العدد 3808 - الجمعة 08 فبراير 2013م الموافق 27 ربيع الاول 1434هـ

لا نرى الظلمة

تقيّأت غراباً نيئاً على طاولة المحقّق، عصرته حنجرتي حتى اختلط الدم بالبزاق، خدش جدران حلقي بمخالبه القوية ومنقاره الحاد، حتى ريشه الأسود القاسي كان يحفر أخاديد صغيرة من الألم في كل أنحاء فمي، لم أستطع التنفس أو النطق أو حتى تحريك شفتي، ساعات من التعب اللعين جعلته يكبر في حلقي ويكبر. كلما صفعني المحقّق وركلني بشدة تجاه الحائط، استفاق الغرابُ في حلقي وبدأ ينهش لساني وحلق فمي، كانت الدماء تسيل من حاجبي الأيمن، أو أسناني المكسورة، أو ربما كان الدم من أنفي المهشم! لا أدري! الألم يباغت حواس الضحية ويُربك الذاكرة، فيصبح استذكار الألم نوعاً آخر من العذاب، ولكني أتذكر بوضوح كيف كان الألم يخرج من سقف حلقي كدودةٍ غليظة الجلد ليصل بطيئاً لأعلى نقطة في رأسي، حينها يفوح الخَدَر من كل أطراف جسمي، تهتزّ رجلاي المتقرحتان فأغيب عن الوعي.

حين نغيب عن الوعي نرى السواد، ووعيي أنا كان الأسود والأسود فقط لأيام ثلاثة، حتى الغيبوبة التي أهرب إليها فارّاً من الألم لا تعزيني سوى بالسواد! كل هذا السواد بدأ بعصابة سوداء لفها المحقق حول عيني حين بدأ التحقيق قبل ثلاثة أيام، ولثلاثة أيام رأيت جهنم حتى اللحظة التي تقيأت فيها هذا الغراب اللعين. لماذا كنت أتخيل جهنم بنيران ذهبية تنبض قلوبها بالأزرق، وفي وسطها عفاريت حمراء تتلون وهي تحترق؟ يالغبائي، الألوان ترفٌ مخادِع لا مكان له في جهنّم، والألم يكون أشدّ حين يأتي منزوعاً من اللون، حتى الأسود ربما يكون ترفاً، فأنت لا ترى السواد، ولكنّك لا ترى فقط! لهذا حين نزع المحقق العصابة عن عيني، لم أفتحهما، بماذا ستعزيني الألوان؟ تلمست الطاولة بيدي المرتجفتين، وجدت القلم، أخذته وغرزته في جثة الغراب النتنة، وأمضيت على كل تفاصيل الجثة التي رسمها المحقق كما يشاء.

الصوت نفسه الذي كان يشاغب ظلمتي، جاءني عبر سماعة الهاتف منذ ثلاثة أيام، كنت منهمكاً في عملي حين خرج الصوت جافاً وقاسياً كهواءٍ جنائزي في ليلةِ دفنٍ كئيبة. الأصوات رُسُل النوايا، بين نبراتها نرصِد النيّة المبيّة لكل ما يخبئه صاحبها، سألني:

- إبراهيم خليل؟

- نعم!

- مطلوبٌ حضورك لمركز التحقيق حالاً.

هذه هي التهمة، غيرة زميل عمل ترمي بك في قلب هذا المكان المخيف. أما بأي جريمة؟ فلا أعرف، سألت نفسي طويلاً وأنا أجلس القرفصاء في زاوية زنزانتي «لماذا؟».

- هو الحقد، شعورٌ تستوعبه مع أول شتيمة يطلقها المحقق في وجهك، أو لا تستوعبه على الإطلاق.

هكذا أخبرني صديقي فيصل، وهو يحدثني ذات مساء، تعمّد أن يخفض صوته حتى يوهمني بالخصوصية في زنزانة ضيقة تعج بعشرة معتقلين حتى أحلامهم وكوابيسهم مفضوحة.

- هم يريدون أن يزرعوا داخلك شرطياً صغيراً، راقب رأسك يا عزيزي. وإياك أن تفكّر في الانتقام، فحين تفكّر في ذلك، احفر قبرين، واحد لضحيتك وآخر لنفسك.

أخبرني فيصل بعد أن أفرجوا عنا لاحقاً أنه لم يرَني خائفاً قط، ربما تكون تلك مجاملة صديق قديم كان الوجه المألوف الوحيد الذي رأيته وأنا أدخل الزنزانة لأول مرة، جمعتنا بعدها أحاديث طويلة كل ليلة كنت أغسل خلالها ديدان الخوف التي تتسلل إلى أطراف أصابعي. كنت أرى في الخوف دائماً احتمالاتُ إيمانٍ ضعيف، ولكن حين دخلت عالم السواد رأيت الخوف بكل تفاصيله، رأيته أمامي وخلفي وحولي، رأيته في نبرة المحقق، وجدران غرفة التحقيق الباردة، وفي القيد الحديدي الذي ينهش معصمي. تحتاج أكثر من عينيك لترى الحقيقة، ربما تحتاج أن تكون أعمى لكي ترى، فالعمى خروجٌ من لعبةِ اللّون.

مع الخوف، يصبح الألم أكبر من مساحات الجروح بكثير، كان السوادُ يزرعُ كل ألمٍ عميقاً في اللحم. حاولت النوم في ليلتي الرابعة في الزنزانة، فحرماني من النومِ لثلاثة أيامٍ جعل كل شيءٍ يبدو ضبابياً، وحين غفت عيوني لدقائق أيقظني صراخ المعتقلين المعذبين في غرفة مجاورة لزنزانتي. كان هناك كوةٌ صغيرة تصل بين الغرفتين، تنطلق منها صرخات المساجين المعذبين كالأشباح المذعورة، توقظنا جميعاً بوجوهٍ صفراء، نستغفر، نسبّح، بعضنا يتوضأ ويقرأ القرآن ثم في صباح اليوم التالي نرى أصحاب الصرخات المرعبة، نحتضنهم وننظف جروحهم، نشرح لهم روتين السجن اليومي، بعضنا يحقنهم بجرعتين من الأمل، ثم يهديهم كل واحدٍ منّا مئة غرامٍ من الابتسامات، فربما ليس في هذه الحجرة المحشوة بنا ما يبعث على الابتسام، لكننا نعلم أن الابتسامة هي ما يبقي الألم الشحيح حياً فينا، نبتسم ثم نفتح صدورنا في الليلة التالية للأشباح المذعورة التي تطاردنا بالخوف ونحتمي منها بالصلوات والتسبيح.

صرتُ بعد عدّة أيامٍ لا أنام إلا في الاستراحة، حيث يأخذنا آمر السجن لفناء عالي الجدران، سقفه المفتوح مغطى بشبكة فولاذٍ قوية، في كل زاويةٍ منه كاميرا أمنية، فمٌ من الأسمنت الحاقد والأسلاك وعيون الأمن تبتلعنا لساعتين أو ثلاث. كنت أبحث عن بقعة ليس فيها أي ظل، أرسلُ تفكيري مع كل الأصوات حولي حتى يغيب صوت الحنين لأمي وصوت القلق على عائلتي، أرسلُ تفكيري لمراتٍ حتى يخبو كل صوتٍ سوى أحاديث السجناء غير المفهومة وأصوات السيارات العابرة وراء الجدار، وأغفو. في الأصوات الفوضوية حولي غيابٌ لذاتي، أفتح قلبي لها لتأخذني معها، أمّا أي فكرة تقرب لي، كعملي، عائلتي، خوفي، مستقبلي، فكنت أطردها بعيداً دون هوادة. وحين أكون تحت أشعة الشمس القوية، تموت الظلال بظلمتها وعفاريتها المجنونة، هذه حيلتي التي تمنحني الراحة كل يوم في المعتقل، هكذا أتحرّر من الأصوات في رأسي، وهكذا عرفت الحرية.

- إذا ظننت أن ما يفصلك عن الحرية هو خرسانة مسلحة أو حارسٌ مسلّح فأنت مخطئ عزيزي فيصل! ما يفصلك هو المسافة بين النور والظلام.

هكذا همست في أذن فيصل ونحن نغادر الاستراحة عائدين للزنزانة ذات صباح، كنت أحضنه بقوة وأنا أضع ذراعي خلف رقبته لألويها ممازحاً، كنت أعبث بشعره الغليظ بيدي الأخرى حين يصبح رأسه بين ذراعي وخصري. ثلاثة شهور في المعتقل جعلت شعره غليظاً ومضحكاً، حتى أنه نال ساعة تعذيب قاسٍ لأن الضابط المناوب لم يعجبه شعره!

- حبيبي فيصل، الظلام ليس ذلك الرداء الأسود الذي يغزو عيونك، فأنت لا ترى الظلمة، الظلمة هي ألا ترى فقط. لهذا حين ترى، ولو كنت معصّباً بعصابة سوداء لأيام، سترى كل شيء كما هو، تحتاج للخروج من ظلمة اللارؤية إلى نور الرؤية. حين تظن أنك ترى الظلام، ففي ذلك مهادنة للضياع، ففي قرارة نفسك هناك هذا الوهم بأنك آمن لأنك مازلت ترى، هكذا أحسست حين وضعوا العصابة السوداء حولي لأول مرة، أحسست بأني مازلت أرى. ومع أول جلسات التعذيب رأيت لأول مرة يا عزيزي.

- كيف؟

- هل حدث أن استيقظت ذات صباح ونظرت حولك فرأيت شيئاً أو شخصاً وكأنك تراه لأول مرة؟ هل تعرف سوق قريتنا القديم؟ هل زرته من قبل؟

- لا، لماذا؟

- كنت أعبر السوق دائماً أثناء ذهابي للمدرسة، أظنني عبرته كل يوم لأكثر من عشرة أعوام، وكنت أظن أني أحفظه وأحفظ تفاصيله عن ظهر قلب، ولكني حين رأيته بعد موت الأفعى دهشت، وكأني أراه لأول مرة.

طالعني فيصل بعيون مشدوهة: تقصد أفعى السوق القديم؟ كانت في قريتكم؟ ما هي قصتها؟

- كانت هذه الأفعى السوداء تجلس في طرفٍ في السوق القديمة، كانت تكبر كل يوم بشكلٍ مخيف، يقول جدي إنها كانت تقتات على خوف العابرين. يقول جدي إنها لا تملك قلباً، تسرق النبضات من قلوب الخائفين، فكلما نبض قلب خائف تحرّك الدم داخلها. ذات مساءٍ مرّ بها شيخ القرية فحاولت أن تنفث السمّ في عينيه، كانت تنفث السمّ في وجوه كل العابرين، لهذا أصبح من يقصدون السوق مهووسين بالمال، أتذكر أن المشاكل لم تتوقف منذ ظهرت تلك الأفعى، حتى أن أبناء جيراننا المسمومين تشاجروا ذات مرة، ولم تنتهِ ثورتهم إلا بمقتل أحدهم، وكثيرة تلك الثورات التي حدثت في قريتنا بين الإخوان وانتهت بضحايا كثيرين! لا أفهم لماذا تتقاتل اليدان؟ ولماذا تكون حروب الإخوة الأشرس والأكثر ضراوة دائماً؟ كان جدي يتمتم كل مساء «الثورة تأكل أبناءها». المهم، حين حاولت الأفعى أن تنفث السمّ في عيني شيخ القرية، ضربها بعكازه على رأسها وماتت، تحولت إلى ماء أسودٍ مازال لليوم يصبغ بعض أنحاء السوق. ذهبت بعدها بيوم لرؤية السوق والدم الأسود، فرأيته لأول مرة، رأينا الجشع يمشي على رجلين، والحرام يتقيّأ في فم بائع الخضار، جميع من كانوا هناك رأوا هذا، ولكنا لم نخبر أحداً خوف أن يعتقد الناس أننا مجانين.

- لو ذهبت بعد الإفراج، هل سأرى ذلك؟

- لا داعي لأن تذهب لهناك لترى، أنا وأنت وهذا البلد كنا نياماً، لم نكن نرى إلا كما يرى النائم، لعبة لونٍ يفوح منها الوهم، وحين قتلونا رأينا لأول مرة.

العدد 3808 - الجمعة 08 فبراير 2013م الموافق 27 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً