العدد 1529 - الأحد 12 نوفمبر 2006م الموافق 20 شوال 1427هـ

منتديات... بلوغرز

أنيتا روديك... «ذا بودي شوب»

«إذا كنت تظن أنك ذو تأثير ضعيف لصغر حجمك، فحاول النوم في غرفة بها بعوضة صغيرة» – ضمن المأثورات التي تزخر بها دعايات حافلات ذا بودي شوب.

جاء ميلاد أنيتا روديك العام 1942 كابنة ثالثة من أربعة لأبوين إيطاليين هاجرا إلى ليتل هامبتون في إنجلترا. عملت أنيتا بعد أوقات الدراسة في المقهى الذي تملكه أمها، وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، تعلمت أنيتا من أمها عدم التخلص من أي شيء يمكن إعادة استخدامه، لكن أبويها تطلقا وعمرها ثماني سنوات، وسرعان ما تزوجت الأم آخرَ مات بعدها بعامين. قرأت أنيتا في سن العاشرة كتاباً - مدعوماً بصور مقبضة - يتحدث عن مزاعم إبادة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، ما ملأها حماساً وثورةً للدفاع عن المضطهدين، وبعدما أتمت دراسة اللغة الإنجليزية والتاريخ، عملت في البداية معلمةً، ثم قررت قبول منحة دراسية في دولة المحتل الصهيوني في مستعمرات الكيبوتز، لكنها بعد ثلاثة أشهر طردت من هذه المنحة، إذ إن حبها الشديد المزاح لم يكن أبناء عمومتنا ليحتملوه.

هذا الطرد كان له تأثير إيجابي، إذ قررت بعده أنيتا أن تسيح في ربوع العالم كله، وبعد عودتها إلى موطنها عملت في وظائف عدة، منها توزيع الصحف في باريس، والتدريس في إنجلترا، ولدى الأمم المتحدة في جنيف. سافرت بما ادخرته من نقود إلى تاهيتي، أستراليا، مدغشقر، موريشيوس، وأخيراً جنوب إفريقيا، إذ عملت مُعلمة، لكنها مرة أخرى طردت من وظيفتها لذهابها إلى نادٍ غنائي في ليلة كانت مخصصة للسود فقط، وهو ما كان خرقاً لقوانين التفرقة العنصرية السائدة وقتها، ما جعل الشرطة العنصرية تقوم بترحيلها إلى بلدها! هذا الترحال أثر بشدة في شخصية أنيتا، وهي تروي لنا ذلك بقولها: «أنت تغير قيمك حين تغير مبادئك، فحين تقضي 6 أشهر مع أناس يفركون جلودهم بزبدة الكاكاو كل يوم، ويغسلون شعورهم كل يوم بالطين، ومن ثم تجد أن هذه الأمور تجدي فعلاً وتأتي بالطيب من النتائج، فأنت حتماً ستوقف كل معتقداتك السابقة، وإذا كنت مثلي، فستنمي حباً جارفاً تجاه عِلم الانثربولوجي (علم الأجناس البشرية)».

بعد العودة الثانية إلى موطنها، عرَّفتها أمها إلى زوج المستقبل جوردون روديك، الشاب والشاعر والرحالة الاسكتلندي الصغير، ومعاً افتتحا وأدارا مطعماً صغيراً وفندقًاً مساحته ثماني غرف. كان العمل مضنياً والمجهود شاقًاً، ما ترك لهما القليل جداً من الوقت ليقضياه معاً ومع طفلتيهما، لذلك بعد مرور 3 سنوات قرر الزوجان ذوا الطفلتين أن الوقت حان للتغيير وبيع ما يملكانه. بموافقة أنيتا، سافر الزوج الرحال ليحقق حلمه بامتطاء ظهر حصان من مدينة بيونس آيرس في الأرجنتين، إلى مدينة نيويورك الأميركية! في هذه الأثناء كانت أنيتا بحاجة إلى عمل يشغل وقتها وتفكيرها، ويقوم أودها وبناتها، لكنها أصرت على عمل لا يشغلها عن رعاية بناتها. لذلك قررت في العام 1976 وكان عمرها آنذاك 33 عاماً، افتتاح محل لبيع مواد التجميل الطبيعية، ولأنها شبه مُعدمة قررت صنع مواد التجميل هذه من كل خامة أو أية خامة سبق أن خزنتها في كراجها، والتي جمعتها خلال أسفارها الكثيرة، وهي غالباً ما كانت موادَّ استعملتها النسوة - اللاتي قابلتهن في أسفارها – في شعائرهن القبلية للتطهر والتزين. جاء موقع المحل الأول في مدينة برايتون بجانب دار جنازات، وكان عدد أصناف البضاعة المعروضة للبيع وقتها 15 صنفاً، ومولت أنيتا ثمن هذه المغامرة التجارية برهنها فندقها الصغير مقابل قرض قدره 6500 دولار.

لعبت الأقدار لعبتها وحبكت الظروف حيلتها، ففي الوقت الذي كانت أنيتا فيه تروج موادها الطبيعية، كانت دول أوروبا تشهد صحوةً اجتماعيةً تدعو إلى ترك الصناعي والعودة إلى الطبيعي، وحين قررت أنيتا طلاء جدران محلها - لتغطي شكله الخارجي البالي - باللون الأخضر الذي لم تكن تملك لوناً غيره، كان اللون الأخضر هو اللون الرسمي الذي اختارته هذه الحركة الصحوية للعودة إلى كل ما هو طبيعي. حين قررت أنيتا إعادة استخدام علب بلاستيكية مستعملة، قررت ذلك لضغط الكلفة في البداية، ولم تكن نيتها إعادة التدوير لحماية البيئة. أرادت أنيتا افتتاح محلها الثاني، لكن المصرف رفض طلبها قرضاً بقيمة 8000 دولار، ولذلك راسلت زوجها تطلب إذنه في بيع نصف شركتها لصاحب محطة إعادة تمويل الوقود مقابل تمويل كلف المحل الثاني، ولكنها قررت المضي في هذا الأمر قبل أن تصل إليها رسالة زوجها برفض هذه الفكرة. قبل مرور 10 أشهر كانت أنيتا افتتحت محلها الثاني في مدنية شيستر، وحينها عاد زوجها من السفر العام 1977 وقرر مشاركتها إدارة مشروعها.

ذاعت شهرة «ذا بودي شوب» (محل الجسم) في جميع الأنحاء، وكان تفاعل المشترين كبيراً، حتى إنهم أرادوا بيع منتجات أنيتا الطبيعية في محلاتهم على هيئة فروع تحمل الاسم ذاته. حتى تلك الفترة كانت طريقة إدارة أية شركة فروعها الكثيرة تعتمد على أفراد العائلة والأصدقاء، ولم يكن مصطلح منح حق الامتياز (Franchising) معروفاً، بل يمكن الإدعاء أن زوجها جوردون ابتدعه، وكان المبدأ بسيطاً، فهما لم يطلبا مقابلاً مادياً لاستخدام الاسم التجاري، بل قدما التمويل اللازم لافتتاح كل فرع، مقابل استخدام اسم «ذا بودي شوب»، ومنتجاته طبعاً.

قامت أنيتا بعمل مقابلات شخصية لكل من أراد الحصول على حق الامتياز لفتح فروع تحمل اسم محلاتها، وكانت تطرح أسئلة مثل «ما اسم زهرتك المفضلة؟»، و»كيف تريد أن تموت؟»، ولذلك لا عجب أن أكثر من نجحوا في الحصول على هذا الامتياز كانوا من النساء، حتى اليوم! لم يحتج الأمر إلى كثير من الوقت حتى طرحت أنيتا في العام 1984 أسهم شركتها في البورصة، وأصبح اليوم لدى مشروع أنيتا أكثر من ألفي محل يخدمون أكثر من 80 مليون عميل، في أكثر من 50 بلداً. هذا النجاح جعل ثروة أنيتا الخاصة تفوق أكثر من 200 مليون دولار.

تروي لنا أنيتا كيف أنها تكره شركات التجميل، التي كونت صناعة عملاقة تبيع أوهاماً مستحيلة التحقيق، عبر الكثير من الأكاذيب. تلك الشركات تخدع النساء وتسيء استغلالهن! هذه الرؤية هي التي تحكم فلسفة العمل في «محل الجسم»: تحقيق الأرباح عبر خلق تغييرين اجتماعي وبيئي.

لم تبذل أنيتا أبداً الوعود بأن منتجاتها ستجعل عشرات السنين تزول من وجه أية امرأة، بل انتهجت أساليب غير تقليدية في الدعاية والإعلان، فهي لم تنفق المال على الدعايات، بل كانت تطلق روائح منتجاتها العطرية عبر الطرق المؤدية إلى محلاتها؛ لتجذب الزبائن.

ذات يوم سمعت أنيتا مدير دار الجنائز المجاور لها يشكو من أن نشاط أنيتا يضر بأعمالهم، فما كان من أنيتا إلا تسريب الخبر الطريف إلى الصحف، فتوافد الناس شغوفين بمعرفة ما هذا النشاط الذي سيضر بأعمال الجنائز! بعدها اعتمدت أنيتا على كلمات المديح والتجارب الناجحة وتوصيات العملاء الراضين عن مستوى منتجاتها. عمد آل روديك كذلك إلى دعم قضايا البيئة، فاستخدموا واجهات محلاتهم لدعم مجهودات منظمة السلام الأخضر (غرين بيس)؛ لوقف رمي النفايات السامة في بحر الشمال، وحملت دعاياتهم وأغلفة حقائبهم رسالات دعم لإيقاف حملات صيد الحيتان وحماية غابات الأمطار. على أن أهم دعاياتهم حتى اليوم كانت الدعوة إلى التوقف عن تجربة جديد العقاقير على الحيوانات.

يتم انتقاء البائعين بدقة فائقة، وهم يقضون شهراً من العام في العمل مع المعوقين من الأطفال، كما يُمنع البائعون من الهجوم على الزوار طمعاً في البيع لهم، فمن يريد أن يعرف فعليه أن يسأل أولاً، على أن أغلفة المنتجات تغني عن طرح الأسئلة؛ لكثرة المعلومات المتوافرة فيها عن كل منتج، كما يُمنع استخدام أجساد ووجوه الفاتنات في بذل وعود بجمال لن يتحقق!

حصدت أنيتا خلال مشوارها الكثير من الجوائز التشجيعية، وهي تنسب الفضل إلى زوجها في نجاحها، إذ وفر لها عبقريةً ماليةً وإداريةً أعانتها على تحقيق ما وصلت إليه. في العام 2003 منحت ملكة بريطانيا أنيتا لقب السيدة (Dame) تقديراً لجهودها ونجاحها.

في العام 2002 تنحت أنيتا عن منصب الإدارة، وخصصت ثمانين يوماً من السنة لتعمل مستشارة تجميل في فروع محلاتها الكثيرة، بينما خصصت بقية أيام السنة للدفاع عن حقوق الأقليات والمضطهدين والمظلومين في كل مكان. اتخذت أنيتا قراراً ثورياً في ديسمبر/ كانون الأول 2005 بأنها لا تريد أن تموت غنية، ولذلك قررت سلوك منهج تدريجي للتبرع بكل ثروتها في سبيل رفع الظلم عن بني البشر في العالم كله.

الأم الثائرة كتبت الكثير من الكتب، آخرها وأشهرها: «العمل كما هو غير معتاد» (Business as Unusual) ولم تتوقف عند هذا الحد، إذ إنها كذلك صاحبة مدونة تحمل اسمها وتضع فيها آخر أخبارها، ومقالاتها عن الحرية والظلم والسياسة وطُرق بدء المشروعات التجارية.

في 17 من شهر مارس/ آذار 2006 اشترت مجموعة لوريال شركة ذا بودي شوب، بمبلغ 652.3 مليون جنيه إسترليني، ما أثار الكثير من الجدل، إذ إن لوريال مملوكة جزئياً لشركة نستله، التي كانت عرضةً لحملة مقاطعة بسبب نوعية ألبان أطفال باعتها لأطفال دول العالم الثالث، ما يمثل تعارضاً مع ما قامت عليه «ذا بودي شوب»

العدد 1529 - الأحد 12 نوفمبر 2006م الموافق 20 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً