العدد 1558 - الإثنين 11 ديسمبر 2006م الموافق 20 ذي القعدة 1427هـ

ماذا يعني أن تكون سنياً في لبنان؟

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

يشهد الله أن الموضوع قبيح في كلياته وتفاصيله، والعاقل يتردد ألف مرة عن الخوض فيه، إلاّ أن خطاب السيد حسن نصر الله مساء الخميس الماضي، الذي كان عصبياً ومتوتراً قد فتح الجرح، ومن حيث لا يتوقع استخدم عياراً طائفياً ثقيلاً، ولابد والأمر ذاك من حديث صادق لتنظيف هذا الجرح، وهو حديث موجه للعقلاء. حزب الله اللبناني له رصيد سياسي راكم معظمه في إطار ثقافة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وان كان جذعه الرئيسي شيعياً فقد حشد بسبب ثقافة المقاومة آخرين من خارج الطائفة لتأييده، سواء في لبنان وبالتأكيد خارجه. إلاّ أن هذا الرصيد من التأييد يستنزف الآن وبسرعة بسبب هذا النوع من الخطاب، وأصبح يصرف منه على مشروعات سياسية خاسرة، قد تؤدي أولاً إلى انحسار المؤيدين من خارج الطائفة، ومن ثم انحسار أكبر في داخل المؤسسة الحزبية نفسها. والتفاصيل واضحة المعالم وظهرت جلية في الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله في الأسبوع الماضي. لقد كان الخطاب من حيث الشكل غاضباً، ولم يخل من التناقض سواء في صلب الخطاب أو بمقارنته بمواقف سابقة معلنة من حزب الله، قريبة إلى الذهن. مجموعة من القضايا تبرز في الخطاب اللاهب تحتاج إلى نقاش موضوعي ألخصها في سبع نقاط مركزية.

أولاً: اللوم بل التهديد للعرب، فقد تبنى الخطاب لهجة فيها شكل من أشكال التهديد للعرب، بل وذكر بعضهم خصوصا، في الوقت نفسه أشار في أكثر من مكان إلى استعداده للمثول أمام «لجنة عربية محايدة» للتحقيق في هذا الموضوع أو ذاك. ويبدو للمتابع أن ليس هناك قاعدة سياسية واحدة للرفض والقبول لدور عربي في هذا الموضوع. وهو التدخل السلمي العربي، على رغم أن هذا التدخل مبني، في الغالب، على قاعدة الحفاظ على لبنان.

ثانياً: القضيتان الأخطر اللتان ظهرتا في الخطاب وهما أولاً «تخوين فؤاد السنيورة» وإخراجه من الوطنية، هو وقيادة الأكثرية اللبنانية، وفي صلبها السنية اللبنانية، والثانية اتهامه لبعض الأجهزة الأمنية، بالتجسس عليه أثناء الحرب الأخيرة، وهي أجهزة كانت تابعة لسني آخر هو أحمد فتفت. وكلا المتهمين سنيان من خمسة فقط في الوزارة «الخائنة»، وكان هناك خمسة من الشيعة ومثلهم من الموارنة (نقصوا واحداً أخيراً)، فالوزارة الحالية هي لبنانية وليست سنية! هذه الاتهامات بمجملها توصل إلى «إباحة الدم» والقتل السياسي المعنوي، وكان أجدر، لو كان ذلك حقاً، أن ينسحب حزب الله من الحكومة بمجرد علمه بذلك، لا أن ينتظر إلى أن تضع الحرب أوزارها.

والكل يعلم أن الطائفة السنية هي الوحيدة التي لم تخض الحرب الأهلية المدمرة السابقة في لبنان ولم يعرف لها كغيرها من الطوائف، أية ارتباطات بميليشيات مسلحة كانت تضج بهم الأرض اللبنانية في سنوات الحرب، كما أنها قد آوت كغيرها أيضاً، مهجري الحرب من الجنوب، وقدمت الحكومة اللبنانية الجهد الدولي للحفاظ على البلاد، كل ذلك لا يبرر القول إنها «حكومة قتلة»، أو حكومة «فلتمان». ان ذلك كثير على أي خطاب سياسي. سُنة لبنان في الغالب هم أهل مدن يتعاطون التجارة، عروبيون تاريخياً ومسالمون في أغلب الأحوال. هذا الاتهام المفتوح والقاسي في حق زعمائهم يستنزف من الرصيد القائم لحزب الله لدى آخرين، اعتقدوا انه تجاوز هذا المنحى الطائفي الضيق.

ثالثاً: أعلن الأمين العام في غمرة من الحماس أن حزب الله لا يريد أي مقعد له في الحكومة القادمة، بل سوف «يتبرع» بها لحلفائه، وهو أمر يبدو نبيلاً، إلاّ أن الحلفاء أما لديهم بعض القواعد، فهم لا يحتاجون إلى تبرع من هذا النوع، أو هم فاقدون لأية قاعدة في الشارع، وبالتالي معتمدون على نصرة الحزب، الذي يستهدف في خطوة كهذه، امتلاك «آلة التوجيه عن بعد»، فالحزب في هذه الحال، إن حدثت، يستفيد من كل الايجابيات، ويحمل السلبيات على كاهل تلك المجموعات التي يمكن التخلص من عبء التحالف معها في أية لحظة، اذ تعتمد على «الصدَقة» السياسية للحزب، وبسبب ضعف هذه القوى يستفاد من وجودها بشكل أهم وأكبر من وجود وزراء للحزب في الحكومة! إلاّ أن العرض قد يبدو للبعض من السذج أنه عمل إيثاري كبير في الظاهر! ولكنه غير قابل للتحقيق، فالدستور اللبناني يحدّد عدد الوزراء للطوائف.

يذكرنا، وهذا فقط للمقارنة وليس للحصر، موقف حزب الله في استهلاك رصيده السياسي، بموقف آخر كان للمرحوم جمال عبد الناصر، فقد كان رصيده السياسي في الشارع العربي لا يشق له غبار، وكان عندما يقول للجماهير «توقعناهم من الشرق فقدموا من الغرب»، يؤخذ القول على انه فتح في الإستراتيجية لا يشق له غبار، إلاّ أن ذلك الرصيد على فقر مقولاته سرعان ما انكشف للشارع، وتبين أن صواريخ القاهر والظافر ليست أكثر من خشب مسندة، ذلك خرافة سرعان ما انكشفت، واضمحل ذلك الرصيد، عدا خسارة أرض عربية ما زال العرب يحاولون استعادتها، وقابلت نفس الجماهير التي هتفت في الشارع لتلك المقولات، قابلت السيد ريتشارد نيكسون بالورود في وقت لاحق.

رابعاً: مازال بعضنا يتذكر خطابات السيد نصر الله إبان الحرب الأخيرة، وكانت تركز على طلب لحوح «لوقف إطلاق النار»، كما أن السيد نفسه بعد وقف إطلاق النار بقليل قال ما معناه «لو كنت أعرف أن كل هذا الخراب سيحل بلبنان لما أقدمت على الحرب». وكثيرٌ عظمت في أعينهم تلك التصريحات على أنها شجاعة، وهي فعلا كانت كذلك. فكيف يستوي القول اليوم أن «بعض أهل الحكم اللبناني» قد طلبوا من أميركا التوسط لدى «إسرائيل» لشن حرب على حزب الله؟، لأن الحكومة لا تستطيع نزع سلاحه! كيف يمكن أن تنسجم هذه المقولات وأمثالها مع العقل السليم؟ وكيف يمكن قبول الفكرة المبطنة أن «الحرب كلها كانت بإيعاز من أهل الحكم السنة، وأن الحكومة اللبنانية تجد من يشيد بها ويدافع عنها في «إسرائيل»، واستخدام ذلك كقرينة يعتد بها. لقد تحدثت تقارير إسرائيلية كثيرة عن «حكمة ضبط النفس في دمشق» إبان الحرب وقبلها، وهذا لا يعني لأي عاقل أن دمشق كانت ولو من بعيد قابلة أو راغبة في «نصر إسرائيلي». هذا النوع من التعميمات المفصولة عن منطقها قد تبدو شعبوية بما فيه الكفاية لإثارة الهتاف، ولكنها لا تقدم للعقلاء أي زاد معرفي أو سياسي له معنى. أما التأييد الأميركي لحكومة السنيورة لو كان مثلبة لما طلبت عواصم شرق أوسطية بشدة وإلحاح فتح باب الحوار معها. وأين المشكلة حتى في ذلك التأييد، فهي حكومة شرعية منتخبة، ومن الطبيعي أن تحصل على تأييد من عواصم العالم بما فيها باريس وواشنطن حتى موسكو وبكين.

خامساً: من دون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن حزب الله هو المعني الأساسي بكل هذه المعارضة الفياضة في الشارع اللبناني، الباقي تفاصيل، فلا السيد ميشيل عون ولا سليمان فرنجية الحفيد ولا الأحزاب الصغيرة بقادرة على إخضاع لبنان بأسره على ركبتيه، فقط حزب الله هو القادر. وهو الذي تستغيث برموزه القوى المختلفة عند الضرورة للحشد، ولكنه حشد يأذن بتآكل رصيده. وعلى الجانب الآخر فان أهل السنة في لبنان هم القادرون على التشبيك مع الطوائف الأخرى، المارونية وبقية المسيحيين، والطائفة الدرزية، بسبب نصاعة عملهم السياسي وبراءته من الحروب الأهلية. والإطاحة بسّنة لهم قواعد كبيرة في محيطهم للإتيان بمشدوهين لا يملكون أي رصيد شعبي من أجل تسييرهم عن بعد لا يحقق انتصاراً ولا استقراراً. تلك المعادلة التي يجب التفكير في التخلص منها.

سادساً: القاعدة الرئيسية للمعارضة الحالية في لبنان هي «حزب الله»، ويبدو أنه يسعى إلى تحقيق هدفين، الأول الإطاحة بالمحكمة الدولية لعدد من الأسباب بعضها معروف الآن وبين، وبعضها مازال غامضاً، ولكن الرغبة أصبحت واضحة، ربما لها علاقة بقوى إقليمية، وهي رغبة تجرح بغزارة في الجسم السني، حيث أن رفيق الحريري رجل تعتبره الطائفة وكثير من اللبنانيين من أعمدة الدولة.

والهدف الثاني الاحتفاظ بالسلاح تحت ذرائع مختلفة. الاحتفاظ بالسلاح بدأت ذرائعه تتقلص، بسبب إشراف الدولة اللبنانية على الحدود، ومن المعروف دقة المعادلة القائلة أن ظهور المليشيات في بلد يعني نتيجة وسبب في وقت واحد للدولة الضعيفة. وبما أن الحزب يريد كما يعلن دولة قادرة وقوية، فان الطبيعي أن لا يبقى هناك «مليشيات» خارج الدولة. فمبدأ الدولة يتناقض مع وجود المليشيات، وقوة حزب الله الحقيقية على الأرض في احتفاظه بالسلاح وإلاّ أصبح كغيره من القوى السياسية. ولم ينسى السيد بعد ذلك كله توظيف كل المفردات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في خطابه المذكور، كما لم ينسى أن يوظف البعد الاقتصادي، حيث تحدث في آخره عن أبناء الفقراء وسكان الخيم والبيوت المهدمة وسكان الأزقة، وبعضهم أصبح كذلك بسبب جزئي من سياسات بعض حلفائه الآن، أو بسبب تعطّل الجهد الدولي في الإعمار لأن الأخير لا يستقيم وحشود حزب الله تحاصر مقر الحكومة، فالمعروف أن النمو الاقتصادي يقلل من التوترات السياسية، وتعطيل النمو الاقتصادي يفاقم التوترات السياسية والمذهبية، وهو الحاصل اليوم في لبنان.

سابعاً: هناك مشروعان في لبنان، وهما امتداد لمشروعين في المنطقة، مشروع يرغب في الاستقرار والبناء يجنح للسلم الأهلي، ومشروع آخر يرغب في تحقيق نوع من «الثورية» الغامضة، صلبها ممانعة ما، وقد تجر هذه الممانعة إما إلى حرب «سرية» في لبنان تتمثل في المفخخات والقتل، أو حرباً أهلية. ولبنان لا يستطيع حمل كل ذلك دون أن يتفتت شذر مذر. الجميع محكوم بالتوافق، وكلما ابتعدت الأطراف عن الحشد والتعبئة السلبية، كان أفضل للمجتمع اللبناني بكل أطيافه، لأن التوافق قد يأتي أما الآن بالعقل أو بعد أن تسيل دماء غزيرة، وخطاب السيد حسن الأخير يقرب لبنان من الصراع، الذي سيكون ضحيته هذه المرة السنة وحلفاؤهم أصحاب مشروع بناء الدولة

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1558 - الإثنين 11 ديسمبر 2006م الموافق 20 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً