العدد 3592 - السبت 07 يوليو 2012م الموافق 17 شعبان 1433هـ

الحوكمة العالمية... النظام الاقتصادي والثقافي (3)

أحمد داوود أوغلو

وزير الخارجية التركي

إلى جانب النظام السياسي، يعتبر النظام الاقتصادي الدعامة الثانية من الحوكمة العالمية الحقيقية، وهو ما يحتاج إلى تحليل على مستوى بيئة الأزمة التي نواجهها في هذه الأيام، حيث تغيرت طبيعة الإنتاج والتفاعلات الاقتصادية في الآونة الأخيرة بشكل كبير، وذلك نتيجة للابتكارات التكنولوجية بشكل أساسي.

يشهد العالم تحولاً سريعاً، ولعل المال والأسواق المالية هي الأسرع تحولاً فيه. هذا هو المستوى الثاني الذي ينبغي لنا أن نتعامل فيه مع مسألة النظام الاقتصادي. فرغم التغيرات السريعة في الأسواق المالية، ظلت الهياكل التي يعمل داخلها القطاع المالي ثابتة تقريباً، وكذلك البنية المؤسسية المحيطة. ورغم الأزمة المالية الكبرى في السنوات القليلة الماضية، والتحول الواسع في نطاق النشاط الاقتصادي العالمي، كانت المحاولة الموضوعية الوحيدة للتعامل مع التحديات والفرص الجديدة هي إقامة مجموعة العشرين غير الرسمية، وهذه المجموعة أكثر تمثيلاً من مجموعة الثماني لكنها لا تمثل الهدف المنشود.

إن ظهور مجموعة العشرين هو أقرب ما يكون إلى الإصلاح الجزئي والمحدود في مجلس الأمن الدولي، والذي هو نفسه كان مخيباً للآمال، في حين أن ما هو ضروري حقاً هو إصلاح منظومة الأمم المتحدة بأسرها.

باختصار، نحن بحاجة إلى إصلاح الجهاز المالي الدولي برمته. هذا التحول يجب أن يكون عالمياً، بمعنى أنه يحتاج إلى إبداء أقصى درجات الشمولية، وبالتوازي مع تجديد نظامنا الاقتصادي العالمي، هناك حاجة لتسهيل المعاملات الاقتصادية بين المناطق وداخلها، كما ان هناك حاجة لتعزيز الاكتفاء الذاتي الإقليمي. وهذه الدعوة لا تعني أن على المناطق أن تسعى للانعزال أو للحكم المطلق، بل عليها أن تعزز تلاحمها داخل سياقاتها الإقليمية وذلك لتسهيل التفاعل المفيد مع المناطق الأخرى.

طريق الحرير

لو عدنا إلى الوراء، لأمكننا اعتبار طريق الحرير مثالاً جيداً. فطريق الحرير لم يسهّل فقط نقل البضائع ولكنه أيضاً سهل التفاعل بين الشعوب والمجتمعات من الصين إلى أوروبا عبر المساحات الواسعة والمستمرة للمنطقة الأوروبية الآسيوية، وفي الوقت نفسه كان طريقاً للسلام. فلكي يستمر النشاط التجاري كان لابد من إحلال السلام.

وكما تشير هذه التجربة التاريخية، هناك دائماً علاقة وثيقة بين التفاعل الاقتصادي الواسع النطاق وإقامة نظام سياسي مستقر. لدينا في عالم اليوم خطوط للطاقة، وهذه يمكنها أن تكون مفيدة لجميع الأطراف لو سادت عقلية على غرار عقلية طريق الحرير في تنفيذ هذه المشاريع. لكن التفكير والسلوك الدولي الحالي يشجع للأسف على المنافسة والصراع بدلاً من التعاون. علينا أن نقتنع أن خطوط الطاقة تزيد المنفعة للجميع، في الوقت نفسه الذي توسع فيه من أشكال الترابط. ولهذا لا ينبغي للجهات السياسية العاقلة الفاعلة أن تخاطر بمصالحها من خلال الإضرار بالمنطلقات التفاعلية للترابط الاقتصادي، وأفضل وسيلة لتحقيق السلام هي من خلال الترابط الاقتصادي، وينبغي تمتين أدوات الترابط الاقتصادي وتعزيزه من أجل توطيد النظام العالمي.

قد يصلح نموذج مجموعة العشرين لقيام نظام اقتصادي عالمي، ولاسيما إذا تكامل مع بعض المؤسسات الأخرى التي ذكرتها من قبل، وهذه المؤسسات ضرورية لإنشاء نظام اقتصادي جديد والحفاظ عليه.

النظام الثقافي

الركيزة الأساسية الثالثة للحكم العالمي هي النظام الثقافي. وهنا نرى نزعتين متناقضتين تناقضاً محدوداً لا كلياً. فمن ناحية، مع انتشار الثقافة العالمية هناك تقارب تدعمه سبل إنفاق أعداد متزايدة من الناس لأموالها على أشياء مماثلة في أنحاء مختلفة من العالم. ومن ناحية أخرى، الثقافة العالمية هي ثقافة تعددية تنتقل فيها مجموعة الأعراف والتفاهمات والممارسات التي تنبع من سياق واحد إلى سياقات أخرى، حيث تغير وتتغير في هذه الأثناء. وتتضح هذه الظاهرة إلى حد كبير في النهضة الثقافية والحضارية في الهند والصين والعالم الإسلامي وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ومع أن هذه النهضة أثارت بعض القلق، كونها تمثل شكلاً من أشكال القومية الثقافية، لا ينبغي اعتبار إحياء التقاليد والحضارات الأصيلة تهديداً لنظام الحوكمة العالمية المحتملة، فهذه جميعاً مكونات أساسية من التاريخ البشري والثقافة الإنسانية.

لقد آن الأوان لرفض النظريات الهنتنغتونية القائلة بحتمية صراع الحضارات، وعلينا أن ننظر إلى هذه النهضة الحضارية العالمية بوصفها مداخل كثيرة لأشكال جديدة من التفاعل والتواصل بين البشر. فإذا أدركنا أنه بإمكاننا أن نتعلم الكثير من جميع حضارات العالم، فهذا ينبغي أن يكون مدعاةً للاحتفال. وهذا التفاعل سيوفر حيوية ثقافية جديدة ويسهم في ظهور ثقافة عالمية حقيقية يتعايش ويتفاعل فيها التقارب والتعددية بطرق مثيرة. ويجدر بنا أن نستذكر هنا مبادرةً وثيقة الصلة، وهي إنشاء تحالف الأمم المتحدة بين الحضارات الذي قادته تركيا وإسبانيا والذي تشارك فيه حالياً 86 بلداً.

إن فكرة تحالف الحضارات لا تشير فقط إلى العلاقة بين «الشرق والغرب» أو بين «الإسلام والمسيحية»، وهذه التصنيفات بحاجة إلى تفكيك لنراها على حقيقتها التعددية والدينامية لا بوصفها تصنيفات متجانسة جامدة. والشيء ذاته ينطبق أيضاً على المحادثات الجارية بين الأطراف الفاعلة مثل تركيا والبرازيل. فبالإضافة إلى عمله على المستويين الوطني والدولي، يسعى التحالف أيضاً لضم العديد من الثقافات الأصلية في عمله، ولتطوير عملية تعلم مشتركة من أجل تعايش متعدد الثقافات في جميع أنحاء العالم.

ويمكن القول إن التعددية الثقافية هي سمة نمطية من سمات البنى الإمبريالية الصاعدة. فحين قام نظام الحكم الروماني في مبتدأ أمره، كان أعضاؤه من أصل روماني صرف، وحين توسع أصبحت روما بحلول القرن الثالث الميلادي، مدينة للفرس والمصريين والإغريق واللاتين والجرمانيين. هذه سمة نمطية للنظام السياسي الإمبراطوري، غير أن عصر الأنظمة الإمبراطورية قد ولى. ففي ظل العولمة، علينا أن نرى أن التعايش المتعدد الثقافات ليس مسألة تراتبية وتبعية، بل مناسبات للاعتراف المتبادل ولتعزيز رغبتنا البشرية المشتركة في العيش في سلام وعدالة ورخاء في هذا العالم المتنوع.

لقد خلقت عملية العولمة عوالم مصغرة متنوعة في جميع أنحاء العالم، وهذه تكاد تكون ضرورة تاريخية. لن تكون هناك بعد اليوم مدن نقية الأعراق والأديان، بل سيكون لمدننا جميعاً طابع عالمي وهذا في الواقع تطور صحي.

في سياق تحول تفكيرنا هذا تجاه التعايش المتعدد الثقافات، تصبح آمال تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قضية ذات صلة وأهمية. تقف أوروبا اليوم على حافة التسامح والتعددية الثقافية ويشهد على ذلك صعود الأحزاب القومية المتطرفة بشكل عام، والهجمات الإرهابية في النرويج بشكل خاص. إن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ستجعل منه مركز جذب متعدد الثقافات على الصعيد العالمي. وسيكون لاستجابة الاتحاد الأوروبي للمسعى التركي تأثير مباشر في قدرته على الارتقاء إلى مستوى تحدي العولمة في الوقت الحاضر. وينبغي على الاتحاد الأوروبي استغلال الوضع لمصلحته الخاصة، لأن في ذلك إسهاماً في ظهور نظام عالمي يستجيب للحظة التاريخية.

خاتمة

في ضوء المناقشات السابقة، يمكن للمرء أن يذكر خمسة مبادئ للحوكمة العالمية في السياق الحالي. المبدأ الأول هو الإدماج. وهو مبدأ يفترض أن تقوم الحوكمة العالمية فيه على نظرة جامعة للعالم، لا نظرة مانعة. ومن اللافت للاهتمام أنه عندما ننظر إلى السجل التاريخي، لا تلبث عوامل الإقصاء أن تجد نفسها مستبعدة. يجب التخلي عن فلسفة الإقصاء لتسود بدلاً منها فلسفة الإدماج في عالم اليوم.

المبدأ الثاني هو الشمولية. ينبغي أن يكون تركيزنا شاملاً بمعنى أن الحلول التي نستنبطها يجب أن تشمل جميع المناطق والموضوعات والأفكار السياسية والنظام السياسي والاقتصاد وثقافة كل واحد على كوكبنا. فلو تجاهلنا أي واحد من هذه الأبعاد، فلن نتمكن من معالجة القضايا المصيرية المطروحة على نحو كاف. فالتحديات المعقدة في عصرنا تتطلب حلولاً شاملة.

المبدأ الثالث هو التمثيل التشاركي. فأيّ مؤسسةٍ تقوم بغرض إقامة الحوكمة العالمية يجب أن تمثل جميع الجهات الفاعلة ذات الشأن. على سبيل المثال، في حالة الدولة القومية، وكما يتجلى في محاولات إعادة إعمار العراق، فإن أي محاولة لبناء الدولة يجب أن تمثل جميع الفصائل في البلاد. هذا أمر لا مناص منه لضمان الاستقرار في العراق. ولو طبقنا المبدأ نفسه على المنظمات الدولية، فإننا نتوقع منها أن تكون ممثلة لجميع الأطراف ذات الشأن في أنحاء العالم قاطبة.

المبدأ الرابع هو الفعالية. نحن بحاجة إلى أن نكون حازمين في حل المشكلات، وهذه الحاجة برهنت عليها إمكانية تحول النزاع في القوقاز أو مشكلة القطاع المالي في الولايات المتحدة إلى أزمة عالمية محتملة. علينا أن نستجيب بشكل فعال وحازم، وأن نستبق الأمور ما أمكن لمنع اندلاع الأزمات في المقام الأول.

المبدأ الخامس هو تكوين رؤية مستقبلية. بمعنى أنه ينبغي أن تتحرر مقاربتنا للقضايا العالمية من عبء التاريخ – أو بالأحرى من عبء التأريخ – الذي يغص بالتحيز والآراء الإقصائية. علينا أن ندرك أن جميع البشر لهم مصير واحد ومستقبل واحد، بغض النظر عن منافساتنا الصغيرة. إن التغيرات المناخية تمثل تحدياً هائلاً لنا جميعاً في مقبل الأيام. لهذا، يجب أن ينطلق نظام الحوكمة العالمية الجديدة من رؤية مستقبلية ثاقبة البصيرة.

ما نحتاجه هو تعزيز الوعي بمستقبلنا المشترك من خلال رؤية تشترك فيها كل الأطراف الفاعلة، رؤية تأخذ بعين الاعتبار الحساسيات الحضارية بين الشعوب.

إقرأ أيضا لـ "أحمد داوود أوغلو"

العدد 3592 - السبت 07 يوليو 2012م الموافق 17 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:42 م

      تصفير المشاكل

      عودوا الى سياسة تصفيؤ المشكال سيد اوغلو كي يحترمكم الجميع. وشكراً.

    • زائر 2 | 3:05 ص

      أثبتت السياسة الخارجية التركية أنها فاشلة بكل المقاييس قفبعدما كانت تستجدي الدول الغربية لضمها للنادي الأوربي المسيحي طوال عقود حتى ملت منهم، جائت للمنطقة العربية بلباس اسلامي وركبت موجة القضية الفلسطينية ( وأنا هنا لا أزايد على أحد )من أجل التقرب للعرب ولكن ما تحت الطاولة ستكشفه الأيام القريبة جداً وعندم أكتشفت حركات المقاومة بالمنطقة بأن تركيا ودولة خليجية صغيرة يستخدمون ضدهم كحصان طروادة عندها كشرت عن أنيابها وراحت تعادي دولة ممانعة للغرب تحت يافطة حقوق الأنسان.

    • زائر 1 | 1:06 ص

      البحث عن المجد التليد

      فرق بين النظرية والواقع وبين ماهو معلن والخفي ... للاسف فشلت تركيا المحترمة بسياستها تصفير المشاكل والتي اكسبتها احترام الشعوب العربية بالذات .... حين قاربت الربيع العربي والذي يبدو انه شكل الوقت المناسب لاستيقاظ المجد التركي البائد التي تبحث عنه تركيا من جديد وعلى حساب الشعوب العربية والسلامية مرة اخرى.... يا سيد اوغلو لو تعودوا لسياستكم الجميلة ( تصفير المشاكل ) ستنالون ما تريدون وبشكل اجمل.

اقرأ ايضاً