه يوسف ضمرة بقوله: «ربما لو نشرت هذه الرواية قبل عقدين أو ثلاثة، لانهالت عليها شتائم النقد التقليدي الذي أنتجته الكتابة النمطية نفسها، وفرضته حكماً وقيّماً على الكتابة، لكن هذا التوقيت قدم خدمة مهمة لمثل هذه الكتابة، إذ لم تعد ثمة حاجة للمقدس في النضال الإنساني».

رواية «الحاسة صفر» هي الأولى لمبدع الدواوين الشعرية «دم غريب، مذكرات فارس في زمن السقوط، البوم على بقايا سدوم، آنست ناراً»، هي نوع من النقد الذاتي للثورة والثوار وللمقاومة الفلسطينية؛ استثماراً للربيع العربي الذي تمرد على الواقع المكرس تحت شتى الذرائع والمبررات التي أوصلتنا إلى حالة مزرية على كل الصعد، والمقاومة الفلسطينية ليست استثناءً، فقد تخلى أصحابها عن السلاح وارتضوا بالمفاوضات التي جعلت من القضية الفلسطينية مجرد بيدق على طاولة شطرنج، وغدت قضية عادية ضمن قضايا كثيرة تعصف بالمنطقة والعالم!

يستوقفنا العنوان «الحاسة صفر» منذ الوهلة الأولى ويدفعنا للتساؤل. وفي ثنايا الرواية يشبع الكاتب فضولنا: «الحاسة صفر هي الحاسة التي لازمتني منذ ولادتي. الحاسة صفر هي حاسة الخيبات والوجع الذي لا يتوقف أبداً، هي الحاسة التي لا تصل إلى حقيقة قط، حاسة القلق والشك والألم».(151)، ولعله بهذا يؤصل إلى مصطلح جديد قد يأخذ مجراه في الأدب وعلم النفس. والحاسة صفر يبدو أنها سابقة لغيرها من الحواس، وهذا قدر الفلسطيني، وقدر كل المعذبين في الأرض، فالقلق والشك والألم والخيبة والوجع هي القاسم المشترك بين كل هؤلاء. ومن الملاحظ أن مفردة الصفر تتكرر كثيراً في النص لمزيد من التجانس مع العنوان.

أول ما يلفت الانتباه في الرواية جرأتها على كسر النموذج المألوف للمقاتل الفلسطيني، فقد تعودنا أن نقرأ عن المناضل المحاط بهالة من البطولة والمثالية والقدرة الأسطورية على الصمود والطهرية الثورية وغير ذلك من الصفات، ولكن هذه الرواية عرفتنا إلى نوع جديد أو على الأصح صورت لنا شخصية المقاتل الفلسطيني على حقيقتها، كشخص عادي له سلبياته وإيجابياته، له نزواته وأخطاؤه وشهواته وضعفه وخوفه وجبنه وربما خيانته، شخص مثلنا يحلم ويألم، له طموح وأسرار ومناطق رمادية، فأبوعلي يبيع الذخيرة لأبي أرسلان، وأبوالفوز يستغل الثورة ليحصل على معاش لأخته الأرملة ولو على حساب عواطف رفيقه سعيد الدوري، وأحمد يعمل لصالح الموساد ويقدم أخته ليلى للقوات اللبنانية، وليلى تضاجع الرجال، وعبدالحميد يزود سعيد ببندقية تخذله، وسعيد يحب ويعشق، ويستعين بحليمة العرافة لمعرفة مصير عيسى، ويكاد لا يسلم أحد منهم من شرب الخمر إلى حد السكر أحياناً، وهم على خط النار وعلى بعد خطوات من العدو المتربص بهم. بل إن نبش قبور الشهداء في مدينة جرش أظهر أن الدود قد التهم لحم الجميع وليس ثمة وجود لجثث مازالت غارقة بدمائها كما كان متوقعاً.

كما أطلعتنا الرواية على أن المقاومة ليست معصومة، فهناك تجاوزات وخيانات واختراقات وفساد وقتال داخلي، أي أنها تعاني مما تعاني منه الدول والأنظمة، ومن أمثلة ذلك، افتضاح عملية نهاريا على رغم السرية والتكتم الشديد في اختيار الطاقم، وتعرض أحمد للاختطاف على خلفية مخطوطات قمران، والاقتتال الداخلي بين قوات عرفات وأبي موسى في الشمال اللبناني، والسماح لأبي عبدالله بالمكوث في معسكرات المقاومة بحجة الكتابة عن الحرب في لبنان.

هذه الواقعية تجعلنا نتعاطف مع المقاومة والمقاومين، وتقربهم إلينا، ما يؤدي إلى أن نتسامح مع أخطائهم، ونتجاوز عن تقصيرهم، ونغفر لهم جبنهم، فهم بشكل أو بآخر انعكاس لنا، ومرآة لمجتمعهم!

يستوقف القارئ في الرواية الجانب الفكري والفلسفي في معظم مفاصلها، ويدعوه للتفكير والتحليل والتأمل والغوص علَّه يتوصل إلى إجابات أو توضيحات، ولكنه لن يحظى إلا بمزيد من الشك والريبة والتساؤلات التي لا تنتهي. وفي المقدمة تبرز ماهية المقاومة والثورة وبماذا تختلف على الأنظمة، ثم الأمن ومبرراته، والمرأة والحب، واللغة، والماركسية، والتاريخ والحقيقة والموت والأسر والشعر، وفلسفة الخوف والاعتراف، وغير ذلك مما تتناوله الرواية على شكل إشارات وتلميحات لا تزيد القارئ إلا حيرة وقلقاً لتؤكد على فاعلية الحاسة صفر.

صدمة الرواية الكبرى كانت عندما أخبر سامي أخاه سعيد الدوري بما أسرت إليه جدته لأمه له، وهي حادثة تعرض أمهما للاغتصاب على يد ضابط يهودي يدعى «مردخاي» وذلك في أثناء سقوط مدينة حيفا العام 1948، وأن عيسى الذي يبحثون عنه ما هو إلا ابن ذلك اليهودي، وقد اعترض جده على قتلها وزوجها لابن أخيه تجنباً للفضيحة، وأن ذلك الضابط أصبح الحاكم العسكري لمدينة الخليل بعد نكسة 1967، وتعرف على الجد وأهانه وكشف سره، ما أدى إلى وفاته غماً وقهراً، ورحل والدهما وأسرته إلى عمان، ويبدو أن هذه الحادثة وتداعياتها تسببت في موت الوالد أيضاً في عمان. كانت هذه الحكاية صادمة لسعيد وتسببت له في حالة بكاء متواصلة لمدة طويلة من الزمن. وسواء أقصد الكاتب الحكاية ذاتها أو باعتبار الأم رمزاً لفلسطين فإن سرد هذه الحكاية يعد جرأة من الكاتب، ولعل هذه الحادثة على رغم أنها وقعت العام 1948، إلا أنني أرى أن الكاتب يقصد بها ما بعد أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، حيث التنسيق الأمني بين السلطة والعدو، واللقاءات المتواصلة والمفاوضات والتدخلات اللانهائية في الشأن الفلسطيني من إغلاق المعابر وتجميد الأموال ومنع السفر والحصار وغير ذلك ما يعد انتهاكاً واغتصاباً واستباحة للوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع!

ومن مفاجآت الرواية مصير عيسى الذي بقي لغزاً، فالبعض يؤكد أنه مات، إلا أن بيريز يؤكد لسعيد أنه سيخبره بمكان عيسى إن تعاون معهم. وزواج ليلى من المتشرد رجب كان من الأحداث التي لا تفسير لها، إلا إن كان هروباً من الواقع المر، أو أن رجب ليس متشرداً كما يتظاهر.

وقد تناولت الرواية موضوعات المخيم الفلسطيني الذي يتشابه أينما وجد «المخيم هو المخيم... أينما حللت ثمة وجه واحد للمخيم الفلسطيني لا يتغير، وكأن يداً واحدة هي التي نسجت كل خيوطه وتفاصيله» (62)، وموضوع فك الارتباط، ومكانة عمان بالنسبة للفلسطيني، وموضوع تطهير الثورة ممن يريد حرفها عن مسارها، وذل المؤن...

تعرض سعيد الدوري للتحقيق ثلاث مرات في بيروت وعسقلان وعمان؛ في بيروت إثر تحريره من خاطفيه على خلفية مخطوطات قمران وذلك على يد خليل. وفي عسقلان بعد فشل عملية نهاريا الفدائية على يد المحققين اليهود. وفي عمان بعد محاولة اغتيال بيريز على يد الأجهزة الأمنية. ومن الملفت أن سعيد يؤكد حقيقة أن التحقيق هو التحقيق وأن المحقق هو المحقق في أي مكان، بل إن سعيد يحدث نفسه بعد أن وضع خليل أمامه رزمة أوراق وثلاثة أقلام: «سأجلس في تل أبيب في غرفة مشابهة تماماً وسيطلب مني الطلب ذاته، وسيأتونني بنوع الورق نفسه، ونوع الأقلام نفسها» (244) في إشارة واضحة أن المحققين في كل مكان هم من طينة واحدة، أو أنه يقصد شيئاً آخر أخطر!

وظف أبوسليم «مخطوطات قمران» بشكل أكسب الرواية مزيداً من الإثارة والحركة والأحداث المتلاحقة، في محاولة منه للاتكاء على التاريخ لإثبات أحقية الفلسطينيين بفلسطين، أو لإدانة إسرائيل وتأكيد لعنتها التاريخية. ومع يقيني أن من حق الكاتب أن يوظف ما يشاء للتدليل على ما يشاء، أو لمزيد من الإثارة، فإني أرى أن توظيف «مخطوطات قمران» لم يكن مبرراً، فالرواية ابتداءً لا تنقصها الإثارة، والحق لا يثبته تاريخ، أو مخطوطات أو كتب مهما تراكمت، فالقوة هي التي تثبت الحق، وهي التي تؤكد هذا الحق «من يمتلك القوة يفرض شروطه» (306). أما التاريخ فهو بضاعة الضعفاء، و «دليل الأغبياء» (108). وبعض التبصر من حولنا، يؤكد هذه الحقيقة الساطعة!

لا شخصيات رئيسة في الرواية، استحوذت على الأحداث والاهتمام، فالرواية رواية المهمشين أو رواية المقاومين في الصفوف الخلفية على رغم أنهم على خط المواجهة الأول، فسعيد وميشيل وأبي الفوز وخليل وإدريس ونضال وأبي علي وغيرهم من مختلف الجنسيات والطوائف والقوميات يشكلون نسيج المقاومة، يجمعهم رفض الظلم والعدوان، ومع أن هذا التنوع يثري المقاومة ويمنحها بعداً إنسانياً إلا أنه قد يكون سبباً في تهتك هذا النسيج، فليس كل المقاومين والثوريين جيفارا، فهو حالة خاصة لا تقبل التعميم!

لغة الرواية كانت مدهشة طوال 334 صفحة، حيث يقع القارئ بسهولة في غواية اللغة وفتنتها، إذ وظف الكاتب اللغة الشعرية لخدمة النص الروائي بحرفية عالية، ولم نلاحظ أي طغيان شعري أو إقحام في غير محله، بل كانت اللغة الشعرية أشبه بالتوابل التي أضفت على النص نكهة متميزة، وجعلت له مذاقاً لا ينسى!

ومن حيث الشكل الذي اعتمده أبوسليم في روايته فيلخصه الشاعر محمد لافي بقوله: «إن الرواية في مستواها الفني سجلت قدرة عالية في الإمساك بخيوط السرد، تمظهرت في شكلين: الكلاسيكي والحداثي القائم على القطع السينمائي وتقنية الاستباق والاسترجاع».

وبعد، فرواية «الحاسة صفر» (دار فضاءات، عمان، 2012) تعد علامة فارقة في مسيرة أدب المقاومة، ونقطة تحول سيكون لها ما بعدها، بعد أن مهد أبوسليم الطريق لآخرين، وفتح باباً كان مغلقاً. كما تعد بلا جدال من الروايات المميزة أردنياً، وستبقى تثيراً جدلاً واسعاً واختلافاً في الرأي بين مؤيد ومعارض ومشكك، وستحظى بمزيد من الدراسات على أكثر من مستوى لأهمية الرواية والجدال الذي أثارته، فقد ألقت حجراً كبيراً في الماء الراكد!.

العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً