العدد 4030 - الأربعاء 18 سبتمبر 2013م الموافق 13 ذي القعدة 1434هـ

خارطتهم وميدانكم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مِنَ السَّهلِ أن تكتبَ ما تريده على الورق، لكن الاختبار عادة ما يكون في التطبيق. قد تقول ولا تستطيع أن تفعل. قد تُقدِّم شرحاً لأحد ما، حول مكان ما، لكنه قد يتفاجأ، بأن خارطة الإرشاد قد اختلفت، بسبب إصلاحات في الشوارع، أو لتحويلات اضطرارية. لذا، قال الفيلسوف المعروف كورزيلسكي، أن الخارطة ليست هي الميدان، وقد أصاب في ذلك.

نعم، قد يتوسَّع المثال، من أشياء بسيطة إلى أشياء أكبر، وقد يتحوَّل صراع الخارطة مع الميدان، من فرد إلى دولة، مع الأخذ في الاعتبار، الإمكانيات المختلفة بينهما. وقد دلَّت التجارب الماضية، التي وقعت في الشرق والغرب، أن هناك دولاً بالفعل وقعت في شراك الفارق الفعلي ما بين الخارطة والميدان، وفي عدم المواءمة بينهما، الأمر الذي نَتَجَ عنه كوارث وخيمة على البشر والحجر.

لقد قرَّر هتلر احتلال الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الكونية الثانية. وَضَع خطة بارباروسا العسكرية المشهورة، التي تقضي بالزحف شمالاً على ليننغراد ثم العاصمة موسكو، تليها السيطرة على آبار النفط جنوباً حيث أوكرانيا، وحَشَدَ النازيون في سبيل ذلك، ثلاثة ملايين جندي ألماني، ومليون ونصف جندي من دول المحور. تقدَّم هتلر في العمق، ودمَّر كييف، وأكل من الأرض السوفياتية ما أكل، ولم يبقَ أمامه سوى 24 كم عن موسكو!

بعد عام ونصف، اكتشف هتلر أن خارطة الـ بارباروسا لم تكن سوى وَرَق. وكانت عاصفة ديسمبر الثلجية في الأراضي السوفياتية، كفيلة بصرع وجرح 155 ألف من جنوده في بحر ثلاثة أسابيع فقط! دُمِّرت جيوش المحور وتقهقرت، حتى انعكس ذلك على مسير الحرب العالمية الثانية كلها، بل أدى ذلك لدخول الجيش الأحمر برلين واقتسامها مع الحلفاء. وقد نُسِبَ لهتلر أنه قال، عندما فشل في إخضاع الاتحاد السوفياتي: إنني أقاتل جنرالين في هذه الحرب: الجنرال «الأحمر» والجنرال «شتاء»!

في حرب فيتنام تكرر السناريو ذاته، حين قرَّر الأميركيون مساندة حكومة سايغون ضد هانوي الشيوعية. ظنت واشنطن، أن هذا البلد الغارق في الأدغال ورطوبة المناخ القاسية، لا يعدو كونه بيت عنكبوت. أرسل الرئيس الأميركي الأسبق كينيدي أربعمئة جندي أميركي في بداية مسعاه. وبعد ذلك بقليل، وصلت أعدادهم إلى أحد عشر ألفاً، ثم وصلوا إلى 550 ألفاً لأن المعركة بدَت قاسية! كل تلك المئويات من الألوف جاءت من أجل القضاء على القرويين الفيتناميين المعدمين!

ولم يأتِ شهر مارس/ آذار من العام 1973م، حتى بلغت خسائر الأميركيين من تلك الحرب، 57 ألف جندي، ثم لاحقتهم سُبَّة الشعب الأميركي، وأمراض جنودهم النفسية والجسدية. كما إن واشنطن فقدت هدف الحرب الأصيل، والمتمثل في القضاء على الشيوعية الفيتنامية، التي تنمَّرت أكثر، بالتمدد في لاوس وكمبوديا ثم توحيد الشمال والجنوب!

في ألفيَّتنا الأولى من هذا القرن، تكرَّر الشيء نفسه، عندما قرر الأميركيون القضاء على حكم «طالبان» في أفغانستان، بعد ضربة الحادي عشر من سبتمبر. جاءت الطائرات، ودمَّرت البيوت الطينية في جلال آباد وقندهار وكابل، وثوَّرت تراب الطرقات التي لم تكن مُعبَّدة، ولم تكن إلاَّ بضع ليالٍ، حتى انهارت إمارة «طالبان»، وسقطت كابول ودخلها أسد بانشير.

اعتقد الأميركان، أن أفغانستان كما هي الخارطة الموضوعة، أصبحت أثراً بعد عين، وعليهم الآن طيّ صفحة «طالبان»، وكأن شيئاً لم يكن. اليوم وقد مضى على حرب «الحرية المستدامة» كما أسماها بوش الابن، 4366 يوماً. ماذا حصل؟! هل تغيَّر شيء في أفغانستان؟! لا أعتقد، بل إن الأميركان اليوم مضطرون لمصافحة «طالبان» من جديد!

في العشرين من مارس، من العام 2003، رَسَمَ جورج بوش الابن، خارطة جديدة على ورقة مع مستشاريه العسكريين. إنها خارطة التدخل العسكري في العراق، للقضاء على حكم صدام حسن، ونزع أسلحة دماره الشامل المزعومة. قيل لبوش، أن العراقيين سينثرون عليكم الورود، لأنكم مَنْ منحهم الحرية والديمقراطية الأميركية العظيمة، وسيكتبون أسماءكم بماء الذهب.

الخارطة قالت: نسيطر أولاً على آبار النفط جنوب العراق، ومعها محافظة البصرة، ثم نسير باتجاه نهرَي دجلة والفرات والأهوار وصولاً للعاصمة بغداد، بينما يقوم خمسون ألف جندي أميركي آخرون بالزحف نحو الشمال الغربي من العراق، للسيطرة على تكريت، لإحكام السيطرة على المركز، بالتزامن مع قصف جوي مُدمِّر بالطائرات، وقصف بحري لا يهدأ عبر صواريخ توماهوك تطلقها البوارج الحربية.

عُمِلَ بالخطة، ودُمِّرَ كلّ ما تمَّ رسمه من أهداف! والحقيقة، أن الأميركيين، لم يُدركوا أنهم كانوا يكسبون هوامش الخطة لا جوهرها، على اعتبار أن السيطرة هنا تعني القدرة على البقاء في الهدف، وتكريس خطط إعادة تدويره بالطريقة الجديدة. صُدِمَ الأميركيون بعد سنتين، وتبيَّن لهم أن «بشارة» بوش لهم بالنصر خلال أيام، لم تكن سوى هراء! نعم هراء وبامتياز أيضاً.

مئة وأربعون ألف جندي دنَّسوا أرض العراق، لم يستطيعوا بناء شيء ثابت. حينها قرَّر بوش، رئيس أكبر دولة في العالم، أن يحجَّ إلى صحراء الأنبار، ليلتقي شيخ عشيرة عربية، كي يساعده على ضبط الأمن! لقد مزَّق الميدان العراقي، خارطة بوش بالكامل، وجعله يعيش أتعس أيامه في البيت الأبيض، ويُورِّث لسلفه أخطر ملف منذ حرب فيتنام!

اليوم، الأميركيون، يضعون خارطة جديدة، للتدخل في سورية! حسناً، ربما يدخلون دمشق، وحلب وحمص ودرعا ودير الزور، وغيرها من المحافظات السورية، ويُطبقوا على كل شيء. لكن لن يشربوا كأس ماء بهناء فيها! ومثلما مُزِّقت خارطتهم في فيتنام وأفغانستان والعراق، ستتمزق خارطتهم (إن هم طبقوها) في سورية كذلك! والتجارب على ذلك شاهدة، وعليهم أن يختاروا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4030 - الأربعاء 18 سبتمبر 2013م الموافق 13 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 12:13 م

      مقال ممتاز

      شكراً علي المعلومات القيمة والمفيدة ، ومنكم نستفيد يا استاذ

    • زائر 6 | 7:15 ص

      والحكام المجرمون كذلك سيخيب أملهم

      وسيخيب كل ظالم أثيم يخطط لذبح شعبه

    • زائر 5 | 5:14 ص

      الأيام دول

      الموضوع أبعد من أمريكا والغزو.. كل الخرائط تتبدل، بلا استثناء.. ومحاولة تلفيق الأسباب هي مجرد تسكين لخواطر الناس.. وإلا، فالأسباب تأتي من حيث نعلم أو لا نعلم..
      شكراً على قلمك الجميل

    • زائر 4 | 5:05 ص

      رائع

      كلام رائع حقاً وتحليل مدروس بدقه وعنايه الله يبارك في مجهوداتك

    • زائر 3 | 3:00 ص

      من ليس معي فهو ضدي قالها بوش الإبن - جاهلية أو رأس ماليه؟

      فكرة الشيوعية والإشتراكية ضد فكرة الإمبريالية والرأسمالية. فالأخيرة تزرع وتشجع الإستعباد والإستحمار ونشر فكر رأسمالي يقوم ويقعد على رأس مال ولا يراعي الإنسان أو الحق أو الباطل وإنما زيادة أرباح وتجارة وترويج ودعاية وإعلان عن بضائع وخدمات. بينما الشيوعية والإشتراكية تبني الإنسان أولاً وتربي على عدم الاسراف أو الترف والرفاهية – يعني أقرب الى الإسلام منه الى الكفر كما كان الكفار يدعون – أي ينكرون الحقيقة ويشيعون بين الناس أقاويل غير صحيحه. هنا شركات وبنوك تابعة لمن؟

    • زائر 2 | 2:47 ص

      مهتم

      الامريكان والخونة العراقيين دنسوا أرض الرافدين العربية وسلموها لايران

    • زائر 1 | 11:28 م

      شكرا

      لم أقرأ لك مقال إلا وحصلت منه على معلومات جديدة . شكرا لك استاذ محمد . ولدي إضافة حول موضوعكم فليس الامر مقتصر على خارطة امريكا كما تفضلت بل الامر يسري حتى على خطط الحكام الظلمة الذي يقررون شيء على شعوبهم لكن ميدان الشعوب يقرر شيء آخر

اقرأ ايضاً