العدد 3883 - الأربعاء 24 أبريل 2013م الموافق 13 جمادى الآخرة 1434هـ

أقلامٌ بلا ضوء ولا حركة ولا أخلاق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سَرَدَ الروائي العالمي، غابرييل غارسيا ماركيز هذه الحادثة في تصديره لإحدى كتاباته. يقول: جاء إلى بيتي بمدينة مكسيكو شابٌ في الثالثة والعشرين من العمر، كان قد نشَرَ روايته الأولى قبل ستة أشهر، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة، لأنه سَلَّمَ لِتَوِّه مخطوطَ روايته الثانية إلى ناشر.

يضيف ماركيز قائلاً: أبديتُ له حيرتي لتسرُّعِه وهو ما يزال في بداية الطريق. فرَدَّ عليَّ باستهتار: أنتَ عليكَ أن تفكِّر كثيراً قبل أن تكتب؛ لأن العالَمَ بأسرِهِ ينتظرُ ما ستكتُبُه، أما أنا، فأستطيع أن أكتبَ بسرعة، لأن قلَّةً من الناس يقرأونني.

بعد أن سَمِعَ ذلك ماركيز قال: عندئدٍ، فهِمتُ مغزى عبارة بارغاس يوسا؛ فذلك الشاب، قرَّرَ سلفاً أن يكون كاتِباً رديئاً، كما كان في الواقع. إلى أن حَصَلَ على وظيفة جيِّدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة!

هذا الحديث لماركيز قد أصابَ عَصَبَ إشكال الكتابة في حاضرنا، ولكن بشكلها المستتر. وربما ما يهمني من عبارة هذا الروائي المتميِّز، وصفه ذلك الشاب، بأنه «قرَّرَ سلفاً أن يكون كاتِباً رديئاً» وربطه بالوظيفة الجيدة التي حصل عليها «في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة»! إذاً، نحن أمام الرداءة والنفعية العاجلة القائمة على الاستئكال.

في أواننا هذا ومع الأسف، لم يُقرِّر «بعضُ» أصحاب الأقلام الشابة «سناً» فقط لأن يصبحوا كُتاباً رديئين، بل قرَّر «بعضٌ» من شِيْبِهِم «فكراً» لأن يصبحوا رديئين أيضاً. لم يكن السبب لديهم في أن «يصبحوا بتلك الرداءة» تسرُّعِهِم في طلب الشهرة، أو تطفلهم على القلم (وإن كان ذلك صحيحاً ربما). بل لأنهم اختاروا ما يُفضي بهم إلى ذلك الحال المتهالك، من أفكار مُتحجِّرة ولغة منحطة ومواقف لاأخلاقية.

وإذا كانت اللغة هي ضوء العقل كما قال جون ستيوارت ميل، فإن الفكرة هي صوته. وإذا كان الضوء والصوت مرتبطين بالعقول والأفكار، فإن الأخلاق هي الجوهر الذي يرتكز عليه ذلك العقل. ومع شديد الأسف، فإن أولئك النفر، فشلوا في اللغة والفكرة والخلق، فاكتمل بذلك شقاؤهم بتحقق أركان انحطاط العنوان والمعنون في آن واحد.

أيُّ منقصة هذه التي لا يقدر فيها كاتبٌ أن يختار لمقالته فكرة لا يُقارِي فيها «على كِظَّة ظالِمٍ ولا سَغَبِ مظلوم»؟. وأي عَيبٍ ذاك الذي يعجز فيه كاتبٌ في أن ينتقي من الكلمات المهذبة والرصينة، وأمامه أزيد من ثلاثة عشر مليون مفردة، حَبَتنا بها لغتنا العربية، في مَناجِدِها وصِحاحها وقواميسها؟

والأشد بؤساً، هو كيف لم يتحسَّس ذلك البعض من أصحاب الأقلام، مكاناً لهم على حصير الأخلاق، وقد ظهر عَوَارُ ما يدافعون عنه بشكل بَيِّن لا لِبْس فيه؟ والجميع يعلم أنه عندما تضيع الأخلاق، يضيع معها كل شيء، حيث تفسد الأفكار وتفسد اللغة، ويصبح العقل مُجوَّفاً، تسمع الريح وهي تصفر في جدرانه.

أمر آخر يدعو إلى الشفقة عند هؤلاء. فهم يعتبرون الأفكار التي يؤمنون بها كالأصنام التي يعبدونها (رغم فساد جوهرها)، دون أن يجترحوا فيها ولو برأس إبرة شيئاً جديداً، أو يُجْرُوا عليها مراجعة، أو أن يقيموا نقداً ولو مُنَعَّماً. لذا، تراهم كالسَّاقِيَة، ترفع الماء ثم تُزِله، لا تزيد عليه ولا بدلوٍ واحد، حتى وإن بَدَت متحركةً هائجة.

كل ما تكتبه هذه الأقلام، لن يكون إلاَّ كما قالوه بالأمس، وبذات المفردات. بل يستطيع المرء، أن يتنبأ بما سيكتبونه بعد أسبوع، وبعد شهر حتى، لأنهم محاصرون بتلك الأفكار الصَّنَميَّة، لا يستطيعون أن يُغيِّروا فيها حتى حجر النَّرد، لأنهم بالأساس مُسيَّرون.

كان الإمام أبو حنيفة يقول كما جاء في كتاب الانتقاء: «هذا الذي نحن فيه، رأيٌ لا نُجبِرُ أحداً عليه، ولا نقول يجبُ على أحدٍ قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيءٌ أحسن منه فليأتِ به». أما هؤلاء، فإنهم يعتدُّون بما يفكرون به، رغم وضوح كساده وفساده! واعجباً!

إنني على ثقة، أن هذه الأفكار، وهذه اللغة، وهذه المواقف اللاأخلاقية، لا يمكنها أن تنبع من قناعة وتشرُّب في الضمير، بل هي تعبير أصيل، عن رغبتهم في الاستئكال بها على حساب الآخرين، ممن باتت آهاتهم بالنسبة لهؤلاء لا تعدو كونها صفيراً لا تطرب له العاطفة، ودماؤهم كسَكبَة ماء في الهواء، وأجسادهم مجرد بقايا لحم وعظم.

لكن ما يجب على هؤلاء إدراكه هو أننا «لم نسمع الشجر يصرخ تحت فؤوس الحطَّابين، بل سمعنا الحطَّابين يئنُّون وهم يقطعون الشجر» كما قال الشاعر اللبناني وديع سعادة. وقد علَّمتنا الحياة، أن التاريخ لا يصنعه أمثال هؤلاء، وإلا لامتلأت الأسفار بأمثالهم. لذا، فهم يشتمون لكنهم يئِنُّون في الوقت ذاته، ثم إنهم يسيرون باتجاه غياهب التاريخ.

هؤلاء استعملوا اللغوَ لا اللغة، وجرَّبوا الإسفاف لا الفلسفة، ومضغوا الشَّر لا الخير. ولو أن لغتهم كانت سليمةً، لظَهَرَ ضوء عقولهم. ولو جرَّبوا الفلسفة لفعلوا دون أوامر ما يفعله الآخرون خوفاً من القانون. ولو مضغوا الخير، لطَمَعوا في الاستزادة منه. لكنهم كتبوا على أنفسهم الشقاء والبلاء، الذي سيتلمَّظونه في جَيْئات أيامهم القريبة، ما دامت عقولهم لا يصدر منه الضوء ولا الحركة، ولا تحتضنها الأخلاق.

لقد ورَدَ في «المستطرف في كلِّ فن مُستَظرف» للأبشيهي، عن عليٍّ بن عبيدة أنه قال: العقلُ مَلِكٌ والخِصالُ رَعِيَّةٌ، فإذا ضَعُفَ عن القيام عليها وَصَلَ إليها، فَسَمِعَهُ أعرابيٌ فقال: هذا كلام يَقطُرُ عَسَلُهُ. وقد قيل: بأيدي العقولِ تُمسَكُ أعِنَّةُ النفوس، وكلُّ شيءٍ إذا كَثُرَ رَخَصَ إلاَّ العقل، فإنه كلما كثر غلا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3883 - الأربعاء 24 أبريل 2013م الموافق 13 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 6:04 ص

      واخيرا

      واخيرا كتبت عن المنافقين والمتعيشين من سب وشتم كل من يخالفهم في الراءيوالذينه يقلبون الحقائق ويستغبون القارئ في الصحف الصفراء والتلفاز. هم منكشفون امام الكل ولكن همهم في من يدفع لهم وتراهم اليوم يمجدون هذا المسئول ويوم اخر يشتمون الاخر واما بتخوين فحدث ولاحرج,

    • زائر 8 | 4:03 ص

      القلم والاخلاق الحميدة

      مع الأسف الشديد بعض العرب لم يتغير بعد الإسلام ولازال يعيش الجاهلية وان صام وصلى الآن الذي يحدث من تزوير للحقائق وكذب وظلم كان يحدث قبل الإسلام ولا زال يحصل حتى الآن. ما الفرض فيما يحصل الآن وقبل الإسلام؟
      قال تعالى (ادع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) . ليس بالكذب وتزوير الحقائق والاستخفاف بعقول الناس.
      (لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) السلام عليك يا رسول الله هذه احد صفاتك المباركة التي لا يعمل
      اغلب المسلمون.

    • زائر 7 | 3:11 ص

      مقال دسم على الريق

      لغة رصينة وفكرة موضوعية اصبت بها كبد الحقيقة ، في الحقيقة لا أحد يلتفت الى تلك الصحف الصفراء وكتابها المأجورين لقد اضحت مهنة الصحافة في يد من لا صنيعة ولا حرفة له يقتات بها مقابل ما تجود به قريحتهم المريضة فيتقيؤون الغث السمين والسم الزعاف في صباح كل يوم

    • زائر 6 | 3:08 ص

      شكرا

      استادنا الكريم ما كان يجب ان تخاطب هؤلاء بهدا المستوي اللغوي والفكري الرفيع ولكني اجزم بأنك لاتستطيع ان تكتب بمستوي اقل حتي لو حاولت . من خاطبتهم مهم الا كتبه مراهقين ومن يقرأ لهم ماهم الا علي شاكلتهم . سيدي لا تحزن لأن الفقاعات لاتدوم .

    • زائر 5 | 2:31 ص

      الأمانة الكبرى

      البعض يعتقد أن الأمانة فقط في الأموال في حين أن الكلمة والعمل هما الأمانة الأكبر

    • زائر 4 | 2:02 ص

      من تويتر...

      اقتباس من ردود سابقة..
      "ليحذر طلابنا الاعزاء ويكونوا اكثر وعيا هناك من يحيك لهم ليبقوا بعيدين عن مقاعد الدراسة ويراد لهم مستقبل هزيل وكم ستملى بطون الضباع من لحوم الكباش بعد هذه الازمة انها فرصتهم التي يحرصوا ان لا تضيع".

    • زائر 3 | 1:28 ص

      جروا أنفسهم للوحل فمن يخرجهم؟

      أعجبني المقال والتوصيف ولكن ياعزيزي نحن في زمن الأنا ومن بعدي الطوفان في زمن أكتب لمن يدفع لي أكثر ولا يهم المبادئ ولا القيم ولا الأخلاق ، لا أعتقد أن أمهاتهم وآبائهم ربوهم على هذه الأخلاق ولكن الزمن الردئ هو من رباهم مرة أخرى وأنساهم تربية أهاليهم ، الزمن الوسخ هو من أسقاهم النفاق والمصلحة الشخصية وعبادة الدينار والدرهم وكره الآخر والحقد على المذهب ، فلا تنتظر من شخص قبل على نفسه الإهانة والسجود لغير الله وقبل بالفتات أن يكون أمينا على بلده ومصلحة شعبه وصعب عليه الرجوع عما هو عليه.

    • زائر 2 | 12:35 ص

      صح لسانك

      فليتعلم كتاب الاعمدة في الصحف الصفراء من هذا المقال الرائع ويتوقفون عن التكسب على حساب المظلومين

      وفقك الله ياستاذ والى الامام

    • زائر 1 | 10:53 م

      الشجر يئن تحت فؤوس قاطعي الاشجار

      الشجر يئن من ضربات الفؤوس ولكن ضمائرنا لا تسمعها و انانيتنا جعلتنا نعتقد ان حياتنا لا تستمر الا بتحطيم الاشجار الباسقة

اقرأ ايضاً