العدد 3823 - السبت 23 فبراير 2013م الموافق 12 ربيع الثاني 1434هـ

يوميات كاتبٍ في الأرياف!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حين عُيّن توفيق الحكيم نائباً عاماً في الصعيد، ألّف واحداً من أروع كتبه «يوميات نائب في الأرياف»، كشف فيه وقائع وفظائع ما يعانيه الريف المصري من إهمالٍ وفقرٍ واستغلالٍ وتهميش.

الحياة في الريف مُلهِمَة، حيث تعيش مع ابن الأرض وملحها، وقد كتب الحكيم كتباً أخرى، استوحاها من الصعيد، مثل «حماري قال لي»، وحمل غلافه صورته وهو جالسٌ على كرسي في حديقة، وأمامه حماره الذي أجرى على لسانه الكثير من الحكم والآراء في السياسة المصرية ورجال الحكم والأحزاب والمرأة... وحتى في هتلر وموسوليني.

كثيرون كوّنوا صورةً للريف المصري من خلال كتابات الحكيم، التي تُرجمت أكثرها للغات الأجنبية، وحُوّلت إلى أفلامٍ ومسلسلات. لقد أصبحت جزءاً من التاريخ والذاكرة المصرية. فكيف لو فُرض على الحكيم أن يعيش في ريفٍ يتعرّض منذ عامين، إلى سحبٍ كثيفةٍ من الغازات الخانقة وقنابل مسيلات الدموع كل مساء، تأتيه أفقياً من الأرض وتمطر عليه عمودياً من السماء؟

ليلة الجمعة الماضية، لاحظت الأمهات في البلاد القديم زيادةً كبيرةً في استخدام الغازات الخانقة التي تستهدف المنازل. وبعضها كان يُطلق من مسافةٍ إلى الأعلى حتى يسقط وسط الأحياء السكنية وفوق أسطح المنازل فيتسرب إلى داخلها ليخنق أهلها، وفيهم الطفل والمرأة والشيخ والعجوز. واستمر الإطلاق حتى منتصف الليل رغم خلو الشوارع والأزقة الداخلية من البشر.

في الصباح، كان الشارع الرئيسي عند منعطف مدرسة الخميس الابتدائية للبنين مفروشاً بمئاتٍ من عبوات القنابل الغازية والصوتية. هل تتحمل هذه القرية الصغيرة كل هذه الكمية من الكيماويات في ليلةٍ واحدةٍ فقط؟ وقد بقيت رائحة الكبريت والمواد المسيلة للدموع عالقةً بالجو حتى الظهر مع توسط الشمس لكبد السماء.

في حدود التاسعة والنصف صباحاً، بدأ ينتشر على «الواتساب» خبر استشهاد شاب آخر اسمه محمود الجزيري عمره عشرون عاماً، كان قد أصيب قبل أسبوع بطلقةٍ قاتلةٍ في جزيرة النبيه صالح. وتبيّن أنه ابن عمة حسين الجزيري، وهو فتى أعزل عمره ستة عشر عاماً، سقط يوم 14 فبراير في قرية «الدَيْه»، على إثر استهدافه من مسافة ثلاثة أمتار، وكان يحمل في تلك اللحظة علم البحرين.

الجمعة هو يوم اجتماع العائلة الأسبوعي في «البيت العود»، وقبل أن يحين وقت الانصراف عصراً، تُحاصر القرية، وتُنصب نقاط تفتيش عند مداخلها الرئيسية من الغرب والشمال والجنوب، ما عدا المدخل البعيد عند قرية الزنج من جهة الشرق. وما هي إلا دقائق حتى يبدأ استهداف الحيّ بالغازات المسيلة للدموع. وهكذا دخل الأطفال من «الحوش» إلى إحدى الغرف، منهين لعبة «شغب وشباب» لينشغلوا بألعاب الـ «بلاي ستيشن» ومشاهدة التلفزيون.

كانت الرائحة قد بدأت تتسرّب من الغرفة الأخرى فأُغلِق بابها لحماية من بالصالة، فيما انهمك هؤلاء بمتابعة تغريدات «التويتر» وما يحمله «الواتس آب» من أخبارٍ جديدةٍ وصورٍ بدأت تنتشر للشهيد الجديد، ومن بينها صفحته على «الأنستغرام». ستصبح مثل هذه الصفحات شواهد أثريةً وجزءاً من التاريخ.

عند الخامسة والنصف، حاولنا استشعار مدى انتشار الرائحة في الحوش، فتبين أن حدّتها قد خفّت، ما يسمح لنا بالخروج إلى السيارة. خرج الأطفال بسرعة، ليقطعوا مسافة ثلاثة أمتار إليها، وهم يغطّون أفواههم بملابسهم، حتى اندسوا فيها وشعروا ببعض الأمان. دقائق وتحرّكت السيارة لتصطدم بحاجز التفتيش عند مدخل منتزه عذاري من الجنوب.

كان الوضع عند مغادرة القرية عادياً، وحركة المارة شبه طبيعية، مع بعض الصغار والصبايا هنا وهناك. إذا كان ثمة ما يستدعي منع السيارات من دخول القرية فما الداعي لمنع الخارجين منها؟ ولماذا تُمنع السيارات من دخول المنتزه؟ شرحت بلغةٍ مكسّرةٍ للشرطي المسلح ببندقية، بأني خارج إلى منزلي، فطلب مني أوراقي. أخرجت له البطاقة السكانية، فرفض استلامها وطلب «الليسن»، توجّه به نحو الحاجز، وبعدما كلّم أحد رفاقه العشرة سمح لنا بالخروج من القرية المحاصرة.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3823 - السبت 23 فبراير 2013م الموافق 12 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • كوثر جاسم | 4:47 ص

      يوميات مختنق في الأرياف ..

      لو قُدِّرَ لتوفيق الحكيم العيش في البحرين في ظل هذا الوضع لا أعلم كم كتابا سيكتب وتحت أي عنوان !! هل هو : يوميات مختنق في الأرياف ؟ أم يوميات مضطهد في الأرياف ؟ أم يوميات مسطور في الأرياف !!! وقائمة العناوين تطول ..
      رحمك الله يا توفيق الحكيم ورحم حمارك .. ولا رحم الله حميرنا ..
      شكرا لكاتب المقال .. ودام قلمك السيال ..

    • زائر 18 | 5:43 ص

      هذا هو حال البحرين

      هذا هو الحال حتى يظهر الحق ويزهق الباطل وبقى الحال من المستحال كما يقولون ولابد وأن تزول الحواجز أذا شاالله.

    • زائر 17 | 5:26 ص

      سيدنا طلب بسيط

      حبذا لو تكتب مقالات عن يوميات سجين في سجون البحرين حتى يطلع العالم عن المعاناة والحياة الماساويه التي يعيشها احبائنا في السجون

    • زائر 15 | 4:31 ص

      يومياتنا جميعاً

      هذه يومياتنا جميعاً هكذا نعيش ونعاني كل يوم وليلة فلتسمع كل الدنيا فلتسمع.

    • زائر 13 | 2:11 ص

      مالفرق بين غزة والبحرين ؟

      دائما اسأل نفسي ماهو الفرق بين غزة وقرى البحرين ؟ واقعا الفرق شاسع وكبير مع ان البلدين يعيشون احداث متقاربة من حصار واضطهاد وتمييز وترويع وخنق وقتل بطرق مختلفة ولكن ولكن ولكن ,,,,,,, الفرق ان غزة محاصرة من قبل محتل وهم الصهاينة اما قرانا محاصرة من نظام مسلم يدين بدين محمد (ص) وهذا هو الفارق الكبير

    • زائر 11 | 1:33 ص

      الحمد لله على السلامة

      احمد ربك يا سيد ما وجه لك شتايم وسبايب او اهان معتقداتك كما حدث مع الاخرين

    • زائر 10 | 1:14 ص

      وشمعني؟

      كيف رفض البطاقة السكانية وطلب الليسن... يعني قير؟ لو مكتوبة بالعربي والليسن بالاردو؟ غريب تصرفاتهم

    • زائر 14 زائر 10 | 3:50 ص

      بسبب العنوان !!

      لانه الليسن فيه عنوان والبطاقة الذكية ما فيها عنوان ، للتذكير فقط ...

    • زائر 9 | 1:11 ص

      هذه حال الجميع

      هذا حال بقية المناطق يا سيد من الدراز وبني جمرة وشارع قرى الشمالية الى السهلة وجبلة حبشي والسنابس والديه والماحوز وسترة والمعامير والعكر والنويدرات والمنطقة الغربية

    • زائر 8 | 12:32 ص

      المشتكى لله

      حسبنا الله ونعم الوكيل

    • زائر 6 | 12:14 ص

      من تويتر...

      مشكلة الكثيرين في هذا العالم للأسف إنهم لا يمانعون في التعامل مع الشيطان وغض الطرف عن أفعاله الشيطانية طالما إنهم يحققون مصالحهم من خلاله..!!!

    • زائر 19 زائر 6 | 6:17 ص

      هنه هنه..

      اسال نفسك فيما بينك وبين الله في اي الفريقين انت

    • زائر 5 | 12:03 ص

      الحقد الدفين بان

      يا سيدنا ما هذا الأجرام بحق الشيعة الا لتفريغ جام حقدهم الدفين ما بالك اليوم بان الشيعة تريد تشاركه في صنع القرار!!

    • زائر 4 | 10:16 م

      أما آن للعالم ان ينطق كفى عنصرية لم تبقى لنا الا الهواء

      حوربنا في رزقنا و في تعليمنا والآن في الهواء الذي نستنشقه كفى استهدافا عنصريا أما آن للعالم ان ينطق

    • زائر 2 | 10:11 م

      الله المعين

      الله المعين ووجهوا أمركم إلى الله دائماً .. وقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل
      وعلى ما نعتقد بأن خبراء وزارة الصحة حتى الان لا يرون ضرراً صحياً ناتج عن تلك المواد كي ينطقوا بكلمة حق كما أن خبراء وزارة حقوق الإنسان لا يوجد في كتبهم ولا قوانينهم ولاجملة واحدة توضح بأن استنشاق الهواء الطبيعي هو حق من حقوق الإنسان. فلمن توجهون شكواكم؟

اقرأ ايضاً