العدد 4025 - الجمعة 13 سبتمبر 2013م الموافق 08 ذي القعدة 1434هـ

التمائم الصدفية بين الحقائق والمسلمات (2)

تناولنا في الفصل السابق الأخطاء التي وقع فيها عدد من الكتاب، وذلك من جراء اعتبارهم أن التمائم الصدفية المصنعة من القواقع المخروطية عبارة عن أختام دلمونية صدفية. وقد تناولنا كيف تم عزل دلمون عن باقي الثقافات التي تحيط بها؛ فالتمائم الصدفية المصنعة من القواقع المخروطية معروفة في الكثير من الثقافات بدءاً من أستراليا ومروراً بشرق آسيا حتى البحر المتوسط ووصولاً إلى الأميركتين. وقد استمرت صناعة تلك التمائم حتى يومنا هذا، وكذلك استمرت معها عدد من الطقوس أو التقاليد التي كانت مرتبطة بها. وهذا يدل على أن دلمون ليست استثناء؛ وبذلك فإن هذه التمائم الصدفية ليست «أختاماً دلمونية» لأنه ليست لها أية خصوصية مرتبطة بدلمون. فالختم يحمل هويتين، هوية تتمثل في الشكل العام للختم والتي تعكس هوية الدولة، وهناك هوية أخرى تتمثل في النقوش الموجودة على واجهة الختم والتي يتم ختمها على الطين، وهذه تمثل هوية فردية لشخص معين؛ وكأن هذا الشخص، باستعماله هذا الختم، يريد القول إنه فلان من دولة دلمون، أو أي بلد آخر.

بينما عندما ننظر إلى التمائم الصدفية فهي متشابهة في كل العالم؛ أي أنها لا تحمل هوية فردية ولا حتى هوية لأية دولة. هذه الحقيقة لم تكن غائبة عن الكتاب الأوائل الذين افترضوا وجود «أختام دلمونية صدفية»، فقد تم وضع معايير معينة يتم عن طريقها تحديد ما إذا كانت هذه التميمة ختماً أم لا (Mughal 1983، p. 69)، (Al Khalifa 1986. وبحسب تلك المعايير تم اختيار 32 تميمة فقط واعتبارها «أختاماً صدفية». وحتى مع هذه المعايير، فقد وجد ضمن تلك المجموعة المكونة من 32 تميمة ما يتشابه مع ما عثر عليه في حضارات أخرى، كما أوضحنا في الفصل السابق، وبعضها الآخر يعود لحقبة تاريخية لاحقة للحقبة التاريخية التي انتهى فيها استعمال الأختام الدلمونية، وهذا ما سنوضحه عند مناقشة الأختام الدلمونية في فصول لاحقة.

في واقع الأمر، يوجد فقط 16 تميمة لها شكل ظاهري يتشابه تماماً مع الأختام الدلمونية وله واجهة أمامية منقوش عليها رسوم معينة؛ ما يعطي هذه التمائم ميزة الخصوصية، وهنا يمكننا أن نفترض أن هذه المجموعة من التمائم ربما استخدمت كأختام، إلا أنه لا يوجد دليل قاطع يؤكد هذه الفرضية. الإشكال ليست في هذه المجموعة المتكونة من 16 تميمة، ولكن الإشكال الكبير مع الكتاب الذين سلموا بفرضية أن هذه التمائم هي أختام دلمونية واعتبروها كحقيقة مسلم بها، بل تعدى الأمر لتعميم هذه الحقيقة المسلم بها على بقية الأشكال المختلفة من التمائم الصدفية، وبذلك ظهرت حقيقة جديدة تم التسليم بصحتها وهي «أن كل تميمة صدفية مصنوعة من القواقع المخروطية هي ختم دلموني صدفي».

التسليم بصحة الفرضية وتعميمها

إن كل فرضية تعتبر مجرد رأي قابل للصحة أو الخطأ، وعندما يتم التحقق من صحة الفرضية تتحول لحقيقة علمية قائمة على الدليل العلمي، ولكن، فيما يخص موضوع التمائم الصدفية الذي نناقشه هنا، فقد تحول الرأي إلى فرضية، والفرضية تحولت إلى حقيقة علمية، وبدلاً من نقاش هذه الحقيقة العلمية تم تعميمها من قبل بعض الكتاب. خالد السندي في كتابه Dilmun Seals يعتبر الأختام الصدفية الدلمونية «اختراع دلموني»؛ حيث لجأ الدلمونيون الأوائل إلى الطبيعة الأم، فوجدوا هذه القواقع والتي لها من الداخل شكل حلزوني يختلف من قوقعة لأخرى تماماً كبصمة الإبهام (Al-Sindi 1999، p. 13).

وفي تقرير البعثة الفرنسية الذي نشر حول حفريات قبور «أم جدر» التي تعود للحقبة الدلمونية، تم نشر صور لثلاث تمائم صدفية عثر عليها، إحدى تلك التمائم عبارة عن حلقة صدفية، والأخرى عبارة عن الجزء الحلزوني للقوقعة من دون أية تغيير، أما الثالثة فقد تم نحتها لتتخذ شكل الختم الدلموني ولكن من دون نقوش مميزة لها. هذه التمائم غير المتشابهة وغير المتجانسة تم اعتبارها أختاماً دلمونية صدفية، وقد تم التلميح في التقرير إلى أن هذه الأختام الصدفية تستخدم من قبل فئة معينة من سكان دلمون وأن ذلك يبدو جلياً من شكل القبور الفقيرة (Cleuziou 1981، p. 13، plate VII). تلك التمائم الصدفية لا يمكن اعتبارها أختاماً دلمونية لأنه عثر على ما يتشابه معها تماماً في العديد من الثقافات حول العالم (انظر الصورة المرفقة). أضف إلى ذلك، أن هذا التقرير يتناقض مع تقرير البعثة الفرنسية ذاتها عن قبور جنوسان، الذي أشرنا إليه في الفصل السابق، حيث لم تعتبر فيه التمائم الصدفية أنها أختاماً دلمونية صدفية.

أما عبدالرحمن مسامح فقد ذكر في كتابه «مقدمة في تاريخ البحرين القديم» أن هناك اختلافاً حول طبيعة هذه التمائم «إلا أنها ربما استخدمت كأختام، ولكن لفئة معينة من الناس ضمن تركيبة المجتمع الدلموني. لقد قال عنها البعض إنها أختام اعتمدت على مادة أولية ميسرة يسهل الوصول إليها والحصول عليها في البيئة المحلية من دون الحاجة إلى اعتماد نوع غالٍ من الأحجار لصناعتها، وأنها وجدت بأعداد كبيرة جداً وتحمل موضوعات شتى لا يكاد يتشابه منها ختمان. وأن البعض من هذه الأختام قد تمت زخرفة حدبتها بزخارف مشابهة تماماً لتلك التي للأختام الحجرية المعروفة» (مسامح 1998، ص 150).

أخطاء علمية واضحة

من أوضح الأخطاء العلمية التي ذكرها الكتاب الذين يعممون فرضية أن التمائم الصدفية هي أختام دلمونية هو التسليم أن القواقع الصدفية المخروطية كانت متوافرة على سواحل البحرين، وهي ليست كذلك. والخطأ الآخر، أن التمائم وجدت في قبور يتراوح تاريخها بين حقب تاريخية محتلفة كالحقبة الدلمونية والحقبة الأخمينية والحقبة الهلنستية أي إلى ما قبل منتصف الألف الأول قبل الميلاد، بينما الأختام الدلمونية الحجرية توقف استخدامها في قرابة منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. أضف إلى ذلك أن أحداً من الكتاب السابقين كلف نفسه عناء مقارنة ما عثر عليه في دلمون البحرين وما عثر عليه في الثقافات المحيطة بها والتي تأثرت بها. وقد رد عبدالعزيز صويلح على مزاعم أولئك الكتاب الذين نقل عنهم مسامح بقوله: «إن الأستاذ عبدالرحمن مسامح لم يحدد هوية الفئة التي استخدمتها (أي الأختام الصدفية) وفيم استخدمتها، فإن كانت من الفئة الدنيا في المجتمع الدلموني البحريني فإنه ليس لديها الحاجة لاستخدام أختام؛ حيث إنها لا تمتلك شيئاً يتطلب توثيقه... وإن اكتشافها وبأعداد كبيرة يعني اشتغال هذه الكثرة بالتجارة وهذا مستبعد... وفيما يتعلق أيضاً بالمواضيع الشتى التي ذكرها والتي وصلت حسب اعتقاده أنه لا يكاد يتشابه منها ختمان، فإننا وجدنا عكس ذلك؛ حيث إن أغلبها اعتمد على الشكل الحلزوني الطبيعي وهو يتشابه في فكرة النقش وإنه من الصعوبة التفريق بينها وإن ذلك يحتاج اختصاصياً... أما فيما يتعلق بزخرفة الحدبة المشابهة تماماً للأختام الحجرية فإنه لم يكتشف واحد منها حتى الآن يحوي تلك الدوائر المنقطة أو الخطوط التي تفصل بينها والموجودة على الأختام الحجرية، إلا أننا نتفق معه في مظهرها الخارجي المشابه لها ووجود ثقب الحدبة، وعلى ضوء تلك الدراسات تم عرضها بقاعة دلمون بمتحف البحرين الوطني مع مجموعة عروض الأختام الدلمونية على اعتبار أنها أختام». (صويلح 1999).

إن أية دراسة مقارنة على تلك التمائم الصدفية ستؤكد النتائج التي توصل لها صويلح في دراسته النقدية، إلا أن صويلح وقع في أخطاء، أهمها عدم الاهتمام بالمقارنة مع ما وجد خارج حدود دلمون، وكذلك تسليمه بحقيقة أن القواقع المخروطية توجد على سواحل البحرين. لقد نشطت تجارة الأصداف في دلمون فقد كانت تستورد أنواعاً منها، وهذا ما سنتناوله في الفصل القادم.

العدد 4025 - الجمعة 13 سبتمبر 2013م الموافق 08 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً