العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ

شراك في وهج الكلام... قراءة نقدية في ديوان سعد الجوير «تم الكتاب»

يوزع سعد الجوير ديوانه الموسوم بـ «تم الكتاب»، الصادر عن مركز الحضارة العربية في القاهرة، على عدة أقسام (الشراك، السفر، المدارات، المواقد، المشاهد). صدر الديوان عام 2004 بعد ديوانيه «ظل لا ترسمه نخلة» و «طقوس صاخبة». يتميز الجوير كشاعر بتدفق للصور الفنية التي تمسك بتلابيب بعضها البعض، ما لا يترك بعض الأحيان مجالاً للمتلقي ليتأمل في الصورة الذاهبة إلى مرماها. ونجده في بعض أقسام الديوان اختفاء للعناوين الفرعية على القصائد واعتماد الترقيم باعتباره عنواناً عليها. ونجد في (المواقد) نصوصاً كتبت على الطريقة النثرية في ملء السطر الكتابي على طريقة النثر، تلك الطريقة التي تتمثل قصيدة النثر الأوروبية في شكلها الكتابي، وتبدو لنا فيها بشكل واضح تلك الأنا الشاعرة التي تتقافز في ضمير المتكلم المتصل في كثير من الأحيان بالفعل، ما يجعل كل الأشياء متصلة بوجود الشاعر، وتتحرك من حوله في ملمح صوفي يكاد لا يستبان.

تفلت الذات

لكننا في هذه المرة لن نتكلم عن تلك الذات الشاعرة باعتبارها تخترق الديوان في كل مستوياته وهي من السمات الغنائية التي انتقلت من تقاليد الشعرية العربية منذ وضعت حتى قصيدة النثر. ونتلمس تلك الكينونة في القسم الأول من الديوان باعتباره ممثلاً للحالة كما تظهر لنا. وليس بأمر خفي على القارئ المتبصر أن هناك بعض التصورات المثيولوجية التي تقول بأن الوجود ابتدأ من فعل الكلام (كن فيكون) ومع أن كان وأخواتها من الأفعال الناقصة، لكن فعلها في الكلام عميق في التعبير عن الذات عندما ترتبط بالضمائر، ذلك لعدم تغاير الذات في التعبير عن الأنا في كل مرة، وكذلك هي الأفعال التي ترتبط بفعل الكينونة الشاعرة في عناصر الوجود حين تأملها.

لكن تلك الذات تدخل في حوار مع صورة الذات على مستوى من مستويات الوجود، فحيث كان الشاعر هو النشوة إلا أن تلك النشوة كانت في الحلم، والحلم لا يحدث إلا في النوم والنوم هو حالة الروح السائلة التي تحلم بينما كان الحلم وعياً بما يتجلى من الشرك في متاهة الناس. والشرك يذهب في معنى المفردة إلى أبعد من تلك الإعدادات التي تنصب كفخاخ للعابرين، إي أن الشرك هو بمعنى من المعاني جعل شريكاً لله. ولكن المعنى الذي يذهب منذ تربع العنوان (شرك الحلم) يعيد المعنى إلى الفخ وذلك الفخ موجود بين الناس الذين يشكلون متاهة من شبكة هائلة من العلاقات الإنسانية تجعلهم أكبر من كل فرد على حدة، فترى الناس لكنك لا تبصر الشراك المنصوبة بين ظهرانيهم. إذاً فالذات هي الحالمة والحلم هو بشكل ما إما حارس النوم المتعب في علم النفس الفرويدي أو هو ما يحلم به الشاعر من مجتمع لم يتحقق بعد.

«كنت النشوة

وكانت النشوة في الحلم

وكان الشرك في متاهة الناس

وكانت متاهة الناس لا أقربها»

بينما تستبين الذات نفسها، الحلم هو المكان الوحيد الذي تكون فيه أنت البطل وأنت الذي يطل على الحدث من مكان ما. تدرك وجودك في المكان ولكنك في الوقت ذاته تتحسس وجودك وتبصره. من التبصر تنتج حالة البعد والانفصال عن الذات التي تعي نفسها باعتبارها موضوعاً للمعرفة، تلك المعرفة التي تدفع بالمستقبل بما يحمل من هبات تلذ لتلك الصحراء القاحلة التي يهبها زوادة الطعام لقطع الدرب، ذلك الدرب الصحراوي القاحل الذي سيفضي إلى الحلم، لذلك يقول سعد الجوير:

«ابتعدت

وكنت في الحلم

أقرب الكلام

وأهب الصحراء زوادة الحفيد»

أمام الذات

في مفتتح الكلام يقول الشاعر عن ذاته الفاعلة التي تتركهم وتدخل وتقرأ، بينما فعل الترك فعل ماضي يعبر فيه الشاعر عن انفصاله عن الجماعة منذ زمن، بينما يعبر ضمير المتكلم المتصل عن القرب والالتصاق بالذات، ولكنه يتركهم في منازلهم، وهم ضمير الجماعة الحاضرة التي يشير إليهم الشاعر. تلك المنازل التي تعبر عن ذواتهم، فلا يوجد مكان حميم يعبر عن الذات الإنسانية كالمنزل مهما كان ذلك المنزل، ولكن الجوير يجيب على سؤال لم تركهم في منازلهم، من خلال الفعل الذي يشير إلى حركة الوجود (دخلت) ذلك الدخول للتيه الذي تشبكه خيارات الكائن، وتذهب به للبعيد، بينما تقوم الذات بفعل القراءة. ذلك الفعل الذي يفترض أن هناك كائناً ما كتب قبل أو أثناء فعل القراءة، ذلك الفعل الذي يدخله في حالة الرؤية، التي تقوده للتأمل فيما يفلت من معنى في الغبار، فيرى كيف تكون العواصم الفاجرة، وفعل الفجور يتكاثر كما تتناثر أو تتكاثر الأسماء في صحراء مثل مهرجان

«تركتهم في منازلهم

ودخلت التيه

وقرأت الغبار..

كانت العواصم تفتح أفخاذها

وكنت أرى

وكانت الأسماء تتناثر مثل صحراء في مهرجان»

ويقلب الجوير فعل الرؤية المربوط بالكينونة مرات متعددة (كنت أرى). بينما يقرأ من يضرب الرمل ما تتحقق من خطوط في الرمل متعرجة. يرى الجوير ما يتراقص من مواقد وكؤوس تتقلب في انتشائها، تلك الرؤية ليتحقق من حالة الحلم التي تستحيل السماء إلى امرأة حبلى بحبال ترضع دلاء لا تغنيها عن عطش ولا تنجيها من تهلكة السواد، لعل السماء هنا فضاء واسع كالحياة الاجتماعية التي لا تنجو بحكم هيمنة السواد عليها، والسواد معرف بالتعبير عن الحزن أو الليل وحتى الليل يفتح أفقاً يتعلق بالجهل والخوف واضمحلال الرؤية، بينما ظل الشاعر يرى، ليعبر عن أشواقه لأمر لا يستبان من التركيب، ولعله انعطافة على التركيب التراثي الذي يجعل الأمر لولاة الأمر. وبالتالي يعبر الشاعر عن رغبته نحو المساهمة في الحياة كما هي، لكنه عندما قصدته وعندما قصد، كف هو عن الفعل، وظل بعيداً عن الإغواء ودخول لم تجزم بالسكون ما بعدها، فكانت هناك مطابقة بين الذات الشاعرة والسكون الذي جعله يفلت من الشرك، شرك الناس.

«وكنت أرى

كانت المواقد ترقص

والكؤوس تتقلب بانتشائها اللينين

وكنت أرى

وكانت السماء تحبل بالحبال

وترضع الدلاء

فلا تغنيها عن العطش

وعن تهلكة السواد

وكنت أرى

وكان لي هوى من الأمر

فقصدتني حين قصدت

ولم أعجب»

ولعل ما يشيع الغموض في بعض العبارات هو الجملة الشعرية الاعتراضية التي تشكل انعطافاً حاداً بعيداً عن التواصل مع العبارة السابقة مثل (جاعل طيف المدينة/ وحكمة الناس) فقلت للطريق ظمئت وما اقتفيت الحكاية واكتفيت، ولكنها جاءت (قلت لطريق أخرى/ جاعل طيف المدينة/ وحكمة الناس/ ظمئت وما اقتفيت الحكاية/ واكتفيت..) أو حتى إهمال الفاصلة (وكانت متاهة الناس لا أقربها) فمثلاً هناك فاصلة يجب أن توضع بعد كلمة الناس حتى يستقيم المعنى بمعرفة القارئ أن هناك انقطاعاً في القراءة، ولعلها من الأخطاء المطبعية.

يذهب الجوير بالتركيب اللغوي نحو التعبير عن التقابل بين فعل الذات وما هو كائن بالفعل باعتباره وجوداً مضاداً، فيضع ذاته في مقابل الموضوع ويبدأ في نسج تلك العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر بوصفه وجوداً مغايراً وهو ما يبني الفعل الدرامي في القصيدة، فأما ما هو كائن بالفعل (كانت الممالك وكانت المسالك) ويستعير من قاموس الصوفية (المسالك) التي توحي بعذابات العابرين نحو طرق تؤدي إلى الحلول، بينما تقف الذات في فعلها ضمن المعبر عنه في (قلت، ظمئت، اقتفيت، اكتفيت)، وهو ما يشتبك مع المجموع باعتباره ضداً يقوم أمام الذات الشاعرة (جعلوا، انتزعوا، تراجعوا) بينما يعاود الحوار ذهابه في (كنت أقتفي، وأرخي، وأتهادم، وأهدم وانهدم) بينما تظل القوة الغاشمة تفعل فعلها في الصراع كمن لا يصيبه ما يحدث في أتون الحرب (وكانت السيوف تفعل فعل السالم من صهيل الحرب) لينحل الصراع الذي سيستمر

« كانت الممالك

مثل أرض تدور

وسماء تقفز عن ثيابها

وكانت المسالك

مثل غربة تجحظ عينيها

بمرآة الوحدة

ولا تستجير..

قلت لطريق أخرى

جاعل طيف المدينة

وحكمة الناس

ظمئت وما اقتفيت الحكاية

واكتفيت...

جعلوا أقدامهم في أكبادهم

وانتزعوا صفة الثعابين

وتراجعوا

كنت أقتفي الضياع

وأرخي الرياح

وأتهادم وأهدم وأنهدم

وكانت السيوف تفعل فعل السالم

من صهيل الحرب...».

العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً