العدد 3801 - الجمعة 01 فبراير 2013م الموافق 20 ربيع الاول 1434هـ

الكامن

حسناً... سأحاول أن أشرح ذلك بالدقة والتوصيف الممكنين، لنفرض أنك كنت تقود سيارتك، متجهاً نحو وجهتك المعهودة، للبيت أو العمل، لكنك في هذا اليوم كان عقلك مأخوذ بأمر يتعبك لدرجة أنك لا تستطيع الفرار منه؛ إنه يستحوذ على كل حواسك، أنت لا تبصر الطريق، لا ترى الإشارة الحمراء ولا السيارة التي تتوقف بجانبك أو أمامك، لا ترى سوى مشكلتك الخاصة، أمرك الصعب، همك الطافح من أعماقك.

يحدث أيضاً أن تصل لوجهتك وتتساءل: يا إلهي كيف وصلت؟ كيف توقفت عند الإشارات الحمراء وأنا لا أذكر حتى أني مررت بها؟ كيف انعطفت وتجاوزت وكيف غيّرت ناقل الحركة؟

حسناً... هذا بالضبط ما أريد أن أقوله: ثمّة شخص آخر ينتشلك من نفسك حين تصل لهذا الحد من التعب، هذا الشخص الكامن فيك، لا يظهر إلا في الأزمات الحقيقية، ذلك أشبه بطيار آلي، يساعد القبطان في مهمات محددة ودقيقة، الفرق أن الشخص بداخلك لا يحتاج منك برمجته وتلقيمه إحداثيات معينة، إنه شهم ونبيل لكنك نادراً ما تلتفت إليه وتشكره صنيعه الجميل فيك. أذكر ذلك بوضوح الآن، تلك القفزة الشاهقة التي فشلت في تكرارها أبداً لم تكن قفزتي، كان الشخص الكامن في داخلي يريد أن يخلصني من مهاجمة الفلاحين «السيخ». آخر ما شاهدته وأنا ألملم حبات اللوز من أرض البستان الرطبة، كان بريق مناجلهم المصقولة. ركضت، وقف أمامي السور الشاهق والمحفوف بقطع الزجاج المكسور، لم أتوقف عن الركض، كان الرجل في داخلي يصرخ، اقفز، اقفز الآن، وأقسم بالشياطين والمردة أني لم أقفز، فالقفز فعل صغير أمام الارتفاع الذي بلغته، ما فعلته هو أني طرت وتجاوزت السور ثم هويت وتدحرجت قبلي حبات اللوز، لم أشعر بارتطامي على الأرض، ما إن لامستها حتى أطلقت سيقاني للريح.

حين وصلت كان أقراني يتحدثون عن قفزة الرعب تلك، عن كيفية طيراني من الأرض إلى الأرض.

يومها تقاسمنا غنيمتنا اللوزيّة وضحكنا حتى تفرقنا، وبقية الحادثة دون تفسير لسنوات طويلة، الآن فقط أستطيع أن أخبرهم جميعاً - وأخبركم أيضاً - أن ثمة شخصاً آخر فينا لا يتوانى عن مساعدتنا في مآزقنا لكن من ينقذنا فعلاً هو الله، لأن يومها ما إن رجعت إلى البيت كان أبي قد عدّ العدّة لمعاقبتي عقاباً لا يشبه إلا تعذيب القتلة في قعر الجحيم. حين أوثقني جيداً وصفعني عدّة صفحات ليختبر قوة الوثاق، جاء بالخيزرانات وبعد الجلدة الأولى التوت جدتي على جسدي وصاحت: «بحق الله عليك إلا ما عفوت، فالله يصفح ولو كان الجرم عظيماً».

العدد 3801 - الجمعة 01 فبراير 2013م الموافق 20 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً