العدد 3733 - الأحد 25 نوفمبر 2012م الموافق 11 محرم 1434هـ

كيف حدث هذا في سورية؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تمتلك الدول، نوعين من الأجهزة. الأول هو أجهزة القوة المادية كالقوات المسلحة والشرطة، والثاني الأجهزة الأيدلوجية كالتعليم ودور العبادة ووسائل الإعلام (على حد وصف لويس ألتوسير. الجهاز الأول، حصريَّة مُلكِهِ للدولة، هي من أوكَد المسلَّمات. فالقوة لا تتجزأ في الدولة الواحدة، حتى ولو كان النظام جائراً فيها، وذلك حفاظاً على وحدة اتجاه استعماله بدون صدى.

أما الجهاز الثاني، فهو بمثابة القوة الناعِمة للدولة. وربما دَرَجَت أغلب الدول، بما فيها الدول التسلطيَّة، على ترك جزءٍ منه للإدارة الاجتماعية والأهلية، كونه أحد مراوح التنفيس داخل الدول والمجتمعات. فأصبح جانبٌ من الإعلام مُحرَّراً بيد اتجاهات غير حاكمة، وأصبح جزءاً من التعليم خاصاً بيد البرجوازية العليا أو أصحاب الأفكار، وكذلك الحال بالنسبة لدور العبادة.

إذاً، القضية برمّتها تكمن في الجهاز الأول. وهو في الحقيقة، ما يعنينا حين نشير إلى الحالة السورية، بعد أن جَنَحَت المعارضة إلى حمل السلاح في مشروعها التغييري، فأصبح التقابل بينها وبين النظام تقابلاًً ذا ميزان عسكري، يعترك على الأرض الواحدة، ويتزوَّد لوجستياً، ويمارس إعلاماً حربياً كامل الأوصاف، فضلاً عن استناده على جهاز للمعلومات متعدد الأشكال، من الداخل والخارج عبر الحلفاء (الولايات المتحدة/أوروبا) وذلك لضرب قوة الخصم من كعب أخيله.

وعندما وَصَلَ الحال إلى هذه النقطة، بدا أن جهاز القوة المادية داخل الدولة السورية أصبح مشطوراً على سماطين، وبالتالي لم يعد اتجاه السلاح يتمتع بالوحدة، وإنما أصبح رهيناً للاستخدام المزدوج، وللفعل وردّة الفعل. ومنطق النزاعات الطبيعي يقول إنه وعندما يمتلك طرفان متخاصمان السلاح ويهدفان لإسقاط بعضيهما داخل الدولة الواحدة، أو التوغل في دائرتين متجاورتين فهذا يعني أننا في أتون حرب أهلية واضحة المعالم.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً دائماً في الأزمة السورية منذ عشرين شهراً وإلى الآن هو: كيف انفرط عقد الجهاز المادي في سورية (قوة الدولة التسليحية)؟ وإلى أيِّ اتجاه هو يسير اليوم وما هو مآله في ظل كل هذا الصراع الدموي؟ الحقيقة، وللجواب على هذا السؤال يتوجَّب علينا أولاً تكبير هوامش الصورة في سورية (Margin) ونبحث في مشاهد خلفية للأزمة قبل كل شيء، لكي تتضح لنا الأمور بصورة أكثر جلاءً، وبالتحديد فهم مشكلتي الجغرافيا والسياسة فيها.

أولاً، سورية هي بالأساس يحكمها نظام سياسي مغلق تماماً وكأنه بحر قزوين، لكنه يضم ثروة هائلة. ثانياً، هذا النظام المغلق سياسياً في الداخل، هو أيضاً أحد بقايا الحرب الباردة التي لم تتبدَّل أوضاعه حتى مع تبدُّل الميزان الدولي. ثالثاً، النظام المغلق في سورية، والذي هو أحد بقايا الحرب الباردة، لم يحسم أمره مع «إسرائيل». فهو لم يحاربها عسكرياً كما حزب الله (في لبنان) والفصائل الفلسطينية المسلحة (في غزة والضفة الغربية كذلك)، ولم يصالحها كمصر والأردن بمعاهدة سلام، وإنما جعلها معلّقةً في الجولان تاركاً الأمر لتقديرات الزمن علَّه يأتيه بميزان جديد، سانداً تلك التقديرات بدعمه لجبهات أخرى قريبة منه، سواءً في لبنان أو فلسطين المحتلة.

هذا التراكم في الشكل السوري خَلَقَ الأزمة الحالية بصورتها المستعرة الآن. فالنظام السياسي المغلق في دمشق، ولَّد معارضة مكتومة الصوت طيلة أربعين عاماً، لكنها تجلس على نار هادئة، ظَهَرَت على حين غِرَّة من بين أصابع الأجهزة الأمنية الرهيبة التي يمتلكها النظام، عندما بدأ الربيع العربي يتدحرج على عموم المنطقة، وهو الذي حفَّز الأموات فضلاً عن الأحياء، لأن يقوموا بعملٍ مناهضٍ للواقع المزري الذي هم فيه، بدون حريات شخصية ولا دساتير ولا قوانين ناظمة.

ثم بقاء سورية كأحد عناصر حقبة الاستقطاب دون حسم، على رغم التغيير الذي حدث في أوروبا الشرقية والبلقان، وما جرى في المنطقة العربية كالصومال واليمن الجنوبي وأخيراً العراق، بل وحتى في الجزائر ما بعد حقبة الشاذلي بن جديد ومجيء المجلس الأعلى للدولة، جَعَلَ من أمر تغييرها مهماً، خصوصاً في ظل تنامي الدور الروسي عالمياً، وبالتحديد في مجال الطاقة، وتحالفاته، ثم تغوُّلها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى وفي المنطقة الأوراسية حيث جورجيا، ثم في أوكرانيا الملاصقة لبولندا وسلوفاكيا والمجر من الغرب، ورومانيا ومولدافيا في الجنوب الغربي.

كذلك، فإن تعليق سورية لموضوع التسوية مع «إسرائيل» في مسألة الجولان، بعد مفاوضات غير محسومة معها، انتهت باختلاف الجانبين على أمتار معدودة من الحدود، الأمر الذي جعلها تبقِي على اعتمادها (حروب العَضّ) من الأسفل، التي تمارسها المقاومتان الفلسطينية واللبنانية عبر تقديم الدعم العسكري لها، دفع الغرب لحسم هذا المسألة السورية. فالغرب رأى أن الملف السوري سَعَّر من أوضاع المنطقة، الأمر الذي أدى إلى اشتعال أهم ثلاث عمليات عسكرية في بحر عقد واحد فقط: عملية السور الواقي التي قامت بها «إسرائيل» في الضفة الغربية (2002). حرب تموز بين «إسرائيل» ولبنان (2006). وحرب غزة الأولى (2008 - 2009). وربما يمكن حساب حرب الثمانية أيام الأخيرة في غزة جزءاً من ذلك التسعير أيضاً. (وللحديث صلة).

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3733 - الأحد 25 نوفمبر 2012م الموافق 11 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:03 ص

      سلهم

      سوريا كانت للعرب بيت وملجأ حين تلفض الأم وليدها سل شيوخ التحرير و الشعبية وسل مشعل و حماس و الجهاد بل سل السلفيين وإخوان المهجر سل الكويت وزمن التحرير الكل تنكر بئس العرب انتم

    • زائر 4 | 4:38 ص

      تحليل وتعليل علمي آخر

      يتحفنا به الاستاذ محمد في شأن الظاهرة السورية التي مازالت كلعبة الشطرنج يستغرق من البعض الكثير من الوقت لانهائها ولكن علينا ان ننتظر بقية الموضوع في الحلقة التالية ..واننا لمنتظرون

    • زائر 3 | 3:59 ص

      المعارضة في الداخل السوري تنفي اي علاقة لها بالسلاح وهي ترفض الجلوس مع النظام ولكنها ترفض استخدام السلاح من الطرفين كذلك بعض المعارضة في الخارج كهيثم مناع, كما انك اغفلت التدخلات الخارجية من كل الأطراف و دعم الدول الخليجية بالسلاح والرجال العلني وهو خير دليل على الوهن في الطرح بأن الثورة الداخلية تدرجت الى استخدام السلاح ..

    • زائر 2 | 2:05 ص

      ليسمح لي الكاتب

      هذا النظام المغلق على أقل تقدير تستطيع فيه المرأة أن تقود السيارة وأن تقوم بدور فني في الدراما وعلى المسرح وأن يظهر فيه غوار وهو ينتقد الحاكم والرئيس منذ السبعينيات . ولكن أنظر.....

اقرأ ايضاً