العدد 3719 - الأحد 11 نوفمبر 2012م الموافق 26 ذي الحجة 1433هـ

حاكمٌ يتبرَّع بجُلِّ راتبه فلتنحنِ له الرؤوس

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قد يتساءل البعض: هل هذا خيال أم حقيقة؟ رئيس يتبرَّع بتسعين في المئة من راتبه، ويركب سيارة فولكس واجن قديمة لا يتجاوز سعرها الـ 1945 دولاراً! ربما لن يصدِّق أحدٌ ذلك ما لم يسمعوا برئيس جمهورية الأوروغواي خوزيه دوس سانتوس موخيكا (77 عامًا) الذي يقوم بذلك فعلاً، منذ أن تولى الحكم في بلاده في غرَّة مارس/ آذار من العام 2010 خلفًا لـ رودولفو نين نوفوا.

يقبض خوزيه موخيكا راتبًا شهريّاً وقدره 12.500 دولار (اثنا عشر ألفًا وخمسمئة دولار). يُبقِي لنفسه منه 1250 دولاراً (470 ديناراً بحرينيّاً) ويتبرَّع بالباقي للأعمال الخيرية. وعندما استغرب مراسل صحيفة «إل موندو» من حديث الرئيس إليه، قال موخيكا: «المبلغ الذي أتركه لنفسي يكفيني لأن أعيش حياة كريمة، وخاصة أن العديد من أفراد شعبي يعيشون بأقل من ذلك بكثير».

أفضَل ما قاله الرئيس موخيكا وهو يسمع أن منظمة الشفافية العالمية شهِدَت لبلاده بأن الفساد انخفض فيها بشكل كبير خلال عهده، وجعلها تحتل المرتبة الثانية في الدول الأقل فسادًا في أميركا اللاتينية «إن أهم أمر في القيادة المثالية، هو أن تبادر بالقيام بالفعل، حتى يسهل على الآخرين تطبيقه». فهو لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، فهذا أمر مستهجَن. وكما قال الأديب الفارسي سعدي الشيرازي «عيبٌ عليَّ وعدوانٌ على الناس إذا وعظت وقلبي جَلْمَد». نعم... اليوم يشهد العالَم بأسره لهذا الرجل الكبير أنه «أفقر رئيس في العالم وأكثرهم سخاءً».

من المعيب أن تجِدَ رجلاً زاهدًا كهذا، يعيش في أقاصي الأرض، ولا يُدين بدين سماوي، ثم ترى مَنْ يدَّعون الانتساب إلى دين الإسلام حكامًا وأبناء ذوات وزعامات، وهم يتنعَّمون بخيرات الأرض لحد البَطَر، في حين أن شعوبهم ومريدوهم وناسهم وجيرانهم يتلوَّون من الجوع والافتقار إلى الكِسْوة دون إحساس ولا مسئولية. كيف يهنأ لهم نومٌ وتتبارَك لهم نعمة وعافية وعمر مديد وهم كذلك؟!

إن هذا الأمر ليس بعيدًا عن الدِّين فقط، بل هو بعيد عن الإنسانية، التي هي أوَّل منزلة يجب أن يتبوَّؤوها ما داموا بشرًا. ويزيد من ذلك العمل الطالح عند أولئك، أنهم لا يكتفون بنسيان إنسانيتهم فقط، بل ويتاجرون بجوع وبفاقة الآخرين. فعندما يضع أحدهم ديناراً أو قِنطارًا لدى أسرة محتاجة، أو في مشروع خيري، صمَّ آذان الدنيا بفعله ذاك ليستحلب عطف الناس وحبهم.

لا يدَّعي أحدٌ أنه يجود بما لديه من مال ما لم يفعل ما يؤكد ذلك. بمعنى، أن الذي يملك مليار دولار، ويتبرَّع بمليون منه فهذا لا يعني تبرعًا وإحسانًا بل دعاية رخيصة، لأنه لا يزال يملك 999 مليون دولار! فأين المتبرَّع به من كل هذه الثروة القارونية! إذا أراد أن يكون متبرعًا ومُحسِنًا حقيقيّاً؛ فعليه أن ينفق ثلثي ثروته على أقل تقدير على الفقراء والمحتاجين كي يُقال عنه أنه يجود بماله. هذه ثابتة يجب أن يدركها الجميع. فأصحاب الفاقة لا ينبغي المتاجرة بأسمائهم ولا بخدمتهم أبدًا.

من حق الأثرياء أن يعيشوا أثرياء يرفلون في الخيرات، لكن ليس من حقهم أن يعشوا كذلك، إن كان في جوارهم فقراء بائسون، ليس في أيديهم ما يسد ويستر. ومن حقهم أن يعيشوا في قصور لا حد لطولها ولا تخوم لارتفاعها، لكن ليس من حقهم أن يسكنوا تلك القصور وبجوارهم مَنْ ينام تحت سُقُفٍ ودُوْرٍ وقد ذاب طوبها وتخدَّدت جُدُرها، وتشققت أبوابها وتزجَّجت نوافذها، تكوي أجساد ساكنيها أشعة الشمس اللاهِبَة، ويلسعها القَرْسُ والصقيع. هذه هي الحقيقة المرَّة.

كلما ضَرَبَ هؤلاء بينهم وبين الناس أسوارًا عالية، واتكأوا على فُرُش الحرير، ولبسوا ثيابًا من سُندُس، وسيَّروا المواكب الفارهة لهم ولأبنائهم ومريديهم، وأسرفوا في مأكلهم ومشربهم وراحلتهم، نفَّروا الناس من حولهم ومنحوهم فرصة أن يبغضوهم بحنق. فطبيعة النفس، لا ترتضي أن يُدَكَّ بها في الطبقية والتمييز وعدم المساواة، بل إلى البساطة ولِيْن الجانب والتواضع، بمن فيهم العبيد، الذين في نهاية مطافهم، ثاروا في السهوب والوديان ضد ظلم الرجل الأبيض.

هذا السلوك في الحكم من قِبَل رئيس الأوروغواي له تأثير كبير في نفوس المعدومين والفقراء، الذين لا أحد يسمع لهم، أو يلتفت لمأساتهم. كما أن هكذا سلوك يُروِّض الحاكم ويمنحه الإحساس بالناس وسِعَة الصَّدر، فيحبّ شعبه ويقبِّل أيديهم ورؤوسهم. لذلك، عندما فاز خوسيه قال أمام أنصاره في مونتيفيديو: «يجب أن نتذكر، أن هناك مواطنين حزينين، وهم إخوتنا في الدم، ولذلك فانه لا غالب ولا مغلوب» في إشارة منه إلى أنصار خصمه المهزوم في الانتخابات لويس لاكال.

موخيكا عندما كان معارضًا سياسيّاً أصابته قوات الأمن بالرصاص، ثم قضى أربعة عشر عامًا في سجون النظام الديكتاتوري الذي حَكَمَ الأوروغواي بالحديد والنار، منذ أيام خورخي باتشيكو، ومرورًا بـ ماريا بوردابيري وأباريسيو منديز وألبرتو ديميتشيلي. وربما مَنَحَه ذلك المشوار فرصة لتذوُّق المرارة، وإدراك معنى شَظَف العيش ويُبسِه وشدَّته، وبالتالي فهو يفهم ما يعنيه التفاوت والتمييز والفقر بالنسبة إلى الناس، وما يصنعه كل ذلك بالمجتمع. فالفقر أبو الجريمة كما قيل.

شكرًا لك خوزيه دوس سانتوس موخيكا لأنك صرت نموذجًا (قد) يحرج المتنعِّمين دون وجه حق. وعلى رغم أن تاريخنا الإسلامي ينضح بالمتندرات التي من المفترض أن تقرص جلد من يناسبهم هذا القول، فإن النسيان (أو التناسي بالأحرى) يستوجب التذكير عادة. وعندما يتذكر المرء، فعليه أن يفعل الصواب. «فالثروة التي ستحتفظ بها للأبد هي تلك التي تعطيها» كما قال الإمبراطور والفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3719 - الأحد 11 نوفمبر 2012م الموافق 26 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 15 | 10:17 ص

      شكرا ايها الرئيس

      لماذا الناس يصيبها الجنون هذا ما يجئ بخاطري حين اسمع مثل هذه الاخبار اوعلى اقل تقدير يصاب الانسان العاقل بالحيرة حين يؤمن بالسماء ولا يرى المؤمنون يعملون بما شرعته السماء ، ومتى ياتي الجنون او الحيرة حين نتيقن بان من لادين له ولنقلها مباشرة الملحدون هؤلاء ، ترى الكثير منهم نفوسهم انقى والمع من البلور في حين هؤلاء المؤمنون هل صحيح هم مؤمنين حين تكون نفوسهم اسود من القار واغلظ منه ، انك يا خوزيه دوس لك الف شكر فنحن نتعلم منك واميتنا من المؤمنين الدين يقبعون في القصور باسم الدين

    • زائر 14 | 2:41 ص

      يتبرعون بالكراسي

      وماذا لو سألناهم أن يتبرعوا بالكراسي فقط وليس بالأموال؟؟؟؟؟؟

    • زائر 13 | 2:54 م

      أحسنت أستاذنا القدير

      بس في نقطة مهمة وهي ان بعض الناس ما يملي عنها التراب لو أعطيتها عينك لطلبوا الاخرى

    • زائر 11 | 11:17 ص

      كلمة بليغة

      (((أن نتذكر، أن هناك مواطنين حزينين، وهم إخوتنا في الدم، ولذلك فانه لا غالب ولا مغلوب)))

    • زائر 10 | 10:12 ص

      عجل فرجك يا مولاي

      هنيأ لنا و نحن ننتظر صاحب العصر و الزمان الذي سيملأ الارض قسطاً و عدلاً و سيعم الخير و الامان و البركة و حتى الفقر سوف يزول و حينها لن تجد فقيرا تتصدق عليه نحن صابرون

    • زائر 9 | 8:10 ص

      أنا أتبرع لمن لا أعرفه

      أنا أتبرع ب 10 فلس عن كل رسالة (طابع المجهود الحربي والآن إسمه الأعمال الخيرية)ولا أعلم أين تذهب!!!!!!!!! لا أريد التبرع

    • زائر 8 | 6:02 ص

      المصلي

      نحن الشعوب المقهورة خصوصا في الدول العربية نتسائل هل لحكام العرب مرتبات حتى يقتدوا بالرئيس خوزيه موخيكا ويتبرعوا ولو بنسبة مئوية بسيطة جدا للمحرومين المقهورين من شعوبهم اكيد ماعندهم مرتبات مساكين هم لايهنئون بنوم اواكل اوشرب ويرون شعوبهم يسكنون في بيوت من الصفيح لاتوجد بها موقمات الحياة الكريمة في ظل ثروات لاتقدر على حملها الجبال الراسيات بعض الأسر المتعففة لاتملك قوت يومها ولا مصاريف لأبنائها عندما يذهبون الى الدراسة تقول لي هذا موجود في البحرين وانا اقول لكم وبكل تأكيد موجود

    • زائر 7 | 3:47 ص

      هل يمكن من الحكام المسلمين او العرب الاقتداء بهذا الحاكم (؟؟؟؟؟!!!!)

      لربما تاتي فتوى بانه لا يجوز لحاكم مسلم بهذا الاقتداء ويصبح غير مطبق للشريعة
      وهو من عمل الكفار . فقط لو توجد عدالة حقيقية للشعوب لاصبح العالم بيد المسلمين لاكن فرعون بعد فرعون .....

    • زائر 6 | 3:31 ص

      امريكا اللاتينيه

      تشافيز ايضا رجل عادل وانتخب لمره ثانيه لان شعبه توافقه وايضا نجاد متواضع وصالح لوطنه وسمعنا عنهم الكثير وهم اصدقاء ايضا نرجو ان تتحفنا بكتاباتكعنهم

    • زائر 4 | 1:51 ص

      الصراحة ما نبغيهم يتبرعون باللي عندهم

      والله والله .. لا يتبرعون بمعاشاتهم ما نبيها.. أهم شي لا ياخدون اللي عند الناس.. لأن اللي صاير أن الناس هم اللي يتبرعون للحاكم بس غصبا عنهم..

    • زائر 2 | 1:21 ص

      إذا كان هذا يتبرع ب90% من راتبه فالحكام العرب ليس لديهم راتب اصلا

      تقارن من بمن الحكام العرب ليس لديهم اي رواتب ويعيشون عيشة لا تحقق حتى في الاحلام

    • زائر 1 | 10:30 م

      المشكلة

      مقال جميل . البلوة إن حكام العرب ما عدهم رواتب عشان يتبرعون بها عندهم خزاين البلد كلها وهذي المصيبة

اقرأ ايضاً