العدد 4018 - الجمعة 06 سبتمبر 2013م الموافق 01 ذي القعدة 1434هـ

الإسلاميون ومعضلة الحكم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كل الأمور عرضة للتقلبات حين تهبط المبادئ العامة وتنزل إلى الناس في الساحات والميادين. وكل ما هو خارج المطلق واللامحدود واللانهائي يتعرّض دائمًا للتأويل والنقض والتفسير والتنافس والتعارض والنقص.

والديمقراطية في المعنى المذكور نسبية وتاريخية وتراكمية وهي عرضة للصعود والهبوط وفيها الكثير من السلبيات والمثالب، لكن السؤال يبقى مطروحاً للاختيار والمفاضلة بين الحرية والاستبداد، العدالة والطغيان. والجواب في هذا الإطار لا يحتاج بالضرورة إلى سؤال، لأن الانحياز لابدّ أن يكون أبداً إلى جانب الحرّية والعدالة.

الآن تحتاج المنطقة العربية، وتحديداً البلدان التي شهدت احتجاجات ومتغيرات إلى إعادة توحيد سياسي لرأب الصدع الناتج من تداعيات فترة الاستبداد. وإعادة توحيد الجماعات الأهلية، الخارجة حديثاً من حياة العزلة إلى دائرة الضوء والحرية، تحتاج بدايةً إلى قوة جاذبية، ودستور يشكّل مرجعية لكل القوى ويؤسس رافعة لانتشال الناس من حالات الفرقة والتمزق. فالمعضلة تكمن أصلاً في التفكك الأهلي النّاجم أصلاً عن الموروث التقليدي لمنظومة الملل والنحل وضعف الدّولة الحديثة، وهي في النهاية مسألة تاريخية تتصل بالتكوين الاجتماعي البنيوي الديموغرافي للجماعات سواء كانت تنتمي إلى الأكثرية أم إلى الأقليات.

تاريخياً كانت المشكلة موجودة، لأنّ طبيعة المجتمع العربي ـ الإسلامي تأسّست دستورياً على التنوّع والتعدد والاعتراف بالمختلف الآخر، ما أعطى المجال الحيوي لنمو ظاهرة الملل والنحل واختلاف قوانين الأحوال الشخصية في العصرين المملوكي والعثماني. حتى ابن خلدون، تعرّض إلى هذا الموضوع على طريقته الخاصة، فصاحب المقدمة رأى في تكاثر العصبيات مشكلة تسهم في إضعاف الدولة، كذلك وجد في تجانس العصبيات نقطة إيجابية تساعد على تعزيز قوة الدولة.

عدم التجانس معضلة تاريخية عانت منها المجتمعات العربية، وأدّى إلى إضعاف الدولة المركزية وتشتيت قواها بسبب اضطرارها إلى خوض مواجهة دائمة مع الأطراف. لهذا السبب اتجه ابن خلدون إلى إعطاء الدين الإسلامي دوره الخاص بوصفه قوة توحيدية تضعف العصبيات وتقلل من مخاطر سلبيات تكاثرها. فالدولة عنده هي الرافعة التاريخية ولا تقوم لها قائمة إلاّ على قاعدتين: العصبية الغالبة والدين.

الزمن الحاضر

هذا في زمن ابن خلدون الذي عاصر الدولة المرينية في المغرب والدولة المملوكية في مصر قبل 600 سنة. أما في الزمن الحاضر الذي تعصف به «الحداثات» فلابدّ من البحث عن إطار اتفاق يعطي الضمانات ويتجاوز معضلة عدم تجانس المجتمع الأهلي، وانفجار التصدع الذي ظهر ميدانياً بعد تساقط أنظمة الاستبداد في تونس وليبيا واليمن ومصر أو بعد تقويض الدولة في العراق.

اختلفت البنية الاجتماعية كثيراً عن زمن ابن خلدون، لكن قانون الأكثريات والأقليات (العصبيات الدينية والأقوامية السياسية) وعدم التجانس بين الجماعات الأهلية لا يزال قائماً، وهذا أمر يتطلب البحث عن حل مشترك يتجاوز خطاب الأصالة أو الحداثة. فالأزمة مشتركة والحل يتوقف على رؤية معاصرة تستفيد من تجارب الماضي في أوروبا أو العالم الإسلامي.

أوروبا دخلت في هذه المحطة التاريخية، أزمة الأقليات والأكثريات، في القرن السادس عشر وما أطلقته من حروب دينية استقرت في النهاية على الإقرار بتسويات فرضتها بقوة الدولة القومية (توحيد السوق) وترافقت مع لحظة نشوء وبدء صعود «المجتمع المدني» في القرن الثامن عشر. آنذاك بدأت النخبة الصاعدة بإنتاج دساتير تقرأ الواقع في إطار مرجعيات دمجت الأهل في سياق نمو ظاهرة الدولة الحديثة المتخالفة نسبياً مع الدين والمتصالحة مع التكوين الاجتماعي للأمّة. إلاّ أنّ أوروبا تتميز في منظومتها الاجتماعية عن البلدان العربية بنقطة أساسية، وهي وجود حالات من الانسجام النسبي لجهة التجانس القومي أو الديني أو المذهبي في البلد الواحد، وهذا أمر غير متوافر بقوة في معظم البلدان العربية، خصوصاً في المشرق العربي التي تشكّلت سياسياً بعد تصدّع السلطنة العثمانية وتعرّضها إلى احتلالات وتقسيمات فرضتها الدول الأوروبية. حتى المناطق التي تتوافر فيها الحدود المعقولة للانسجام الديني ـ القومي تعاني من انقسامات مناطقية أو قبلية أو جهوية كما هو حال اليمن وليبيا والصومال.

المسألة معقّدة، وهي أكبر من القوى الإسلامية. المشكلة تتطلب مشاركة وطنية تتجاوز خطابات الأصالة والمعاصرة لكون الأزمة مشتركة وتحتاج إلى نوع من التسوية التاريخية (العقد السياسي) التي تربط الجماعات الأهلية وتشدها إلى إطار دستوري يشكل وعاءً ينهض بالدولة ويعيد هيكلة الانقسامات وضبطها حتى تستطيع المجتمعات الانتقال تدريجياً من طور الانشطار الأهلي إلى مرحلة الانقسام السياسي ـ المدني.

تبقى أسئلة أخرى بشأن التحدّيات التي واجهت أو ستواجه القوى الإسلاميّة في مرحلة ما بعد استلام الحكم. ماذا يستطيع الإسلاميون أن يفعلوا أكثر من غيرهم؟ هل بإمكان القوى الصاعدة بعد انتفاضات «الربيع العربي» أن تغيّر المعادلة وتقوم بعمليات التحديث والإصلاح وتقوية الدولة وتوسيع وظائفها بالتوازي مع تطوير مؤسسات «المجتمع المدني» والهيئات التقليديّة من دون إثارة الجماعات الأهلية واستفزازها، وعدم المساهمة في دفع خريطة «الشرق الأوسط» السّياسية نحو المزيد من التصدّع.

أسئلة كثيرة مطروحة ويوجد غيرها من قراءات ترى أن القوى الإسلامية الصاعدة إلى السلطة دخلت أو ستدخل في ورطة كبيرة، ويحتمل أن تتحوّل المسئوليات الرسمية إلى محرقة سياسية تأكل قواعدها الشعبية بعد فترة ليست بالطويلة. لائحة التحدّيات ممتدة، وهي إلى جانب القضايا الاجتماعية والتنموية والتربوية والبيئية والصحية والثقافية والتعليمية وغيرها من أمور تتصل مباشرة بالاقتصاد وموازنة الدولة ومواردها ونفقاتها والأشغال العامة... هناك أيضاً قضايا سياسية تتصل بالعلاقات الديبلوماسية الدولية وترابط موازين القوى بالمصلحة العليا، وموضوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومسألة السلم والحرب والاعتراف بـ «إسرائيل» وعودة الشعب الفلسطيني، ومدى استعداد القوى الجديدة والصاعدة على السكوت على ما يجري في محيطها، وتجاهل قضايا الظلم والحقوق والعدالة الإنسانية وما يتفرع عنها من التزامات قانونية بشأن حقوق الإنسان وتمكين المرأة وضرورة المشاركة في صنع القرار والاعتراف بالآخر وحقّه في الاعتراض.

المهمات كثيرة وهي ضرورية حتى يتوازن المجتمع وتتحقق المصالحة في سياق تسوية تاريخية تحتاج فعلاً إلى عقلية تسامحية تستوعب التعارضات وتحتوي التناقضات، وتبتكر آليات مرنة في تصور الحلول ووضع الخطط الميدانية لتنفيذ المشروعات وتجاوز العقبات المتأخرة والمتوارثة من عهود سابقة.

تحديات كثيرة انتظرت وتنتظر القوى الإسلامية بعد صعودها إلى السلطة، والتحديات في مجملها ليست نظرية ولا تُرمى على الطاولة بقصد المناورة أو الاستفزاز. المسألة جدّية وهي فعلاً تتطلب إعادة قراءة، لأن الموضوعات المتراكمة من عهود سابقة تحتاج إلى سياسة حكيمة مبنية على تصوّرات منهجية ولا يمكن تأجيلها بانتظار أن تحصل «معجزة» ما لا يُعرف متى تقع.

لا شكّ في أن القوى الإسلامية، مثلها مثل الأحزاب السياسية المعارضة، تمتلك الكثير من البرامج والخطط والأفكار العامة والنظرية. وهي لا تتحمل المسئولية وحدها في اعتبار أن غاية التقدم معضلة تاريخية ـ اجتماعية مشتركة ولا يمكن وضعها على الرف أو في خزنة الأسرار لكون هاجس الإصلاح والتحديث والتطوير يقع على عاتق الجميع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومنع المجتمع من مواصلة الانزلاق نحو استقطابات أهلية تجوّف الدولة من وحدتها وتمزّق نسيجها وتفرّغ قواها المنتجة من عصب الحياة. وأهم تلك المواجهات المحتملة في المنظور القريب يمكن اختصارها بخلفيات وأهداف ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط «الكبير» أو «الصغير» أو «الجديد». التحدّيات كبرى وهي ليست بسيطة وتستحق فعلاً من القوى الإسلامية التعامل معها بجدية ورؤية عقلانية وعاقلة حتى لا يتحول التغيير إلى لعنة بعد أن كان بركة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 4018 - الجمعة 06 سبتمبر 2013م الموافق 01 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 7:11 ص

      انه

      انه استغرب من بعض الايمه اصلون ويتعبدون ويدعون انهم يخافون الله وفى نهاية صلاتهم يدعون من الله تدمير الفئه المغضوب عليها ويتهمونهم بالكفر وهم مسلمون هل الاسلام علمنا هاده المنطق اجيبونى انه الله يعلم ماتعلمون بالخفاء

    • زائر 12 | 6:12 ص

      انها ليست اسلامية

      الحكومات التي تسمي نفسها حكومة اسلامية فهي فالاسلام منهم براء ، الحكومة الاسلامية الحقيقية لو وجدت على ظهر هذه الارض ستنشر العدل ، ونحن ننتظر الدولة المهدوية التي ستحقق العدل انحاء العالم

    • زائر 11 | 2:28 ص

      المبررات ليست براهين ولكن البحث عن أساس أولى

      قد بحث البعض عن مبرر لا أساس له بينما هل هذا صحيح لشن حرب عدوان على شعب أعزل؟ يقال جاهلية - عصبية أختها يعني وعلى رأي تقوم حرب من أجل مصالح غربيه و خلافات على أبسط وقد تكون على رأي أو جهة نظر – يعني فساد في الرأي أو فساد ضمائر أو أفسدوا بالرأي للود قضية؟ أو نسوا أنه كما المال والبنون زينة الحياة، المال والبنون فتنة الحياة الدنيا كذلك. اليس عودة أمريكية صهيو أوربيه لا تريد لأحد أن يعود الى عقله ويعود الصفاء والود والتراحم بين الشعوب وبين المجتمع وبين الناس؟

    • زائر 9 | 2:01 ص

      من التحولات تحويل إتجاه القبلة

      قال الله لا تعتدوا كما قال الله لا تسرفوا .. قال الله لاتسرقوا .. بينما من ما كشفته الفوضى أن المستشرقين وجدوا أن من المسلمين في بلاد الاسلام تدعي أنها أسلمت لكنها بلا إسلام؟ فأين ذهب الإسلام وفلسطين وشعباها سنين محاورات ومشاورات ولم يحل السلام؟ قد تكون مشكلة أو مسألة أو معضلة لكن مشكلة المسلمون مع أنفسهم. فكيف تحلوا من عبادة رب البيت الى رب البيت الأبيض ومن عبادة الأصنام الى عبادة المال والدنيا والرفاهيه؟

    • زائر 6 | 12:58 ص

      إعرف نفسك أولاً ومن خالقك

      قد تتعدد الأسباب لكن الغاية لا تبررها الوسيلة. فليس بسر أن الحركة الوهابية كانت ليست صنعة لكنها بدعة بعض التجار واليوم من تجارة حرة عالمية الى نشر إسلام ليس له من الإسلام الأ الإسم دون الجوهر- تم ترويجه وتسويقه بدعاية وإعلان له كما التبشيريون والمسيحيه. الغاية واحدة - تضليل الناس وليس هدايتهم. ويستخدمون المال الكذب وكل ما يخطر ببال الناس في سبيل هذه الغاية. فما غاية التبشيري؟ وما غاية الإرهابي؟ وما غاية التكفيري؟ وكيف لإنسان لا يعرف حقه سيحترم غيره؟

    • زائر 5 | 12:45 ص

      ما علاقة الحاكم بالحكم؟ وما صلة الكرسي بالحكم؟

      يقال لا حكم إلا لله بينما شرعوا وتبرعوا بأحكام من جاهليه. فأين شرع الله من ما غيروا بدلوا من شرع الله؟ فعند ما يكون لا علاقة للحكم بالحاكم أو لا أحكام عرفيه. هنا كما جرت العادة في حال لم يعملوا بالقانون ولكن عملوا بالعرف والأعراف والعادات والتقاليد لحفظ الكرسي وليس لحفظ حق الانسان. فهل الكرسي ثابت وحقوق الناس متغيره؟ وأين حق الإنسان المعلوم؟

    • زائر 4 | 12:08 ص

      عبد علي البصري((الاسلام القبلي والقومي))

      هناك اسلام قبلي وقومي تقام فيه الصلاه وأحكام الشريعه . وعندما يتعلق الامر بوجود اسلام بشري تراه يحمل على بطنه القنابل والمتفجرات ويجر الناس الى حرب لا تحمد عقباها ، ترى البعيد يهتدي وهو لا يرى سوى العصبيه القبليه دينا . صحيح أن الاسلام يدعو الى الوحده ولا يدعو الى الشتات ، وينبذ دين العصبيه القبليه أو القوميه ، الاسلام دين سماوي لكافه الناس منطقي عقلي فلسفي قبل أن يكون ايماني عقائدي , نوم العالم خير من عباده الجاهل , شعوب قد اسملت وهي قد خرجت من الاسلام من يوم اسلمت . .... تكمله

    • زائر 8 زائر 4 | 1:56 ص

      البصري

      صحيح ان الاسلام يدعوا الى الوحده و التسامح , غير أن الواقع يخالف الجوهر ، نرى العصبيات قد دبت من الايام الاولى ! . وفي الاسلام وصل التعصب الى احلال القتل والسلب وهتك الحرمات ، والتاريخ الاسلامي حافل ، يبقى الجدل مستمر والبقاء للاقوى ، في العلم في التقوى في العمل الصالح . قبل أن اثور قبل ان اصيح بالدوله الاسلاميه يجب ان اكون صادق لا غادر كما ذكر الاخ وليد انويهض لان ما أخذ غدرا سريعا ينكشف ويذهب ويعود غما . يجب ان اعرف الاسلام ورجاله ومن أنزل عليهم القرآن ... يتبع

    • زائر 3 | 11:56 م

      عبد علي البصري ((وللاسف ))

      يعتقد بعض الناس ان الدوله الاسلاميه هي تلك التي تمنع النبيذ في الاسواق أو تمنع السفور في الطرقات أو تلك التي يرأسها امام الجماعه أو تلك التي تقوم بالجهاد ولا تدري على ماذا تجاهد ؟ تقام فيها المشانق والرجم والقطع ولا تعلم حدود ما انزل الله ((الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم )) كذلك قبل ان يمنع الربا لا بد ان يكون هناك مشرع خبير اسلامي يحل ما هو احسن من الربا وهذا يحتاج الى مختص اقتصادي , كذلك قبل ان اقتص ارسم الحدود وقبل ان اوجب الزكاه ...

    • زائر 10 زائر 3 | 2:01 ص

      البصري

      ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) هناك ذريه من ابناء اسماعيل سلاله طاهره مطهره لم تسجد لصنم قط من لدن ابراهيم واسماعيل الى يوم ولد محد ص والى ذريته لو اتبوعوا ما ضل ضال يا وليد وألف شكرا لك على مقال يا عزيزي

    • زائر 1 | 11:35 م

      عبد علي البصري

      ((شكرا جزيلا لك يا وليد على هذا الاستطلاع الرائع )) لو طبقنا المقال على الدوله الطالبانيه في افغانستان و باكستان في وادي سوات ما حققوا لشعب في دولهم ؟ هدموا مدارس البنات وارتكبوا مجازر ومحارق لمن يخالفهم في الرأي ؟ أنا مو قصدي اساسا فعالهم وبشاعتها أو بهدم أكبر بوذا المعبود الهندوسي في افغانستان وهو تراث حقبه من الزمن ! بقدر ما أريد ان اقول هل هذه برامج الدوله الاسلاميه ؟؟ تكمله ....

اقرأ ايضاً