العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ

ورود... مهشمة

نشأ سيف في عائلة ميسورة الحال بمنزل صغير نسبيّاً... تتكون من الأب والأم وأربعة أولاد وثلاث نسوة، وعلى رغم صغر المنزل فإنه كان يعكس نقاء الترابط الأسري والمودة والرحمة التي تجمع أفراده... ذلك يعود إلى المدرسة الأولى التى يستقىي منها الإنسان - منذ بداية مرحلة النشوء وحتى مرحلة الاعتماد على النفس - شخصيته... وهما الأبوان، فقد شاءت الأقدار لرب هذه العائلة أن يلاقي أهوال الدنيا ومشاقها باكراً، ومنذ عهد المراهقة، فقد توفي أبوه وهو مازال فتى طريّاً، غض الساعد، مما تركه وأمه وإخوته في حيرة من أمرهم! ولأنه كبير هذه العائلة، كان لزاماً عليه أن يتخذ المبادرة ويمسك زمام مشوار التضحية ولاسيما أن إخوته صغار لا يدركون حقيقة ما جرى ويجري سوى اختفاء الأب من البيت منذ فترة ورؤية النساء متشحات بالسواد ويثرن ضجةً بسبب البكاء والعويل.

بعد انقضاء فترة العزاء، ازدادت حيرة الأطفال لمرأى سلوك الأم الذي لم يعتادوه، فقد كانت كثيرة البكاء والعويل، والمنزل تسيطر عليه الكآبة وقلة النظافة وشح الطعام... يشعرون بالجوع دائماً لكنهم سرعان ما يتناسون ما يجري أمامهم ويهرولون راكضين إلى اللعب، متضاحكين غير مبالين بما يحدث.

كان الأخ الأكبر يفتل شاربه الصغير وهو مشغول الذهن ويجول ببصره... فتارة يحدق النظر إلى باب غرفة أمه وتارة أخرى إلى إخوته وهم يلعبون ويمرحون ويضحكون غير مكترثين لما يجري، همَّ لأن يوقفهم لكنه تراجع وكأنه أراد لهذه الضحكات أن تستمر... أن تبعث جوّاً من المرح في المنزل ليبدد هذه الظلمة التي خيمت كليلة ظلماء حالكة السواد، وآن لهذا الحزن أن ينقضي ولهذه الحياة أن تستمر خصوصاً وقد انقضت - منذ أن توفي والده- ثلاثة أشهر، وتارة أخرى يحدق النظر إلى مطرح والده المفضل للجلوس ويطوف به الخيال... أطلق تنهيداته وهو يطيل النظر حتى انتصب واقفاً وخطا بخطوات متثاقلة إلى حيث غرفة أمه.

طرق الباب بطرق خفيف خافت وكأنه خشي أن يبدد هذا السكون...

- من الطارق؟

- أنا أحمد.

- اتركني لحالي الآن...

- حسناً.

وقف أمام الباب في جلد محاولاً منع دموعه من الانحدار على وجنتيه... أطال الوقوف حتى خيل له أن رجليه تصلبتا من طول الوقوف... مال وأسند مرفقه الأيمن على جانب إطار الباب وطرق الباب كرة أخرى فتناهى إلى سمعه صوتها تنهره وتطلب منه عدم إزعاجها.

لم يعرها أي جواب... فقط ترك دموعه تنساب على خديه هذه المرة... لم يستطع حبسها طويلاً... علا نشيجه المكتوم وكأن قلبه أبى أن يتحمل الآلآم والأحزان التي يكابدها، وما هي إلا لحظات حتى فتح الباب، وعندما أبصرها أطرق برأسه أرضاً... ربما خجلاً من بكائه أو ربما لأنه أراد أن يبدو متماسكاً حتى يستطيع تغيير ما يزعم تغييره... لم يعد يدري ولم يعد يعرف حقيقة مشاعره! كان في حيرة ودوامة كبيرة عندما حدثته أمه ذات يوم بأنه سيد المنزل باعتباره كبير إخوته وما سيترتب عليه من مسئوليات... عليه أن يتحمل الثقل الملقى على عاتقه... يومها... عندما غادر المنزل بعد لقائه أمه والحديث الذي دار بينهما عرج نحو البحر القريب من الحي الذي يعيش فيه وجلس القرفصاء فوق جذع نخلة اقتلعت بفعل الرياح وهو يطلق تنهيداته الملتهبة وكأنه يعلن أن فصلاً جديداً قد بدأ في حياته، وأن السفينة قد غادرت الشاطىء وهي الآن تسير في المعترك... الرياح شديدة والأمواج عاتية... سيطول سفرها حتى ترسو على بر الأمان.

(مقطع من رواية: ورود مهشمة للقارئ مهنا جمعة شعيب تصدر قريباً).

العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً