العدد 3659 - الأربعاء 12 سبتمبر 2012م الموافق 25 شوال 1433هـ

الدول تُبنَى بالأفكار لا بالهراء

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

«فكرة الجمهورية في فرنسا» هو عنوانُ كتابٍ قيِّم، للمؤرخ الفرنسي كلود نيكوليه (1930 – 2010) صادر عن المنظمة العربية للترجمة. الكتاب، لا يتحدث عن الثورة الفرنسية كثورة، وإنما عن إفرازاتها لواقع سياسي جديد، وبالتحديد قِيَم الجمهورية الفرنسية، التي كانت بمثابة الطوفان الذي غيَّر شكل القارة الأوروبية السياسي والاجتماعي. وقد ركَّز المؤلف في بحثه على الحقبة الممتدة من العام 1789 ولغاية العام 1924، أي مئة وخمسة وثلاثين عاماً.

كتاب كلود نيكوليه، لا يرصد الجمهورية الفرنسية مؤسساتياً ودستورياً، بل هو يرصدها منذ انعقاد نطفة فكرتها. هو يناقش أفكارها الأولى، والخيال العلمي، والنقاشات التي صاحبتها ما بين كبار المفكرين في ذلك العصر، وما أوجده ذلك من شكل مادي قائم، اسمه الجمهورية الفرنسية. فنيكوليه، يستعرض أفكاراً جمهوريةً، بدأت عصابية متشنجة، وأخرى سابقة حتى على أصل الثورة الفرنسية. بل إنه استعرضها منذ أن كانت لفظة، ثم تحوَّلت إلى اصطلاح.

وقد توصَّل نيكوليه إلى أن فكرة الجمهورية قديمة جداً، فبدأ بها منذ الإمبراطورية الرومانية، ثم مرَّ على عهد جان بودان في القرن السادس عشر، وانتهى إلى زمان الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وما بين الضفتيْن التاريخيتيْن، وقَفَ نيكوليه على فروقات تفسيرها بشكل مخيف. فقد انتهى التفسير خلال حكم لويس السادس عشر، إلى أن الجمهورية تعني التمرُّد والقضاء على المَلَكِيَّة بالقتل، إلى أن استقر مرادفها لاحقاً على العدالة والحرية، بعد أن تشيَّدت على شكل مؤسسة حكم، تعنى بالتعددية، وحقوق المواطنة، والاحتكام إلى القانون.

إن ظهور فكرة الجمهورية في البلاد الأوروبية، وبالتحديد في فرنسا، يعطي مؤشرات مهمَّة، إلى مدى حيوية المجتمعات التي عَصَفَت فيها (وبها) تلك المفردة، فكوَّنتها على أنها إحدى أهم أنساق التطور السياسي لها ولشكل الحكم عندها. فالشعب الفرنسي، لم يبدأ حراكاً سياسياً عبثياً دون رؤية سياسية وفكرية للحكم البديل، بل أسَّسَ إلى نظرةٍ متقدمةٍ لما يريده من السلطة. أكثر من ذلك، فقد تدفقت قِيَم الجمهورية على مؤسسة الحكم، على شكل أفكار قابلة للتطور، ومرتهنة بملاحظة التجربة وتتبعها، وتلافي أخطائها، وإضافة ما يجب إضافته لها.

أيضاً، فقد دللت الوقائع والأحداث، إلى أن القيم العليا أو التي تمناها الفرنسيون وسعوا إلى تطبيقها، لم تتشكل فقط من الأفكار الإيجابية، بل هي أيضاً تتفاعل مع الأفكار الخاطئة، والممارسات السيئة التي سبقت التحوُّل الحقيقي للسلطة بعد العام 1789، كونها تدفع إلى تخليق العمل وتمييزه. فالأمور تعرف بأضدادها. فالعدل نتمناه عندما نجرِّب الظلم، ونتمنى الرفاه عندما نجرِّب الإملاق، وهكذا دواليك. وبالتالي، فإن فكرة الجمهورية الفرنسية، تشكَّلت كذلك، بالتفاعل مع الحقبة المظلمة للرجعيَّة الفرنسية وما سبقها، ومن إمبريالية نابليون بونابرت.

كما أن هذا المشوار من التقدم السياسي، ليس مفصولاً عن بقية المسارات الأخرى للحركة العامة للمجتمع. بمعنى، أن مثل هذا التطور في مفهوم الجمهورية، لم يكن نتاج عَمَل سياسي محض، بل إن الأفكار والفلسفات، ساهمت هي الأخرى في جعل المسألة أكثر رشداً، كون العمل الفلسفي والمعرفي يضرب عادةً في أساسيات البناء، الذي يسبق عملية التشييد، وبالتالي، فقد لعبت الأفكار، وصانعوها، وفلاسفة ذلك العصر، دوراً بارزاً في إظهار مثل ذلك التطور النوعي.

وكلّ مَنْ رَجَعَ إلى عهد الفرنسيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، سيلاحظ مدى ارتباط الفكر بالسياسيين العاملين في الفضاء العام حينها. بمعنى أن السياسيين، كانوا مبنيين بناءً فكرياً صلباً، فحصل هناك أشبه بالمواءمات التي لا تحتاج إلى وسائط اتصال. فزعيم اليعاقبة المتطرفين، ماكسميليان روبسبيير كان مفكراً. وكانت التيارات المنافسة له في أتون اللعبة الثورية، يقودها مفكرون كذلك، كتيارَيْ الجيرونديين واللامتسروليين وأضرابهم.

لقد تعرَّض نيكوليه في بحثه القيِّم لكل من مونتسكيو كأحد آباء الجمهورية الفرنسية الرائدة. وتحدث عن مابلي وروسو وكوندورسيه وفولتير. وعندما كان يتحدّث عن الجمهورية في ظل الديراكتوار، تطرق أيضاً إلى كوندياك وكابانيس وفولناي ودستوت دو تراسي ودونو وغيرهم. وبالرجوع إلى بعض تلك الأسماء، يتضح أن بعضهم توفي مع بداية الثورة، ولم يُدرك فعلها الحقيقي، وهو ما يعني تراكميَّة العمل الفكري والسياسي، الذي كوَّن مفهوم الجمهورية آنذاك.

إن أهم ما كان يُميِّز الفرنسيين، هو أنهم لم يتوصَّلوا إلى يقينيات سياسية، بل هم تركوا أفكارهم عرضة النقد والتجريح والمقاربات. ففي الوقت الذي كان هناك نقد ليبرالي، كان هناك نقد اشتراكي، وفي الوقت الذي هناك راديكاليون، كان هناك معتدلون، بل إن ذلك الأوان، قد أنتج نزعة محافظة أيضاً كانت تدافع عن الرجعية كما في حالة لويس دو بونال، وفرانسوا دو شاتوبريان، وجوزيف دو مستر، وقد أفضى كل ذلك النقاش إلى إنتاج أفضل الأفكار السياسية.

وقد امتد ذلك إلى ما هو أبعد من الحالة النظرية والفكرية، فيلامس ثقافة التجريب، حيث وَصَلَ الأمر إلى أن يحكم فرنسا دستور جمهوري أوَّلي حتى العام 1785، ثم وبعد الثورة، جاء إلى الحكم الراديكاليون، الذين أنتجوا حقبة الرعب والمقصلة، ثم جاءت الملكيَّة العائدة، ثم جاءت الثورات الفرعية، ونفوذ المعتدلين من الطبقة السياسية. وهذا الأمر، انسحب كذلك على كل النشاط المفترض للدولة، ما بين النشاط السياسي والثقافي والاقتصادي.

في كل الأحوال، يعتبر الاطلاع على هذا السِّفْر لنيكوليه فرصةً جيدةً لتوسيع المدارك، وفهم ظروف وتجارب شعوب أخرى، عاشت تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية مهمَّة، يمكن لنا في هذا العصر أن نقرأ تفصيلاتها، فهي تمنحنا القدرة على غربلة الأمور، بعيداً عن العواطف، وأقرب إلى العقل.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3659 - الأربعاء 12 سبتمبر 2012م الموافق 25 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:23 م

      رمتني بدائها

      زائر 3 تقول للاستاذ انة منحاز و انت في طلبك منحاز لايران راجع نفسك

    • زائر 3 | 1:49 ص

      علي نور

      مقالك الكريم مبسوط العبارة، مشبع المعنى ، مقبول الأطناب، يخاطب الالباب ، شديد المراء ضعيف الهراء ، لم يدخر وسعاً في بيان الفكرة وتوضيح العثرة.. واشد على قلمك النظيف ان تكثر من هدة المقالات فهي تخصصك، وتتعفف من الخوض في ما دونها من المقالات التي يظهر انحيازك فيها واضح جلي كتلك التي تناولت فيها قمة عدم الانحياز و حمس وايران فهي من امثال المقال الذي ذكرت فيه ان سوريا تكذب حتى في نشرات الاحوال الجوية .

    • زائر 2 | 12:13 ص

      سليم

      كلامك عين العقل بس من يفهم من هالسياسيين والحكام؟؟؟؟!!!

    • زائر 1 | 12:01 ص

      كلام جميل

      شكرا لك

اقرأ ايضاً