العدد 3647 - الجمعة 31 أغسطس 2012م الموافق 13 شوال 1433هـ

الكاتبة الألمانية دويتشكرون: حياة من أجل أبطال صامتين

جعلت الكاتبة الألمانية اليهودية إنغه دويتشكرون من التذكير من أهم واجبات حياتها. فقد نجت من المحرقة النازية وعملت طوال حياتها على وضع تجربتها في متناول يد الجميع. وتحتفل الكاتبة الشجاعة هذه الأيام بعيد ميلادها التسعين.

خفة خطواتها أبرز ما يلفت الأنظار إلى هذه السيدة الرقيقة وضئيلة الجسم، بحذائها الأحمر الصارخ تعصف إنغه دويتشكرون بهواء شقتها الكبيرة في حي شارلوتنبورغ في برلين. رفوف الكتب وصور بالأسود والأبيض تزين جدران منزلها، ورائحة الزهور تفوح غرفها. «بالنسبة لي ينبغي أن يحمل اليوم الواحد ساعات أكثر»، تقول إنغه وتمر بيدها خلال شعرها القصير. مشاريع إصدار كتب جديدة ومحاضرات تلقيها في كل أنحاء العالم، كما أن زيارة المدارس من مكونات برنامجها المليء بالمواعيد. «ليس من السيئ أن يكون المرء في التسعين من العمر»، تقول ذلك ضاحكة.

عندما احترقت الآمال

إنغه دويتشكرون من أهم شهود التاريخ في العصر الراهن؛ فقد عاشت بشاعة الحقبة النازية بكل ما فيها من أسى ومعاناة، والتذكير بذلك بات من صلب مهامها الحياتية. نشأت إنغه في كنف والدها المعلم الذي كان راسخ القناعة بالفكر الاشتراكي الديمقراطي في برلين. «لم نكن متدينين إطلاقاً»، تقول إنغه، وتضيف: «عرفت أني يهودية في العام 1933. فبعد أن تقلد النازيون مقاليد السلطة؛ بدأ زملائي في المدرسة يتجنبوني، وأخذوا يشتموني باليهودية القذرة».

«سلبونا تدريجيّاً كل الحريات التي كنا ننعم بها»، تتذكر إنغه دويتشكرون وتستطرد الكاتبة الألمانية قائلة: «في البداية حرمنا من استخدام وسائل النقل العامة. ثم منعنا من الخروج من المنزل بعد الساعة الثامنة مساء، بعدها فرضوا علينا تسليم كل ما نملك من مال وحاجيات». وكان والدها قد مُنع من ممارسة مهنة التعليم منذ فترة.

أسطورة هتلر الكاذبة: من ابتكر الطرقات السريعة؟ شاب ألماني يروي ماضيه النازي وكيف تخلص منه... جولة في المعالم اليهودية بالعاصمة (برلين) وعلى رغم ذلك صعب عليه آنذاك، حاله حال الكثير من يهود ذلك الزمان، فهْمَ واستيعاب جدية ما يجري حوله. «كان يشعر بأنه ألماني، وشارك في الحرب العالمية الأولى وقاتل من أجل وطنه (ألمانيا)، وكان يعتقد أن هتلر رجل غبي لا ضرر فيه»، تقول إنغه عن والدها. لكن أحداث ليلة التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1938، عندما هاجم النازيون بشكل علني المؤسسات اليهودية وأشعلوا النيران في معابدهم، تبصر والدها. «أحرقوا المعابد وأصبح دم اليهودي مباحاً»، تصف إنغه دويتشكرون تلك الأحداث.

أبطال صامتون

تمكن والدها من الهجرة بعد تلك الأحداث بفترة وجيزة إلى انجلترا على أن تلتحق به زوجته وابنته إنغه، لكنهما لم يتمكنا من السفر. ورأت الأم والابنة عمليات ترحيل الجيران والأصدقاء إلى معسكرات الاعتقال، حيث تم قتلهم. لكن إنغه دويتشكرون وأمها نجتا من الموت بفضل مساعدة الناس لهم في الاختفاء لديهم بشكل غير قانوني. «كانوا من غير اليهود، كانوا حرفيين عاديين ومتقاعدين ومتقاعدات»، تتذكر إنغه. « كانوا أناساً لا يتحملون وحشية النظام النازي، لذلك جازفوا بحياتهم من أجل إنقاذ حياتنا».

وتمكن أكثر من 1700 من سكان برلين من اليهود من النجاة من المحرقة بفضل مساعدة وجهد «الأبطال الصامتين»، كما تسميهم إنغه دويتشكرون. لقد كانت تلك الإنسانية التي ساهمت في الغفران بين ألمانيا الوطن وبين الجناة. بعد الحرب هاجرت إنغه إلى بريطانيا، ثم عاشت فترة في إسرائيل.

وفي العام 1955 عملت إنغه مراسلة لصحيفة «معاريف» الإسرائيلية في بون، عاصمة ألمانيا آنذاك. وكان ذلك في حقبة المستشار الألماني الشهير كونراد آدناور، حيث كان النازيون السابقون يعملون في كل مرافق الدولة، كما تتذكر إنغه. وتضيف «قال لي أحدهم وهو يبتسم في وجهي، إنه عصر جديد وعلي أن أنسى كل ما جرى».

شجاعة مدنية ضد كل ما هو غير إنساني

نسيان ما جرى، هذا ما لا تستطيع إنغه فعله. كتبت في كتاب سيرتها الذاتية عن التهميش الاجتماعي الذي عاشته في الحقبة النازية تقول: «كنت أحمل شارة النجمة السداسية الصفراء». كما كتبت في كتابها الأخر «حياتي بعد نجاتي» عن مماطلة الألمان في التعامل مع مسئوليتهم عن تلك الحقبة. وعملت في جمعيتها التي أسستها باسم «الثقة العمياء» ضد كل أشكال التمييز، حاصلة بهذا النشاط على جوائز تقديرية عدة، منها جائزة موزيز ـ منديلزون. لكن الأهم بالنسبة لها هو الحديث مع جيل الشباب. لذلك تزور المدارس وتتحدث عن تجربتها المريرة. عن ذلك تقول إنغه بفخر: «يريدون معرفة الكثير ويطرحون الكثير من الأسئلة».

يشكل فضول الشباب والحساسية البالغة بالنسبة إلى السيدة العجوز بارقة أمل، حيث تقول محذرة: «من الممكن أن تحدث كارثة من هذا النوع مرة أخرى». تقول هذا الكلام وهي تشير إلى صحيفة ملقاة على طاولتها تحمل عنواناً بارزاً يقول: «ثلاثة شبان من اليمينيين المتطرفين من مدينة تسفيكاو يقتلون الأجانب لسنوات طويلة من دون أن تشعر بهم الشرطة». أمر يُغضب إنغه كثيراً. لكنها لا تيأس ولا تستسلم للأمر الواقع، حتى ولو دخلت العمر التسعين. بالجرأة وبالشجاعة المدنية تواجه إنغه دويشكرون كل عمل غير إنساني.

العدد 3647 - الجمعة 31 أغسطس 2012م الموافق 13 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً