العدد 3701 - الأربعاء 24 أكتوبر 2012م الموافق 08 ذي الحجة 1433هـ

الحكّام لا ينتمون إلى طوائفهم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من أكثر الأخطار والرَّضَّات أثراً على الطوائف، حين ترى الأخيرة أن كرسي الحكم منها ولها. هي تعتقد أن ذلك سيمنحها منزلةً سَنِيَّة وامتيازات سخيَّة، لكنها لا تعلَم أنها ستُجتَرُّ معه في كلِّ شيء، صحيحه وسقيمه، عدله وظلمه. فكرسي الحكم، ليس حالةً هَزَليَّة، هو مسئولية متينة، يتطلب فيه العَدل على العامة، والتودُّد للخاصة، ومداراة الفقراء، وإنصاف الحقوق، وإنزال الرحمة والعفو عن الناس، ومنع حدوث الانتهاكات.

فإن فشِل ذلك الكرسي عن تحقيق ذلك، فستتحمَّل الطائفة المتماهية معه والداعمة له كلَّ تلك الظلامات؛ فيقع عليها الجرم والإثم بالتساوي مع ما وقَعَ على ذلك الحاكم. وحين تصبح كذلك، فعليها أن تهيئ نفسها لأن تتلقى ما سيتلقاه الحكم، الذي أقنعها أنه منها وهي منه. وقد حَصَلَ في التاريخ من تلك الزلات ما تفيض به المخطوطات والأسفار. ورغم أن تلك الأفعال الانتقامية هي جرائم، وتشكل انتهاكات صارخة إلاَّ أنها حصلت فعلاً، ولم يستطع أحد منعها.

لقد أعدَمَت الثورة الفرنسية التي اندلعت في العام 1789، سبعة عشر ألف إنسان في عام واحد فقط (لاحظوا تعداد فرنسا بحساب ذلك الزمان مقارنة باليوم)، لأنهم كانوا من النظام الملكي الفرنسي المنهار ومعه، متهَمِيْن من قِبَل الثوار، على أنهم كانوا جلادين في سجون الباستيل، وعملاء سريّين لأجهزة الأمن، وناهِبين للثروة الوطنية، ثم عملاءَ للفلول الملكيَّة الانقلابية العائدة.

وقام الجنود السوفيات بعد دخولهم برلين في العام 1945 ومع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، باغتصاب مليوني امرأة ألمانية في المناطق الشرقية لألمانيا، وبحرق البيوت، وتهجير السكان، وقتل الرجال، ونهب الغذاء والمحاصيل الزراعية، انتقاماً لما فعله هتلر في ستالينغراد وفي مراكز الأسْر، متهِمين ضحاياهم، بأنهم كانوا حاضنين للنازية، ولم يناصروا حتى حركة الضباط الألمان، الذين خططوا لانقلاب عسكري ضد هتلر في يوليو/تموز من العام 1944 وفشلوا فيه، ثم أعدِموا جهاراً.

ويذكر المؤرخون، أن ثلاثة عشر مليون ألماني طرِدُوا من الأجزاء الألمانية التي ألحقت ببولندا والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، انتقاماً لإبادة هتلر لـ 3.3 ملايين أسير روسي من أصل أكثر من خمسة ملايين أسير، كان يحتجزهم في معتقلاته الرهيبة. وقد دفعت طوائف وشعوب أخرى ذات الكلفة، سواءً في أوروبا أو في أميركا اللاتينية، وأيضاً في مناطق الشرق، وفي البلدان العربية حتى.

يجب أن تدرِك الشعوب والطوائف والجماعات، أن كرسي الحكم يسير على إيقاع مصالح الحكم وليس شيئاً آخر. هو لا يعترف إلاَّ بصَكِّ الطاعة، وبمنظومة معقدة من العلاقات والمصالح المتبادلة المرئية وغير المرئية. وما استناد بعض أنظمة الحكم، في العهد البعيد والقريب، بالطوائف والجماعات التي ينتمي إليها الحكام، إلاَّ من باب الاستثمار والتوظيف السياسي لا أكثر ولا أقل.

دققوا جيداً في مسيرة تاريخ الأديان والمعتقدات. فجميع الديانات التي كانت تتمدَّد دعوتها بشكل أفقي داخل الشعوب والمجتمعات، كانت الأقل توتراً وعصبية تجاه الأغيار. لكنها، وبمجرد أن يتم اعتناقها من قِبَل حاكم ما، تتحوَّل من ديانة عامة روحانية تعبديَّة إلى هالةٍ من الصراعات السياسية والاجتماعية الخطيرة، وفي أحيان أخرى، تسير نحو التوسُّع الإمبريالي باسم تلك الديانة، خصوصاً وأن ذلك الحكم، يُظهِر زوراً انتماءه لذلك الدِّين والطائفة، ومدافعاً عنه.

حدَثَ ذلك مع البوذية والهندوسية، اللتين ظلتا ولثلاثة قرون منذ بداية انطلاقتها، خارج منظومة الحكم، وبالتالي خارج دائرة الصراعات السياسية والاجتماعية. لكن وبمجرد أن اعتنقها الملوك والأباطرة، بدأوا في توظيف انتمائهم إلى تلك الديانات، والقيام بممارسات قمعية ضد شعوب أخرى، دفعت الأخيرة، لأن تتحيَّن الفرصة للانتقام، وجعل أتباع ديانة الحاكم المعتدِي عليها أهدافاً مشروعةً للشعوب التي مُورِسَ بحقها الظلم.

الأمر لا يختلف عن المسيحية الأوروبية، فبعدما كان المسيحيون يُنكَّل بهم على يد نيرون وغيره من الجبابرة، كان اعتناق الإمبراطور الروماني للمسيحية، سبباً في جعلها تدخل إلى ساحة الصراع السياسي، وبالتالي يسري عليها ما سَرَى على ديانات الشرق الأدنى. بل إنها دخلت في حروب متقطعة لا تنتهي طيلة عشرة قرون، حتى كللتها بحروب القرون الثلاثة الأخيرة. ولم تنتهِ تلك النبرة والحساسية حتى عصرنا هذا، وفي أجزاء معينة في أوروبا (ايرلندا مثالاً).

بل إن أوروبا لم تنفك عن ذلك إلاَّ عندما تخلصت من مسألة انتماء الحاكم إلى دين أو مذهب أو عرق. صحيح، بقيت هناك أعراف تتعلق بهوية دينية للكاثوليك والبروتستانت إلاَّ أنها هوية مكتومة، ولا يتم توظيفها أو تسخيرها من أجل تحقيق أهداف سياسية، أو القيام بأعمال تنسَب عقيدياً إلى ذلك الانتماء. وحتى عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير عن تغيير معتقده من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، مرَّ الأمر في بريطانيا بدون جَلِبَة ولم يُحدِث هزات اجتماعية.

كذلك، فإن الموضوع ليس متعلقًاً بالحالة الدينية فقط، بل هو ممتدٌ إلى حيث العِرق والانتماء القبلي والآيدلوجي، وكيف وظفه الحكام. وقد ضربنا مثالاً على تجربة هتلر في ألمانيا، وموقفه الشوفيني من السامية والغجرية، انتصاراً منه للعرق الآري، وما أحدثه ذلك من ردات انتقام حمراء لا نظير لها. أيضاً تكرَّر ذلك في البلقان، ما بين الصرب والبوسنيين والكروات، وإن كان بظروف مختلفة.

في كل الأحوال، فإن هكذا موضوع، يجب أن يكون معلوماً؛ فهو في الحقيقة مرتبطٌ بالسِّلم الاجتماعي داخل الشعوب. وعلى الديانات والطوائف والمذاهب والأعراق أن تدرك ذلك جيداً، وأن تقطع صلتها العقائدية أو العرقية أو الدينية بكرسي الحكم، وأن لا تكون محلَّ استغلالٍ من أحد تحت أي ظرفٍ أو شعار، لأنها ستكون ضحيةً لأخطاء يرتكبها ذلك الحكم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3701 - الأربعاء 24 أكتوبر 2012م الموافق 08 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 10:04 ص

      رسالة بليغة وتحليل موضوعي في الصميم

      شكرا لك ايها الكاتب النزيه ، ليتثقف ويتذكر من لاهم له الا جمع المال والاستحواذ لما هو حقا لغيره ظلما وبهتانا لمجرد كونه ينتمي لمذهب معين يعتقد ان الحاكم يلتزم به وهذا خطاء مدمر للاوطان لان الحاكم مذهبه ودينه هو كرسي الحكم وليس شيئ آخر

    • زائر 7 | 4:27 ص

      مانموهان سينغ

      لم نر طائفة السيخ في الهند وهي تحتفي برئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ الذي ينتمي إليها، ولا هو يستند إليها في قوته وحضوره لأن رئيس الوزراء في الهند هو رئيس للجميع . هذا الداء غير موجود إلا في عالمنا العربي مع شديد الأسف

    • زائر 6 | 3:15 ص

      شكرا

      نبارك للوسط كتابها اللدين لا يقبلون الا ان يتصفو ا بالمهنيه والمصداقيه والمعرفه . انت وأخوانك من كتاب الوسط فخر لنا وللصحافة العربيه.

    • زائر 5 | 2:29 ص

      شكرااا

      مقال رائع

    • زائر 4 | 1:40 ص

      شكرا

      مقال رائع جدا

    • زائر 2 | 1:01 ص

      شكرا

      اشكر للأستاذ محمد على هذا المقال الرائع
      مبدع دائما

    • زائر 1 | 12:03 ص

      مقال جميل

      حين اسمع ذلك الخطيب النائب على منبره يمذهب الحكم اقول في قرارة نفسي يا احمق انك تضر من حيث تريد ان تمدح

اقرأ ايضاً