العدد 3786 - الخميس 17 يناير 2013م الموافق 05 ربيع الاول 1434هـ

بريطانيا في البحرين 2011... مدى توافق القيم والمصالح (4)

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

نستكمل اليوم استعراض الجزء الأخير من بحث ماثيو ويليس، الباحث في معهد (RUSI) في لندن بالمملكة المتحدة، عن الموقف البريطاني في البحرين خلال العام 2011، وما يحكمه من مصالح وحسابات.

يرى ويليس ان الإيحاء بأنه يتوجب على بريطانيا أن تأخذ مسافة من البحرين ان ذلك سيؤدي بالتحديد إلى نتائج عكسية لأهداف المملكة المتحدة، وهي بداية الابتعاد على نفوذها عن حكومة البحرين بطريقةٍ بناءة كلما أمكن، فكلما تدهور الوضع سعت بريطانيا لأن تكون أقرب، فانسحاب بريطانيا من الصورة لا يلحق الهزيمة بها فقط، لكنه يترك البحرين من دون أصدقاء في وقتٍ هي بأمسّ الحاجة إليهم. وذلك سيؤدي في النهاية إلى المحرك الأساسي للسياسة البريطانية خلال العام الماضي وهي التزام بريطانيا بالقيم.

سيثير ذلك سخرية المنتقدين طبعاً، لكن من المفيد لفت نظرهم إلى ان فكرة أخذ بريطانيا مسألة القيم بعين الاعتبار في سياستها الخارجية ثابت، سواءً في العقيدة أو الممارسة، وبالطبع لا يتم تطبيقه بعدالة دائماً، لكن ذلك لا يستثني وجاهته كمبدأ أو منافع تطبيقه كلما أمكن. فانطلاقاً من دورها التاريخي الحاكم في البحرين وما ترتب عليه من مصالح في تنمية البلاد، تدخلت بريطانيا في السياسة الداخلية للبحرين، وعادةً من أجل سيادة العدالة والمساواة في مجتمع البحرين. وكما يوحي بذلك هذا المقال في كون الإرث البريطاني للحماية البريطانية للبحرين هو مزيج من الاحترام المتبادل، ومن هنا انفتاح البحرين على بريطانيا ومزيج من اللمسة الناعمة والأبوية تجاه البحرين، ما يساهم في استمرار هذه العلاقة المتميزة، أما كم سيستمر ذلك فهي مسألة أخرى.

لقد بذل وزير الخارجية ويليام هيغ جهده للتأكيد على أهمية المبادئ للسياسة الخارجية البريطانية، ولفت الانتباه إلى الارتباط بين الترويج للقيم البريطانية ومصالح بريطانيا القومية. فالأمن البريطاني يتأثر سلباً عندما يفتقد الآخرون للأمن والسلامة، وغياب التعاون يخلق الأرضية الصالحة للنزاعات والارهاب في المستقبل، إذ قال: «سوف نكون صريحين في تعاملنا مع الدول التي لا تشاطرنا قيمنا أو تنتهك التزاماتها بحقوق الإنسان العالمية، وصريحين عندما لا نتفق معهم. سوف نستخدم كل إمكاناتنا في ذلك البلد في التعليم والمجتمع المدني وبناء المؤسسات مثل الشرطة والقضاء من أجل تعزيز تغيير إيجابي في بلدان هي بحاجة للمساعدة».

هذا الخطاب يتطابق تماماً مع ما جرى في البحرين من قمعٍ للاحتجاجات في الصيف الماضي، حيث أرسل السير بادون خطاباً إلى كبار المسئولين الحكوميين، ناقلا رسالة هيغ. كانت بريطانيا جادة بشأن قضايا حقوق الإنسان، وقال لهم انها تعني ما تقول، واستقبلت الرسالة في بعض الأوساط ببرودٍ، وفي حالاتٍ أخرى لا يُعرف عمّا إذا استُلِمت أم لا.

لم تكن حكومة ائتلاف المحافظين والأحرار هي أول من يعلن القيم البريطانية وحقوق الإنسان كقضية مركزية في سياستها الخارجية، لكنها الأولى التي نبهت البحرين إليها. ففي العام 1997، قام وزير الخارجية في الحكومة العمالية المنتخبة لتوها روبن كوك بإلقاء كلمة تاريخية، في مستهل مهماته، بشأن القيم البريطانية في السياسة الخارجية: «لا تقبل حكومة العمال أن تترك القيم السياسية خلفها... ويتوجب أن يكون لسياستنا الخارجية بعد أخلاقي». بعدها تحدث وزير الدولة لشئون الشرق الأوسط ديريك فاتشت في مجلس العموم بشأن سياسة الحكومة تجاه البحرين، وذلك رداً على سؤال للنائب جورج غالاوي عن كيفية تعاطي الحكومة العمالية مع البحرين في ضوء سجلها الملتبس تجاه حقوق الإنسان.

تحدث فاتشت بصراحة عن مشكلات البحرين وقلق حزبه وعزمه دراسة المواضيع التي طرحها غالاوي، ويذكر الدبلوماسيين البريطانيون ان الموقف المثير ظل ماثلاً في البحرين لسنوات. فقد احتجت حكومة الائتلاف الحالية علانية على سياسة القبضة الحديد لحكومة البحرين خلال ربيع 2011 ضد المحتجين، لكنها لم تتدخل مباشرة في تساوقٍ مع فلسفتها المتأصلة التي صاغت السياسة البريطانية في عدة بلدان مثل البحرين حتى قبل استقلالها، وهي تعزيز حقوق الإنسان والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة، لكن ذلك لا يعني دعم الديمقراطية. وعموماً فإن رؤية الخارجية البريطانية هو أنه حتى يكون التغيير في البحرين مستداماً فإنه يجب أن يأتي من الداخل.

قد لا ترضي هذه الفلسفة أولئك الذين يعتقدون انه يتوجب أن تقوم المملكة المتحدة بالمزيد، لكنها مرتبطة بسمعة بريطانيا كونها مبدءاً سابقاً للدبلوماسية، وفي ضوء المحاولات الغربية الأخيرة لنشر ضوء الديمقراطية للأجزاء الأخرى من العالم، وهنا يكون لدى بريطانيا ما تقدمه. وفي خطاب هيغ في 2010 أوضح بجلاء أن «التغيير المرغوب نادراً ما يكون مفروضاً على البلدان الأخرى، وقدرتنا على ذلك تتلاشى مع مرور الزمن، وتستند الديمقراطية على أسس يتوجب بناؤها مع مرور الزمن، وهي مؤسسات قوية وحكومة مسئولة ومحاسَبَة، وصحافة حرة وحكم القانون وحقوق متساوية للرجال والنساء والمشاركة. لا يعني ذلك أن نقف مكتوفي الأيدي أو أن نستقيل من مسئوليتنا بالقول إن التغيير في بلدٍ ما لن يحدث لعقود».

بحلول صيف 2012، كان المسئولون البحرينيون يتحدثون عن الربيع بصيغة الماضي، حيث تم تجاوز المرحلة الصعبة التي أضحت من الماضي، لكن حظراً للتجول لست ساعات، وحظراً كاملاً على التظاهرات، وتثبيت القضاء للأحكام الصادرة ضد النشطاء البحرينيين في سبتمبر/ أيلول، فإن الواقع يشير إلى غير ذلك. وعند كتابة هذا البحث، فإن المجتمع البحريني أكثر استقطاباً من أي مرحلة في تاريخه القريب، إذ تصاعدت حدة العنف وتبخّرت الأرضية السياسية الوسطية. ويعتقد المتفائلون أن نقطة اللاعودة إلى الوراء اقتربت، في حين يعتقد المتشائمون أنه تم عبورها في الربيع الماضي وأنها تنحسر بسرعة، حيث يعتقدون أن العناصر المتشددة في الحكم هي المهيمنة على البلاد ويقودونها إلى حيثما يشاؤون.

لم تقف الحكومة البريطانية مكتوفة اليدين، وفي تعريفها للأسباب الحقيقة للتذمر فإنها عملت للإسهام في خلق البيئة التي لا تؤدي إلى إسقاط النظام ولكن الحث على مفاوضات حقيقية بشأن الإصلاحات المطلوب إدخالها. وتعبيرها عن معارضتها العميقة لسياسة الحكومة علناً وليس سراً حيث جرت العادة، فإنها عمدت إلى إبعاد حليفها عن الاندفاع لما هو أسوأ، وتغليب النزعة التسلطية. ولتحقيق أهدافها استندت بريطانيا على سلطتها المعنوية وقدرة الإقناع المستمدة من قوتها الناعمة وروابطها التاريخية مع البحرين.

ويتجلى ثقل الكلمات البريطانية في الغضب الذي أثارته تصرفات بريطانيا في ضوء مبادئها الراسخة بما يمكن وصفه بـ «التدخل المحسوب» (measured meddling) القائم على احترام حقوق السيادة للدولة المعنية والتركيز على الإصلاحات بدلاً من التحولات الشاملة.

إن تأثير بريطانيا على البحرين هو أقل مما يتصوره الكثيرون، فهي لا تسهم إلا بالقليل في ضمان أمن البحرين، ونصيبها الاقتصادي ضئيل، وكلاهما صغيران قياساً بدور الجار السعودي. كما أن أخذها بالاعتبار القيم في سياستها الخارجية لا يعني الإضرار بمصالحها.

إنه نهج يتماشى مع الدور البريطاني التاريخي في القضايا الداخلية للبحرين ويتساوق مع استراتيجية المحافظة على أكبر قدر من النفوذ، وعدم كسب عداء حكومة البحرين وأخذاً بالاعتبار إمكاناتها المحدودة، وعليه فإن ما حاولت بريطانيا القيام به مدعاة للإعجاب (بحسب ويليس). وعند محاولتنا تحديد الخط الأدنى لفاعلية هذه السياسة، يمكن قياسها بتأثيرها على الأهداف المطروحة لتقييمها. وجاءت مغادرة السفير باودن وحلول السفير إيان ليندزي مكانه، والذي تزامن مع صدور تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصى الحقائق في الخريف الماضي، وكان للحكومة البريطانية أسبابها الوجيهة في توقيت التغيير. وفيما لوحت بريطانيا بالعصا أو ما شابه ذلك خلال الربيع، فقد حان وقت التلويح بالجزرة لتشجيع البحرين على السير على طريق الإصلاح، لكن ثبت أن الحكومة البريطانية كانت متفائلةً أكثر من اللزوم، فالخلاف الداخلي بين أولئك الذين يريدون التغيير وأولئك الذين يريدون الإبقاء على الوضع كما هو، قد دخل مرحلة اللاحسم. والمبدأ البريطاني بالتقدم من خلال الاشتباك الايجابي وليس الانعزال، له ما يبرره. كما أن مبادئ سياستها الخارجية لا تجبرها على أن تفعل أكثر مما فعلت، حيث التغيير يأتي حتماً من الداخل.

ويمكن المجادلة بأنه يتوجب أن تضمن الحسبة تحديد ما إذا كانت آفاق الإصلاح في البحرين حقيقية أو غير واقعية، بمعنى تقييم ما إذا كان ما يدعى بالإصلاحات مفتوحة على إصلاحات سياسية أم مجرد إصلاحات اقتصادية. هذه هي الأسئلة المثارة عند رسم السياسة الحالية، والحقيقة انه في حالة البحرين، فإن بريطانيا تملك القليل من الخيارات. (انتهى).

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 3786 - الخميس 17 يناير 2013م الموافق 05 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:34 ص

      بي بي سي - BBC

      راديو و تلفزيون بي بي سي أصبح في مستوى راديو و تلفزيون .... من السوء و عند متابعة BBCفإنك لا تسمع و لا تر ما يحدث بالبحرين, فمظاهرة بحجم 500 ألف في دولة صغيرة جدا ومظاهرات مستمرة بشكل يومي و إنتهاك لحقوق الانسان و حرية الرأي يغظ الطرف عنها باستمرار من بي بي سي و تقوم بتغطية حادث مروري بكولمبوا مثلا . هذا هو تقييم بي بي سي و مستواها و مدى أهمية ثورة البحرين للسياسيين البريطانيين من طمس و تجاهل الحقائق التي هي جزء رئيسي من ديموقرطيتهم و ثوابت الحكم لهم فهل هذا ما يجري على الداخل البريطاني ؟

    • زائر 1 | 1:13 ص

      لا وجود للقيم امام المصالح هكذا عرفناهم

      لقد عرفنا بريطاني قديما وحديثا ان لا شيء يقف امام المصالح المادية لا قيم دينية ولا قيم انسانية حتى! وبعد بدء الحراك في البحرين اصبح ذلك حق يقين حيث ان حتى الاعلام البريطاني والذي كان ينظر له الكثير على انه اعلام حرّ محايد انكشف للعالم زيفه وسقط من شاهق وانا عن نفسي اقولها ومعي الكثير يشاطرني الرأي
      ان ال BBCليست كما ينظر لها الناس انما هي اعلام تسيره السياسة وليس فيه شيء من الحرية الا بما يسمح الظرف فقط اي انها مقيدة الى ابعد الحدود وهذا الكلام اعترف به مذيع في احد البرامج

اقرأ ايضاً