العدد 1547 - الخميس 30 نوفمبر 2006م الموافق 09 ذي القعدة 1427هـ

الأساس الثاني: الجغرافيا وتفرعاتها المناخية

أسس علم العمران في مقدمة ابن خلدون (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يعطي ابن خلدون في الباب الأول من مقدمته موضوع الجغرافيا أهمية خاصة ويعرض عناصره في أربع مقدمات (من الثانية إلى الخامسة) وتنتهي في السادسة (الدين). ويقسم عوامل الجغرافيا إلى الأرض والبيئة والمناخ والأقاليم وأجزاء كل إقليم و«في كل جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه» (ص 48).

يستخدم ابن خلدون في فصول الجغرافيا مفردات «ذكروا» و«قالوا»؛ لأنه علم غير مستحدث وهو منقول من واحد إلى آخر، ويذكر أنه نقل أخباره الجغرافية من مصدرين أساسيين: بطليموس (كتاب الجغرافيا) وكتاب «نزهة المشتاق» ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج (روجار بن روجار) بعد خروج صقلية من إمارة مالقة.

صنف الإدريسي الكتاب في منتصف المئة السادسة وجمع له كتباً للمسعودي وابن خرداذبة والحوقلي والقدري وابن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم (ص 57). فعلم الجغرافيا ليس علم ابن خلدون لذلك يكرر استشهاداته ويعززها بالكثير من المراجع الجانبية وآراء الفقهاء والحكماء من غير المدارس الجغرافية.

يحدد ابن خلدون شكل الأرض، فهو «كروي» ومركزها الوسط والماء المحيط بها فوق الأرض (ص 47). بعدها ينتقل إلى تفصيل العمران وعلاقته بالأقاليم والبيئة والمناخ. فالمعمور من الأرض أميل إلى الجانب الشمالي، ويقسم المعمور إلى أقاليم سبعة. ويشطر خط الاستواء الأرض إلى نصفين من المشرق إلى المغرب. وتنقسم منطقة البروج إلى 360 درجة، وبين كل واحد من القطبين 90 درجة. والعمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء 64 درجة والباقي خلاء بسبب البرد والجمود كما هو الأمر في الجنوب بسبب شدة الحر. ويرتكب ابن خلدون خطأ في تدرج المناخ من الوسط إلى الشمال ومن الوسط إلى الجنوب. فهو ينقل معلومات علماء الجغرافيا التي حددت أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة أقل عمراناً مما بعدها، والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك، والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس. ويعتمد في تحليله على ما ذكره كثير من الحكماء من معلومات أن الجنوب خال من العمران بسبب إفراط الحر «وقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس» (ص 52). لذلك يقطع أن العمران كله في الجهة الشمالية من خط الاستواء وينقطع العمران في القطب الشمالي وهو آخر الإقليم السابع و»العمارة فيما بين الأربعة والستين إلى التسعين ممتنعة؛ لأن الحر والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما، فلا يحصل التكوين»، (ص 53). فالتكوين عنده لا يكون إلا بالرطوبة.

وعلى رغم أنه أصاب عندما رجح عوامل التكوين (النشأة والولادة) بامتزاج الحرارة مع البرودة ثم رجَّح انقطاع التكوين «لإفراط البرد والجمد، وطول زمانه غير ممتزج بالحر (...) وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً ويبساً يمنع من التكوين» (ص 54) فإنه ارتكب خطأ لا يتحمل مسئوليته عندما اعتبر أن الحرارة تندرج من خط الاستواء شمالاً نحو الاعتدال وصولاً إلى البرودة والجمود (انقطاع التكوين) ثم تندرج من خط الاستواء جنوباً نحو الحرارة واليباس والجفاف (انقطاع التكوين). فهو يعتبر أن الكرة (الأرض) نصفها الشمالي معتدل وبارد وجامد ونصفها الجنوبي حار وجاف ويابس وهو تقسيم كما نعلم غير صحيح؛ لأن الحرارة في الجنوب تتدرج نحو الاعتدال ثم البرودة الشديدة في القطب الجنوبي (انقطاع التكوين).

يبدو أن ابن خلدون انتبه إلى الخطأ المذكور ولم يستدركه ويصححه. فهو بعد أن يستعرض نظريات المناخ والأقاليم التي أخذ بها الحكماء يطرح أسئلة ذكية عن صحة معرفتهم بها وبرهانهم عليها وخصوصاً معلوماتهم عن أقصى الشمال وأقصى الجنوب ويتساءل «والظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية (...) والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي. وهو كذلك» (ص 54).

ويورد ملاحظة فائقة الأهمية ذكرها ابن رشد رداً على مزاعم علماء الجغرافيا حين يقول: «إن خط الاستواء معتدل وإن ما وراءه في الجنوب، بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا»، (ص 55). فابن رشد يؤمن بكروية الأرض وبالتالي استنتج منطقياً أن ما يصح في شمال خط الاستواء يصح في جنوبه، وهو ما أكدته إلى حد كبير الاكتشافات الجغرافية المعاصرة. لكن ابن خلدون يوافق جزئياً على تحليل ابن رشد ويعارضه «فيما وراء خط الاستواء في الجنوب (...) لأن العمران متدرج ويأخذ في التدرج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع» (ص 55).

سبب تمسك صاحب المقدمة بنظريات علماء الجغرافيا وعدم موافقته كلياً على ملاحظة ابن رشد الذكية يعود إلى أساس نظريته في العمران البشري. فنظريته تربط العمران بالمناخ والمناخ بالكثافة السكانية. فعنده عندما يصير الحر إلى الاعتدال «أو يميل عنه ميلاً قليلاً، فيكون التكوين، ويتزايد على التدريج إلى أن يُفرط البرد في شدته (...) فينتقص التكوين ويفسد (...) إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد» (ص 54).

وعلى أساس نظريته الجغرافية يأتي على البحار المشهورة «التي ذكرها أهل الجغرافيا» (ص 50) ثم يأتي على الأنهار لدراسة الرطوبة وعناصر التكوين وقيام العمران وذكر ذلك كله « بطليموس في كتابه والشريف في كتاب روجار. وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور (...)» (ص 51 و52). وبعدها يرسم صورة الجغرافيا كما رسمها الإدريسي في «نزهة المشتاق»، ويبدأ بمقدمته الثانية عن الأقاليم والثالثة عن تأثير المناخ.

الأقاليم والمناخ

يربط ابن خلدون من جديد عناصر نظريته من خلال تركيب الشتات المبعثر في كتب الجغرافيا فيذكر أن الحكماء قسموا المعمور على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب و«يسمون كل قسم منها إقليماً» (ص56). وتتفاوت أزمنة الليل والنهار «في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالي عن آفاقها» (ص56). وقسم المتكلمون «على هذه الجغرافيا» كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق «بعشرة أجزاء متساوية» (ص 57). فيصبح المجموع عنده 70 جزءاً.

ويبدأ بتفصيل كل إقليم استناداً إلى بطليموس والإدريسي ويذكر ما في كل جزء من جزر وبحار وأنهار وشعوب وثقافات ويأتي على شرح عادات وتقاليد سكان ذاك الجزء ولغاته وعباداته وحيواناته ومصادر رزق الناس وأساليب معاشهم. ويعتمد في تفصيل المعلومات وتعزيزها على مصادر مختلفة من كتب الفتوح والبلدان والمعاجم فيذكر ياقوت الحموي وابن سعيد مراجع إضافية لضبط مفرد أو كلمة أو لفظ أو تصحيح أو مقارنة معلومة. (ص 59).

يرى أن الإقليم الثاني «متصل بالأول من جهة الشمال» (ص 61). ويتصل الثالث «بالثاني من جهة الشمال» (ص 63). ويتصل الرابع أيضاً بالثالث من جهة الشمال. (ص 70).

بعد أن يربط الأقاليم الجغرافية برياً يبدأ بتفصيل الأجزاء فيرى أن الجزء الأول من الإقليم الخامس «أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه وشرقه» (ص 76) وتقع فيه «مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم. وفيها من المباني الضخمة والهياكل الهائلة والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار» (ص 77 و78). وتقع أيضا في شرق الخليج «عند آخر الجزء من الشمال» مدينة القسطنطينية وهي «المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة وبها من آثار البناء والضخامة ما كثرت عنه الأحاديث». (ص 78 و79).

كذلك يرى أن الجزء الأول من الإقليم السادس غمره البحر «أكثر من نصفه واستدار شرقاً من الناحية الشمالية، ثم ذهب مع الناحية الشرقية (...) فانكشف قطعة من هذه الأرض (...) وينفسخ طولاً وعرضاً وهي كلها أرض بريطانية» (ص 82). ويقصد مقاطعة بريطانية في شمال غربي فرنسا؛ لأن ابن خلدون يرى أن إنجلترا «جزيرة عظيمة متسعة مشتملة على مدن وبها مُلك ضخم وبقيتها في الإقليم السابع» (ص 82).

فرضت الموضوعية على ابن خلدون الإشارة والإشادة بضخامة وأهمية المدن في الإقليمين الخامس والسادس (رومة، القسطنطينية ومملكة إنجلترا) مع أنه يعتبر أن مركز العمران في الثالث والرابع (العالم الإسلامي)، بينما العمران متدرج ما بين الثالث والسادس. فالتفوق الحضاري للعالم الإسلامي لم يمنعه من تأكيد أهمية العمران في المناطق الأخرى التي تقع خارج الأقاليم الجغرافية الإسلامية. وهذا ما سنلاحظه عند حديثه عن أجزاء الأقاليم واختلاف كل جزء عن الآخر.

يسرد ابن خلدون خلال جولته الجغرافية الكثير من الأخبار فيتحدث عن السد «الذي بناه الإسكندر (...) والصحيح من خبره في القرآن، وقد ذكر عبدالله بن خرداذبة في كتابه عن الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً (...) ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا» (ص 84 و85). وأخيراً يأتي عنده الإقليم السابع وقد غمر «البحر المحيط» عامته «من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس» (ص 85).

المناخ والعمران

على أساس المناخ وتأثيره يبدأ صاحب المقدمة في دراسة العمران البشري بعد أن انتهى من تفصيل طبيعة أجزاء الأقاليم السبعة ويرى أن «المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال» (ص 88). فالوسط هو مركز العالم العمراني وأساسه الإقليم الرابع لأنه «أعدل العمران والذي حافتاه من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال». وبعد أن يكرر تأكيده أن العمران البشري يتركز في الأقاليم الثلاثة (الثالث، الرابع والخامس) يستنتج أن سبب العمران هو الاعتدال فهي «مخصوصة بالاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألوناً وأخلاقاً وأدياناً». فالاعتدال، أو الوسط، هو أساس الأشياء كلها بالنسبة إلى حجم الأجسام وطبيعة اللون والأخلاق والديانات «حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية» (ص 88).

لم يكتفِ ابن خلدون بقراءة الجغرافيا كطبيعة ومناخ وبيئات بل ربطها بالتاريخ والثقافات والديانات. فالمناخ المعتدل يحفظ العمران من التطرف ويساعد على الاعتدال. والمناخ المتطرف يجعل العمران مضطرباً ويدفع كل الأشياء إلى التطرف (الأجسام الطويلة، الأمزجة الحادة، قلة الدين، وتطرف الأخلاق والثقافة).

ولا شك في أن فكرة الاعتدال والحضارة، كذلك فكرة الرطوبة والتكوين، تحاكيان تأكيد القرآن الكريم على الوسط والوسطية وعدم التطرف والشطح. فصاحب المقدمة في نهاية الأمر قرآني المنهج وهو دائماً يعود إلى الكتاب لتأكيد وجهة نظر يحاول بلورتها أو فكرة يحاول تثبيت قواعدها.

بعد أن ينتهي من وضع إطار النظرية العامة لتأثير المناخ على العمران يعود لتفصيل ظروف كل إقليم المناخية وثقافات سكانه. فيضع في الأقاليم المعتدلة أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق والهند والسند والصين والأندلس «ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين، ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة». لكنه يلاحظ (وهو من أهل المغرب) أن العراق والشام «أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات» (ص 89).

وانطلاقاً من نظريات الوسط والاعتدال والرطوبة (مزج البرودة بالحرارة) يهاجم سكان الإقليم الأول وما ينقل عن السودان (يقصد إفريقيا) والصقالبة من سمات التوحش (ص 89).

الوحشة والتوحش

يرى محمد عابد الجابري في كتابه عن «العصبية والدولة» في فكر ابن خلدون أن صاحب المقدمة لم يقصد تحقير الشعوب عندما استخدم مفرد «توحش». فالقصد من استخدام الكلمة وصف «النمط العام لسلوك القبائل المنفردة المنعزلة في البادية والصحراء منها بالخصوص» (ص 287). وورد في «مختار الصحاح» للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي أن الوحشة تعني الخلوة والهم (وقد أوحشه الله فاستوحش). وأوحش المنزل أي أقفر وذهب عنه الناس. كذلك تعني (الوحش) حيوان البر الواحد. وذكر العلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ في «المصباح المنير» المعنى نفسه. فالوحش ما لا يستأنس من دواب البر. وكل شيء يستوحش عن الناس فهو وحش. ونقل عن الفارابي قوله إن الوحشة بين الناس تعني الانقطاع وبُعد القلوب. وأوحش المكان وتوحش أي خلا من الإنس.

لا شك في أن ابن خلدون لم يقصد النمط البهيمي من كلمة «توحش». فالنسبة ليست إلى الوحش (الحيوان) بل الوحشة (العزلة والخلوة والابتعاد والانقطاع) لأن مقياسه للتقدم هو الدين. وبقدر ما يتقدم الإنسان نحو التمدن والعمران بقدر ما يتقدم نحو الدين. فالدين إلى الاجتماع البشري والعمران والعصبية والمناخ والجغرافيا المعتدلة كلها عوامل مساعدة على تحقيق التقدم. والشعب الذي لا دين له هو أقرب إلى التوحش إذ لا نظام أخلاقياً يرتب علاقاته وسلوكه بل يعيش حالات انقطاع وعزلة تشبه حالات البهائم.

ابن خلدون ضد العنصرية وأميل إلى تحميل المناخ مسئولية التمدن والتوحش. فهو يستند إلى تحليلات ابن سينا ونظرياته في الطب ورأي الأخير في أسباب اختلاف الألوان يعود إلى اختلاف الحرارة في الأقاليم. ويذكر أن الإقليمين «الأول والثاني للحر والسواد، والسابع والسادس للبرد والبياض» (ص 90). فصاحب المقدمة يربط اللون بالطقس (الحرارة والبرودة) كما ربط العمران بالاعتدال.

كذلك يؤمن بتغير لون الإنسان إذا تغير مناخه وطقس إقليمه. فاللون ليس وراثياً أبدياً (ليس عضوياً) بل أساسه شدة حرارة الشمس أو خفتها. كذلك في رأيه يتغير اللون إذا ارتحل الإنسان وانتقل من إقليم إلى آخر «وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض. فتبيض ألوان أعقابهم على التدرج مع الأيام. وبالعكس فمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب، تسود ألوان أعقابهم» (ص 90). فابن خلدون يرى البياض كالسواد هو انحراف عن الاعتدال أو الوسط وسببه المناخ والطقس. فإذا تغير المناخ تغير اللون جيلاً بعد جيل حتى إذا لم يحصل الاختلاط بين اللونين (زواج ومصاهرة). فعامل المناخ إلى عامل الوقت يتكفلان بتغيير اللون.

هذه النقطة شديدة الأهمية في تفكير ابن خلدون لأنها تكشف عن نزعة موضوعية في قراءة عمران العالم في أيامه. فهو لم يتعصب لإقليم المغرب بل وضع الشام والعراق والحجاز في وسط العالم (مركز الإقليم الرابع) ولم يتعصب ضد الفرنجة واليونان والروم بل وضعهم في دائرة أقاليم الاعتدال. كذلك وجد أن اللون ليس مسألة سلالية (ثابتة عضوياً) بل فسره مناخياً لينسجم مع نظريته الجغرافية التي تعتبر الثابت الثاني في فكرة التطور عنده إلى جانب الاجتماع البشري والدين.

حتى تكتمل الصورة وضع ابن خلدون مقدمة رابعة (الهواء) في نظريته الجغرافية وقرأ تأثير الهواء على سلوك الناس. فإذا زادت الحرارة استولت على أمزجة الناس وزاد مليهم إلى الفرح والسرور والانبساط، أما إذا زادت البرودة نجد أهل الإقليم «مطرقين إطراق الحزن» (ص 93). وأبدى الباحث الألماني فون فيسندنك إعجابه بملاحظات ابن خلدون عن تأثير الجو وظروف الحياة في تكوين أخلاق البشر وأبدانهم وخصوصاً عندما ذكر «أن البربري يعيش في الصحراء عيشة العربي بينما يتخذ في مرتفعات جبال الأطلس صفات خاصة ويبقى مختلفاً عن العربي تمام الاختلاف» (ص 182 و183).

يجد ابن خلدون في «الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء» في الأقاليم والبلدان (ص 93). فسلوك أهل الإقليم تتحكم فيه ظروف المكان من بيئة ومناخ وهواء وغذاء. ويرد في هذا المعنى على النظريات العنصرية السائدة في عصره ويرفض نظريات ضعف الأدمغة والعقول، ويسخر من المسعودي وكلامه في تحليل أسباب «خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم» ويتهمه بنقل أفكاره عن آراء جالينوس ويعقوب بن إسحق الكندي. ويتمسك ابن خلدون بنظرياته الجغرافية عن البيئات والمناخ والهواء ويغلّبها على نظريات السلالات والعقول والأدمغة لأن كلام الأخيرة «لا محصِّل له ولا برهان فيه» (ص 93).

حتى يؤكد أن نظريته برهانية ملموسة ينتقل إلى شرح مقدمته الخامسة في موضوع الجغرافيا فيبدأ بالحديث عن اختلاف أحوال العمران في كل جزء من أجزاء الأقاليم. فالإقليم الواحد ليس موحداً بالضرورة في عمرانه. فوحدة المناخ والهواء (الاعتدال) لا تعني وحدة عمرانية أو وحدة متشابهة في السلوك والعادات والتقاليد. كذلك ليست أجزاء كل إقليم متطابقة في المناخ والأحوال والسكان والمعاش، إذ ليس في داخل كل الأقاليم المعتدلة «يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش» (ص 94).

هنا يضيف ابن خلدون إلى عناصر البيئة والمناخ والهواء عناصر الغذاء وتأثير نوعية الأطعمة على السكان، إذ «إن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد اقطارها في غير نسبة، ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم (...) وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الرديئة، فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة» (ص 95).

يصنف صاحب المقدمة الشعوب ويوزعها بحسب طعامها وعناصر موادها الغذائية. فهناك شعوب بليدة وشعوب ذكية. كذلك «نجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البادية المخشنين في العيش» ( ص95). وإذا حصلت مجاعة يموت أهل الشبع قبل أهل التقشف لأن «الهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق» (ص 96). فعنده المسألة مسألة عادة وهي سابقة لأن «النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة التلون» (ص97 ). ويفضل، والحال هكذا، الجوع (التقشف) على الإكثار من الأغذية والأكل. فالزيادة في الطعام تزيد من الرطوبات الفاسدة والمختلطة «المخلة بالجسم والعقل» (ص 98).

أهم ما في مقدمة الغذاء وأنواع الطعام في النظرية الجغرافية ارتباطها باختلاف العيش. وبسبب ذاك الاختلاف ينعكس الأمر على حال التدين والعبادة. فمن هو أقرب إلى الجوع والتجافي من أهل البادية أو الحاضرة «أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل الترف والخصب». وأهل البوادي أكثر تديناً من أهل الأمصار والمدن، كذلك «نجد حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفاً باختلاف حالها في الترف والخصب» (ص 96). فالتدين والتزام العبادات له علاقة بالموقع الاجتماعي للإنسان. فالفقير عموماً أكثر تديناً من الغني.

ترتبط النقطة الأخيرة (المقدمة الخامسة) في نظرية الجغرافيا بالمقدمة السادسة، وهو الدين الذي يشكل العامل الثالث في نظرية التطور الخلدونية. وهذا محور الحلقة الثالثة والأخيرة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1547 - الخميس 30 نوفمبر 2006م الموافق 09 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً