العدد 62 - الأربعاء 06 نوفمبر 2002م الموافق 01 رمضان 1423هـ

تراجيديا...على الطريقة البحرينية!

رحلة العذاب الطويلة من بين أنقاض السيارة إلى التسول في بلدان الخليج... هل تعجز البحرين عن إنقاذ هذا المنكوب من بؤس الحاجة والذلة والعوز وتتكفل بعلاجه؟ والجميع متهم بالتقصير: فكلنا عن إهمال وضياع هذا الرجل وتفكك اسرته، مسئول!

نشر مأساته بالصحافة الخليجية من دون جدوى، وقف على أبواب المساجد ليجمع ما يتعالج به، فأخذوه إلى مركز الشرطة، ولجأ إلى أحد القصور فطردوه.

جاء إلى مبنى الصحيفة يتوكأ على عكازيه ليعرض مشكلته. رحّبنا به معتقدين أن مشكلته من النوع الذي يحتمل الانتظار، ثوبه الأبيض أخفي حقيقة مأساته، فلما بدأ يروي ما عاناه وجدنا أننا أمام كارثة إنسانية بمعنى الكلمة. وبدل الجلوس معه ربع ساعة كانت «جلسة الاستماع» إليه لمدة ثلاث ساعات، ولأنه لا يملك وسيلة مواصلات خاصة، عرضنا عليه توصيله إلى حيث يسكن في منطقة عالي، وفوق الساعات الثلاث التي قضاها الرجل في مبنى الصحيفة، استثمرنا كذلك مسافة الوصول إلى منزله فدار هذا الحديث في السيارة أيضا: «كيف تعيشون؟» فأجاب: «عايشين عيشة لا يرضاها لنا الله ولا رسوله، لم أترك باباً إلا طرقته»... وسكت.

لما وصلنا المنزل - السجن، طرق الباب بقبضته فلما لم يخرج أحد دفع الباب بقوة فانفتح. البيت كان أشبه بسجن «أبو غريب» العراقي الذي شاهدنا صوره على شاشات التلفزة في الأسابيع الأخيرة عند إطلاق السجناء العراقيين. كانت رؤوس الأطفال تطل عليك من الكوى المظلمة والأبواب المواربة وهو يصيح بهم للدخول لأن معه رجلاً غريباً.

ابتدأت المأساة عند تعرضه إلى حادث مروري في العام 1997 في رحلة بين الإمارات والسعودية، عندما انقلبت به سيارة الأجرة، ليخرج من بين الأنقاض إلى مستشفى بالسعودية في حالة غيبوبة استمرت ستة أشهر، إذ أصيب بكسور متعددة في منطقة الحوض، وفي بعض الضلوع، مع تمزق حاد في عظم العانة وانصهار المفصل العجزي الحرقفي الأيمن، ما يسبب له آلاماً تحرمه من النوم أحياناً حتى الآن.

وتم تحويله إلى أحد المستشفيات ليقضي ثلاث سنوات من دون فائدة، ثم دخل مستشفى المفرق بالإمارات اذ أفاده الأطباء أنه لا يوجد علاج لحاله في دول مجلس التعاون، وأن علاجه متوافر في ألمانيا أو مصر. وهو يمشي على عكازين ويرتدي مساعداً صناعياً لكامل القدم.

مأساة ولّدت مآسي أخرى

الحادث المروري كان بداية سلسلة من المآسي، فالرجل كان صاحب مؤسسة من الدرجة الثانية: «المصباح الذهبي للتجارة والمقاولات»، وكان في نعمة وخير، يعمل تحت إمرته خمسون شخصاً بين عامل وبنّاء وكهربائي ومهندس، وكان إذا أراد إنجاز معاملة رفع سماعة الهاتف فيقوم المصرف بإنجازها. وكان على علاقة بالمتنفذين في البلد، كان يجلس مع أحد كبار القوم - ذكر اسمه - على مائدة واحدة يتناولان الغداء في منزله كما قال، وله صداقة بعلماء الدين والقضاة أيضاً، ولما أسقطه الزمن تخلى عنه الجميع. كان يزور مكتب أحد الوزراء - ذكر اسمه - طلباً للعلاج يومياً لمدة ستة أشهر ولم يسعفه بمئة فلس، واستغاث بأحد الوجهاء فطرده مدير مكتبه الآسيوي. فقط وزير واحد أثنى عليه ثناءً عاطراً لأنه أعطاه مبلغ 100 دينار مع كتاب توصية لوزير الصحة، حيث أجاب على الكتاب بعد ستة أشهر من الانتظار، جاء الرد بأن علاجه متوافر في البحرين، مع انه تلقى العلاج الطبيعي من دون جدوى!! وزارة الكهرباء تلاحقه بمبلغ 1845,690 ديناراً لتفادي قطع الخدمة خلال ثلاثة أيام!! (بحسب آخر فاتورة بتاريخ 7/10/2002) وهو العاجز عن إطعام عياله العشرين. بتلكو أسقطت جزءًا من ديونه وأبقت في ذمته مبلغ 1450 دينار!! ولكن وزارة الاسكان رفضت ان تسقط عنه ما تبقى عليه (8000 دينار) رغم محاولاته. الشيء الإيجابي الذي يذكره لبعض المصارف الأهلية أنها أسقطت ديونه التي تراكمت عليه للزبائن. يستلم من الشئون الاجتماعية 95 ديناراً كل شهرين، ومن صندوق البحرين الخيري 95 أخرى لكل 3 شهور. ومن صندوق إسكان عالي مواد غذائية بمبلغ 15 ديناراً شهرياً، فإذا كانت الأفواه الواجب إطعامها عشرين، فهل مجموع 107,5 دنانير تكفي لمؤونة شهر واحد؟ له طلب في الديوان الملكي يحمل رقم 1773، تاريخه 6/2/2001، آخر مراجعة يوم 21/10/2002، من دون نتيجة (قبل يوم واحد من مجيئه إلى «الوسط»).

يقول الرجل: «لم أتعود على مد يدي لأحد. كنت أساعد الناس من أهلي ومن غيرهم، أحد اقاربي قضيت دينه للمصرف بعد اكتمال بناء بيته يوم كنت أعمل، ولكنه بعدها لم يسدد لي شيئاً».

وبسبب شظف العيش وصعوبة الحياة، وثقل المسئولية على كاهله اضطر إلى السفر إلى دول الخليج. كل سفرة مأساة بحد ذاتها. في الإمارات ذهب يستجدي المساعدة، فاتصل أحدهم بالشرطة مبلغا عنه وتم نقله إلى مركز الشرطة، ولما قال له الضابط:«ألا تعرف بأن التسول هنا ممنوع؟» رد: «وماذا أصنع وعندي عشرون شخصاً أعيلهم وأنا عاجز أمشي على عكاز؟» فتفهم الرجل ظروفه وأطلق سراحه.

ذهب إلى دولة خليجية أخرى للمساعدة في علاجه، فطردوه من أمام القصر العالي الأسوار، والمتحصن بترسبات التاريخ! وذهب إلى دولة خليجية ثالثة وجلس إلى جانب المحتاجين، فوضع رجل في يده مبلغ 15 ديناراً، ثم عاد رجل آخر ليستعيد المبلغ من يده لأنه «ليس من الجماعة»!

رحلة من العذاب والذل يتحملها الرجل في سبيل إطعام الأفواه الجائعة، ولما ضاق به الأمر قبل أسبوعين راودته نفسه بإنهاء حياته بالسقوط من السطح إلى الأرض، ولكنه خشي الله وتذكّر عقاب الانتحار في الآخرة.

نشر بعض النداءات الإنسانية في صحف الدول الخليجية التي لجأ إليها مع شرح حاله، في أحدها حصل على مبلغ زهيد، وفي الأخرى لم يحصل على شروى نقير. سألته: «ماذا تريد بالضبط؟»

أجاب: «أريد أن يتيسر لي العلاج، فهو متوافر في ألمانيا ولكن كلفته باهظة، ومتوافر أيضاً في مصر ولكن بكلفة أقل. وأرجو من أصحاب الخير أن يمدوا لي يد المعونة في محنتي لانتهي من هذه الآلام وأقوم بشأن عائلتي بدل الاعتماد على الآخرين».

عبدالكريم مهدي مبارك، هو اسم المأساة الإنسانية الماشية على قدمين ضعيفتين وعكازين متهرئين، ربما ساقته المقادير ليتحول من حال إلى حال.

لسنا هنا في وارد التساؤل عما أوصل هذا المواطن إلى هذه الحال، فهذا رجوع إلى الماضي، فالحديث عن أهمية تأمين المستقبل ضد عاديات الدهر من أكثر الأمور التي تشيع هذه الأيام في الدول التي تمتع مواطنوها بعدم الأمان لما يرونه من مآس، فيتعضون بما يرون، ويحسبون أن ما حل في الناس من الممكن - جداً - أن يحل بهم هم أيضاً.

ولكننا هنا في وارد البحث عن مخارج لهذا الرجل لأجله هو ولأجل أولاده الذين يريدون أن يربيهم العز لا الذل، ويكبرون في كنف الكرامة لا الخنوع، ويفخرون بأبيهم ووطنهم بدل أن يجحدوا الأول ويتنكروا للثاني.

هناك دعوات كثيرة لتقنين مساعدات الصناديق والجمعيات التي تقدم للفقراء، على اعتبار أنها تذهب إلى «بلاعة» لا تمتلئ، وهناك من يتلذذ بالكسل مادام رزقه يأتيه رغدا، ولكن حالة كحالة مبارك التي بين أيدينا اليوم، حالة رجل يريد أن يتعافى ليعود قادراً على مواصلة العمل...كل ما يطلبه أن يتم منحه هذه الفرصة حتى يعود قوياً كريماً كما كان. فهل سيكفيه وطنه محنة السؤال؟?

العدد 62 - الأربعاء 06 نوفمبر 2002م الموافق 01 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً