العدد 3621 - الأحد 05 أغسطس 2012م الموافق 17 رمضان 1433هـ

ما أحوجَنا إلى المجانين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لم يُجانب صديقنا الحقيقة، عندما قال: ما أحوجَنا إلى المجانين في هذا العصر. ذكَّرني بما قاله الكاتب الفرنسي، أندريه جيد، من أن أجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها المنطق. صديقنا قال قولته، وهو يرى العالَم يمشي على غير ما مَشَت عليه سليقة البشر، وفطرتهم، ومنطق الأشياء عندهم. حتى الرموز المعرَّفة، لم تعد ألوانها هي ذاتها، التي اتسَمَت بها.

قبحُ الكذب لا يتغير؛ لأن قبحه هو قبحٌ ذاتي، وكذلك بقية الأشياء السَّيِّئة. والحال هو ذاته ينطبق على الأشياء الحَسَنَة، في ذاتية حُسْنها. اليوم، نجِد أن هذه البديهيات تغيَّرَت. لم يعد الكذب ذو القبح الذاتي، كذِبًا بالضرورة! ولم تعُد الأشياء الحَسَنَة، حَسَنَة بالضرورة! هذه أعجوبة حقاً! ليس ذلك فحسب، بل قد يصبح الكذب صدقاً، والصدق كذبًا في حركة معقوفة بشكل حاد!

نعم، هذا هو حالنا بالضبط. لكن ما يزيد الحال تعاسة وعزاءً، وأكثره سفاهة، حين ترى كاذبًا مشهوداً له بالكذب الصراح، يعطيك نصائح في الصِّدق ومثوبته. أو أن ترى ظالمًا يعلِّمك كيف هي العدالة. أو أن تجِد فاجرًا يعلِّمك كيف تجتنب المعاصي. هذه الأمور مُستهجَنة في ذوق البشر، لكنها اليوم، باتت واقعًا في عالمنا. الكذابون والظالمون والفاجرون يقدمون النصح للناس، كلٌّ بما يناقض سلوكه، إن كان في الكذب أو الظلم أو الفجور. أبَعْدَ هذا توجَد قطرة حياء عند هؤلاء؟!

قبل أيام، كنت أتابع المداولات التي جَرَت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقبلها ما جرى في مجلس الأمن بشأن الأوضاع في سورية. كنت أحملق في وجوه عدد من مندوبي دول غربية بعينها! الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، الجمهورية الفرنسية، وأتساءل: هل هؤلاء المندوبون يملكون الجرأة على الحديث عن الحريات والديمقراطيات والحقوق التي يجب أن تنالها الشعوب؟!

كنت أنظر إلى المندوب الفرنسي السفير جيرار أرو وأقول: هذا الرجل، بالتأكيد أنه ولِدَ قبل مساء السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الاول من العام 1961، ما يعني أنه أدرك ما فعلته فرنسا، بحق مئتي جزائري، قامت بإغراقهم عمدًا في نهر السين، واعتقال أحد عشر ألف جزائري آخرين، أذاقتهم أنواعًا بشعة من التعذيب، بعد مظاهرة، شارك فيها ثلاثون ألف جزائري يطالبون فيها فقط بالاستقلال!

هذه الحادثة، كُوَّة صغيرة، يمكنك أن تنظر من خلالها، إلى مسيرة قرن واثنين وثلاثين عامًا من الاحتلال الدموي للجزائر. ليس دمويًا في لفظة الدَّم الجسدي فقط، بل دمويته انسحبت على سياسات الفرنسَة، ومحو الهوية، التي أرادوا لها أن تصبح شَرْكِسْيَا ثانية، لولا مليون جزائري، اختاروا أن يحفظوا اسم بلدهم وتاريخهم ومستقبلهم على حساب أرواحهم الشهيدة.

وكنت أنظر إلى وجه المندوبة الأميركية سوزان رايس، وأقول هذه المرأة ولِدَت قبل السادس عشر من مارس/ اذار من العام 1968 بأربعة أعوام، حينما، كان الجنرال الأميركي وليام كايلي يطوِّق قرية ماي لاي الفيتنامية، ويقوم بإحراق بيوتها، وقتل مَنْ فيها، وقد تجاوزت أعدادهم الـ 500 مدني! وعندما أثارت وسائل الإعلام تلك القضية، أصدر الرئيس الأميركي السابق نيكسون عفوًا خاصًا عن كايلي!

وهذا أيضًا، ثقب صغير، يمكنك أن ترى منه أزيد من 130 حربًا دخلتها الولايات المتحدة الأميركية مع دول شتى، بلا تفويض من الكونغرس ما خلا ست منها. ولأننا نعيش في هذه المنطقة، فنحن الأكثر قربًا من القسوة الأميركية، التي شهدنا أنها تتلاعب بدولنا وشعوبنا وكأنهم أحجار للشطرنج. لا تبتئس حتى على مقتل مليون منا، مادام برميل النفط محفوظا ومُصَانا.

وكنت أنظر إلى المندوب البريطاني مارك ليال غرانت، وأتساءل: كيف يتجرأ هذا الرجل وبكل وقاحة، وهو يتحدث عن الحرية والديمقراطية، والوزر البريطاني لم يُغسَل بعد في كورج وقلعة ميرت وبلاسي وكسر ومناطق أخرى في الهند، عندما كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تحتل ذلك البلد، وتبيع أهله من أجل خيراته الطبيعية الوفيرة المشحونة إلى أوروبا الصناعية.

حتى المندوب الإسرائيلي رون بيريسور، ذَرَفَ دموعًا جافة على الوضع في سورية بكل فجاجة، وهو يقول «حان الوقت أن يوحِّدَ صوتُ الضحايا المجتمع الدولي ضد طغاة دمشق»! أيُّ صفاقة مثل هذه يمكن أن يتخيلها الإنسان؟! هل من المعقول أن تخونه (وهو أمر لا يُصدَّق) أو تخوننا نحن الذاكرة إلى هذه الدرجة، وننسى ما فعله هؤلاء بنا؟! لا يمكن أن يحصل ذلك. وإن حصل، فهذا يعني أننا في أدنى مراتب الذل والهوان.

إن كان لأحد أن يتحدث عن الوضع في سورية، فنحن أحق من أولئك الإمبرياليين. لا يعلموننا كيف نتعاطف مع الثورة السورية في حين أنهم أكبر القساة على ستين سنة من الثورة الفلسطينية. ولا يعلمونا كيف نتعاطف مع اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن والعراق، في حين أنهم يركلون خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، بل ويتنصلون من مسئوليتهم الأخلاقية تجاه أربعة عشر ألف لاجئ في موريتانيا من الأزواديين الفارين من الحرب في شمال مالي.

الخبير في السياسات الأمنية لدى مؤسسة العلم والسياسة في برلين ماركوس كايم قال قبل أيام، ان خمسة خيارات استخدمتها الدول الغربية في حربها السرية ضد سورية، وهي: التدريب، التسليح، المساعدة في فرار السوريين، استخدام طائرات استطلاع، وحشد الوحدات الخاصة! ونحن نقول، ان هذه الوسائل لم نجدها تقدَّم للفلسطينيين، ولا إلى دول لاتينية، كانت ترزح تحت وطأة الاستبداد. هذا الاستغراب والتساؤل ليس هلاميًا، ولا هو من الديماغوجيا، هذه حقائق.

خلاصة القول، اننا لا نعيش في زمن العقلاء. هذا هو زمن الجنون، رغم ادعائهم المنطق. ومادام هو كذلك، فمن غير السليم، أن يتم التعامل مع هؤلاء بغير ما يتعاملون هم معنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3621 - الأحد 05 أغسطس 2012م الموافق 17 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:24 ص

      شكرا للكاتب

      إن كل المصائب والإطهاد في عالمنا هو من جور واستبداد من يدعون الديمقراطية والحرية ...قامو بمسرحة استقلال دولنا لكي يحكموا علينا من يكونون أيدهم الباطشة الناهبة

    • زائر 3 | 7:58 ص

      .. إلى متى ؟

      الدول الغربية تمارس الديمقراطية مع شعوبها لأنها منتخبة منهم ، لو انحرفت إلى الدكتاتورية لاسقطت شعبيا
      وهي تمارس الدكتاتورية على غير شعوبها ، عبر أذيالها ، لتحافظ على مصالحها وتدفق الثروات لبناء حضارتها
      أما آن الأوان لتحكم الشعوب العربية نفسها بيدها عبر حكومات منتخبة تحافظ على مصالح شعوبها ، وتمارس الديمقراطية الحقيقية
      وتعيش الند للند مع العالم الغربي ، على مبدأ تبادل المصالح بصورة عادلة .. كما تبني الحكومات الغربية حضارتها وتطورها ، علينا بناء حضارتنا ونطورها بثرواتنا

    • زائر 2 | 1:40 ص

      اين العدالة !!

      لا نحتاج ان نذهب بعيدا بذاكرتنا فما فعلته امريكا في العراق من جرائم يندى لها الجبين ولا زالت اثار جرائمها يعاني منها الشعب العراقي ولا من حسيب او رقيب وغيرها من الجرائم ولكن من اكبر جرائم تلك الدول مساعدتها لأنظمة دكتاتورية ضد إرادة شعوبها طوال عقود مرت والآن تتباكى على الشعب السوري فهل يصدقها احد غير الأغبياء !!

    • زائر 1 | 12:42 ص

      الدول الغربيه والحول ..!!

      لا أدري كيفت قامت القيامه علي سوريا والفلسطينيون يذبحون بشكل يومي ؟؟
      أمريكا وأسرائيل وبعض المتخاذلين من العرب لا تعجبهم سوريا بحجه دعمها للمقاومات العربيه ,,

اقرأ ايضاً