العدد 3698 - الأحد 21 أكتوبر 2012م الموافق 05 ذي الحجة 1433هـ

كيف يُزوَّر التاريخ؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

البشر، هم من يصنعون حياتهم. وماداموا هم كذلك، فهذا يعني، أنهم أيضًا مَنْ يصنعون نعيمهم وجحيمهم. والفاصل ما بين النعيم والجحيم، هو الفاصل ذاته ما بين الخير والشر. فعندما يصنع الناس فعلهم بالخير، فإنهم بذلك يصنعون حياة خَيِّرَة، وعندما يصنعونها بالشر، فإنهم يصنعون حياة شريرة. إذاً، معركة البشر بالأساس هي مع نوازع الفعل ودفوعه.

إن هذه النوازع والدفوع، هي التي صاغت الأفكار الشريرة على مرِّ العصور. وربما كانت إنجازات ألمانيا النازية في مجال العلوم، لا تقدَّر بثمن طبقًا لمقاييس ذلك الزمان، إلاَّ أن أغلبها كان قد وُظِّف لمشروعها العنصري والتوسُّعي. وليس غريبًا أن نتذكر، أن الأميركان، أنفقوا ستة عشر تريليون دولار خلال نزعة الحرب الباردة الشريرة، جلها في مجال التسلُّح والفضاء، نكاية بالسوفيات.

في غير مرَّة، أقرأ أشياء من التاريخ، يتعذر على العقل هضمها لعدم اتساقها تاريخيًا، ولبعد الحقب فيها، وأيضًا، لعدم انسجامها حتى مع المنطق. بالتأكيد، هناك أشياء حدثت قد لا يتخيلها منطق ولا سليقة، ووثقها المؤرخون، إلاَّ أن ذلك لا يمنع أن يكون هناك مُدَّعون تاريخيون بغير حق. وباعتقادي، أن الصراع السياسي، الذي وُجِدَ متلازمًا مع الحروب، وتلته صراعات الحرية ضد الاستبداد، التي كوَّنتها الثورات الاجتماعية والسياسية، هما ميزاب ذلك التزوير الخطير.

في الحروب، فإن الخصوم، يتحدثون في إعلامهم الحربي بصديد الكَلِم عن بعضهم بلا حد وبلا سقف للمعنى. ويفعلون بسيوفهم ورماحهم ما لا يفعله الكلب المسعور في عضِّته. يقولون ويفعلون كلَّ ذلك، إيغالاًُ منهم في شيطنة بعضهما دون كلل أو ملل. فلقلقة اللسان بالنسبة لهم، هي بالقيمة ذاتها التي يفعلها السَّيْف والرمح في عَرَصَات الوغى. لا فرق بينهما مطلقًا.

وإذا كان الصراع المزبور، لا يحترم أيّ شيء مقدس، فهذا يعني، أننا أمام تفسُّخ في القيم، وعدم احترام للضمير ولا للمسئولية. وعندما يغيب كلُّ ذلك، يغيب طعم الحياة الآدميَّة، لصالح الحياة الوحشيَّة الغابيَّة، التي ينفصل فيها فارق الإنسان عن الحيوان. حياة لا يكون فيها الدَّم رخيصًا فقط، وإنما تكون فيها الأعراض والأموال والحرمات والمعتقدات والصُّور منتهَكَة عارية هي أيضًا.

في هذا العصر، نحن نشهد أسوأ مراحل تلك الحياة الغابيَّة، وهي تزوير الفعل اليومي للبشر. نعم... لقد تخطينا مرحلة قتل النفس، لننتقل إلى تشويهها. نمثِّل في جثة قتَلنَاها، ثم نبدأ في التمثيل بما كانت عليه حياتها، تشويهًا وكذبًا إمعانًا في تظهيرها، على أنها هالة من الإجرام. نقول عنها ما لم يكن فيها، ونتهمها بما لم تفعله، ونلبسها ما لم تتقمَّصه. وهذا هو القتل المعنوي كاملاً.

إن من يُزوِّرون الوقائع، هم لا يرومون أن يصدِّقهم الحاضر، الذي يظل شاهدًا على ما حصل، بل هم في الحقيقة، يريدون أن يصدِّقهم مَنْ سيأتي بعدهم بسبعة قرون. حينها، لا يستطيع أحدٌ أن يُفكك حادثة تاريخية سابقة، بكل تفصيلاتها، لا من حيث وقت وقوعها، ولا من حيث أبطالها من البشر. هم سيقرأون الأمور بدون تمحيص، كونها أحداثًا تاريخية، ونقطة في نهاية السطر.

لو أن شخصًا اليوم (ولأسباب سياسية أو خلافها)، كَتَبَ جملة في كتاب تقول: بأن الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة أحمد جبريل، كان عميلاً للحركة الصهيونية، حيث ساعَد اليهود في النكبة بمجموعة كبيرة من مقاتليه، على احتلال قريتي إشوع وبيت محسير غرب مدينة القدس، لإقامة مستوطنتي موشاف أشتاؤول وبيت ميئير!

هذه الكذبة، لو دُسَّت في بطن كتاب، ليقع بعدعدة قرون، في يد القراء، فهل سيتكفل أحد منهم البحث في شخص أحمد جبريل، وإدراك أنه وُلِدَ في العام 1938، بينما عام النكبة العام 1948، وأن قرية إشوع هُدِمَت في ذلك العام، وأن مستوطنة أشتاؤول تأسست في العام 1949 وبيت ميئير في العام 1950! بمعنى أن جبريل كان في عام النكبة، يبلغ من العمر، عشرة أعوام فقط!

ثقوا، أن الكثير من حوادث التاريخ، التي تلقيناها، وشربناها على أنها حقائق ومُسلَّمات، كانت كذبًا محضًا، صاغه الحقد، والتنافس السياسي بين الجماعات والأفراد، ونحن اليوم نعيش ضحيته، مساكين لا نلوي على شيء. لقد سبَّب لنا ذلك، أن ندير معارك حاضرنا بأسرها، على وقع حوادث التاريخ المهجور، الذي لا يزيدنا إلاَّ تخلفًا وانحطاطًا؛ فكثيرون مازالوا يريدون نصرًا واهِمًا.

اليوم، وأمام ثورة المعلومات الرهيبة، تصبح المسئولية في كتابة القول الصادق، بالمسئولية ذاتها التي نلتزم بها للحفاظ على روح آدميَّة. نعم... لا فرق بين تلك وهذه. لأن السليم من التفكير يقول، ان ما نخطُّه سيكون تاريخًا بعد قرون عِدَّة. وإذا كان كذلك، فإنه لمن الخطأ الفادح، أن نورِّث أجيالنا تاريخًا موبوءًا، يكونون فيه موتورين، يُسرجون من أجله الخيول، ويجمعون له السيوف.

نحن لا نورِّث المال ولا العيال ولا الجُدُر والعمار لأجيالنا فقط، بل نحن نورِّث لهم حقبًا وأفعالاً وتدافعًا، وشئون حياة يجب أن تكمَل. وإكمالها لا يكون بتضمينها زوايا للصراع، تنقص من بنائها إن لم تهدمها، بل بمحفزات، وبتدوينات صحيحة، لا تشوِّه ماضيًا فتجعل من حاضرهم متثاقلاً كسيحًا. فإذا كنا حريصين على ادخار المال لأبنائنا كي يعيشون حياة هانئة، فعلينا أولاً أن ندخر لها تاريخًا متساكنًا متسالمًا، لكي يعيشون حياة اجتماعية سليمة جامعة لا منفِّرة أيضًا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3698 - الأحد 21 أكتوبر 2012م الموافق 05 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 12:53 م

      وجهت نظر

      التاريخ المعاصر لم يأتي من رحم الخيال وهو مستورث لتاريخ عادات الشعوب وهو يعتبر كرقم تسلسلي بالتاريخ يختلف تأثيره بمقدرات الحياة المتطورة بشتى الاوجه لذلك فأنا اعتقد ان ظرب الامثلة في بعض الوقائع قد تكون خاطئة بينما الطرح الفلسفي غالبا ما يكون مغايرا لصورته المقرؤة كأطروحة تتخاطب بشفافية ضابابية

    • زائر 5 | 3:47 م

      منك نستفيد

      أستاذ بارك الله فيك بس ياليت تعطينا أمثلة علي احداث و مواقف زور فيها او شوة صورة انسان ...

    • زائر 3 | 7:04 ص

      علي نور

      شكرا لك استاذ محمد مقال اروع من رائع .. حقيقة , بس الغريب جدا انك لم تتهم النظام السوري بانه هو الذي التاريخ .

    • زائر 2 | 1:05 ص

      احسنت ايها الكاتب المتمكن

      و اضيف ايضاً انه عندما وقعت واقعة كربلاء لماذا اصطحب الامام عليه السلام عائلته و اهل بيته معه؟ ليُكملوا الدور الرسالي اولاً و ثانياً ليُظهروا الحقيقة للناس لانهم يعرفون بأن الحقيقة سوف تُطمس و تُشوّه . ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ )

    • زائر 1 | 1:04 ص

      كما تزوّر الحقائق الآن

      هل هناك اكثر من تزوير للحقائق في زمن المعلومات والطفرة المعلوماتية؟
      ولكن البعض يصر على المعالطة وقلب الحقائق وتزويرها
      لن اضيف شيئا فواقعنا مرّ والمزورين كثر

اقرأ ايضاً