العدد 4032 - الجمعة 20 سبتمبر 2013م الموافق 15 ذي القعدة 1434هـ

تجلي البحث الإثنوغرافي في الرواية الثلاثية لفتحية ناصر

«أبحث عن نفسي» تحت هذا العنوان الكلاسيكي، للرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2012 للمؤلفة البحرينية فتحية ناصر نجد رواية كلاسيكية بامتياز، السرد الموغل بالتفاصيل الحركية والحسّية، التركيز على المُثل والمبادئ الأخلاقية الثابتة كالحق والخير والحرية، بالإضافة للكم الهائل من الأحداث التي تنمو تصاعدياً، اعتماد الراوي على الصوت الأحادي في السرد. والمثير أن تكون الثلاثية التي تقارب الـ900 صفحة مجتمعة هي في الأصل عبارة عن رسالة وخطاب موجه من البطلة «أمل» لعشقها وحبها الأوحد.

الرواية اشتبكت بالكثير من الأحداث والقضايا الحسّاسة اجتماعياً ودينياً وسياسياً، وهي تعطي تواريخ حقيقية وأماكن واقعية معروفة لدى المجتمع البحريني بشكل دقيق جداً، وتورطت في إطلاق الأحكام على مكونات وشخصيات لها مكانتها الدينية والاجتماعية، رغم محاولة الحياد التي تجاهر بها الشخصية في أكثر من منعطف.

لن يكون الوصول للهاجس الرئيس في الرواية صعباً لأن القارئ سيجد نفسه يقرأ ذلك مراراً، فإن لم يتوقظ له منذ البداية سيجده مكتوباً بشكل مباشر وهو هاجس ايديولوجي بل يمتدّ ليدخل في تعدد المعتقدات والأعراق أيضاً، في بلد كسائر البلدان العربية تثيره النعرة الطائفية بكل سهولة. ونستطيع القول بأن الروائية في هذه الثلاثية كانت بمثابة باحثة في مجال الإثنوغرافي ويتضح ذلك للقارئ من خلال الشخصيات التي تمثل أدواراً حياتية فيما تذهب الروائية لكتابة المشهد المجتمعي من خلال تتبع المهن والناس والأصدقاء بالمقاربة أحياناً وبالتخفي خلف الورق والأسئلة أحايين أخرى، في بحث عن الذات التي دائماً ما يتم العثور عليها عبر سبر ذوات الآخرين.

القصة

تبدأ الرواية بكتابة خطاب موجه لشخص ما، «أمل» البطلة والساردة لكل الأحداث والماسكة بزمام إدارة الشخصيات، التي نشهد بتراً لبعضها وتنامياً للبعض الآخر. تسرد أمل تفاصيل حياتها وعلاقاتها وصراعها الداخلي والخارجي في محيط الأسرة والعمل والأصدقاء، منذ الطفولة حين انتقلت مع أهلها الأثرياء من مدينة «المحرق» إلى قرية «كرانة» حيث التقت بصديقتها «رباب» التي قادتها لعوالم القرى المفتوحة وحيوات أهلها، في مقارنات واضحة بين القرية والمدينة، إضافة لمفارقات المذاهب واختلافها، ومحاولة لفهم الحساسية بين المذاهب حين غضب والد أمل من مصاحبة ابنته الثرية - السنية، الهولية - إلى أبناء الشيعة الفقراء والمهمشين، إلا أن أمل تنطلق في استكشافها وتدخل المآتم والبيوت وتصرّ على صداقة رباب. تنتهي هذه الفترة بموت أم أمل، وتغادر إلى لندن مع والدها، ليظهر حبيبها وهو صديق والدها، وقد أحبته منذ أن أهدى والدها لوحة رسمها لأمها، ثم غاب زمناً عنها، في حين تعرفت على صديقتها «لورا» المسيحية التي تموت بمرض اللوكيميا بعد أن تكون علاقتهما قد اشتدّت وتوطدت. تعود أمل للبحرين بعد المرحلة الثانوية بجنسية بريطانية لتقرر أن تدرس تمريض في كلية الخليج وسط رفض من الأب، إلا أنها تصر وتتخذ موقفاً عدائياً من والدها. في الكلية تقع المفاجأة بأن حبها الطفولي قد ظهر وهو دكتور بالجامعة ومثار إعجاب كل الطالبات، ينبض قلبها له من جديد يتقربان، تستمر في علاقتها مع الدكتور وعلى وشك أن تقبل بالزواج - وكادت أن تفعل - لولا ظهور سلمان زميلها بالكلية الذي كان ينبذ سفورها ولبسها الفاضح، لتصل الأمور للإعجاب ثم تقرر الزواج به لأنها تكتشف امتلاكها لكل شيء، المال، السيارة الفارهة، القصر الفخم، لكنها لا تملك الأحلام التي يمتلكها سلمان أو صديقتها عصمت، أحلام صغيرة، مثل أن تكون لهما سيارة وبيت وأبناء. ترتبط أمل بسلمان «الشيعي» رغماً عن والدها، وتصدم حبيبها وتسبب له خيبة كبيرة.

هناك في بيت سلمان «أم عامر» التي تمثل الهالة الدينية والتي تعطي الدروس الفقهية، حتى تتمكن من جعل أمل تغير معتقدها لتتشيع. تنفق أمل كل مالها وجهدها في خدمة سلمان وعائلته بعد أن تمكنت من إخفاء حقيقة أنها ليست بكراً، لكن سلمان يختفي فجأة بعد أن تكلم عن عشقه لفلسطين وأمنيته في تحريرها، دون أن يظهر مرة أخرى. تستقل أمل شقة مع ابنتها نرجس، وتحاول ترميم نفسها بعد أن مرت بمراحل وصلت بها لدرجة الأولياء بحيث تُطوى لها الأرض وترى ما سيحدث في المنام وتزيد أموالها بالبركة الإلهية، لكنها تقرر العودة شيئاً فشيئاً لحياتها الطبيعية دون الالتزام الفعلي، فتقرر السفر. يعاود حبيبها الظهور مجدداً في المطار، ويتفقان على اللقاء مجدداً، لكن أمرهما لم يسِر كما ينبغي، فتواصل أمل حياتها ومحاولة العودة لاستكمال دراستها على أمل عودته وأمنية تجدد لقائهما. وتظل رحلة البحث مستمرة وسط سؤالها لنفسها: «هل أنا اثنتان تظهر كل واحدة في حين لتختفي الأخرى حتى يحين دورها لتظهر؟ سؤال قضيت عمري أبحث له عن إجابة... ص227، ج 3.

الأديان والأعراق

لم تكتفِ الروائية بالنبش في قضايا المعتقدات الدينية وما تخلّفه من نزاعات مجتمعية بل سعت بجد لفضح آخر وهو التكتلات العرقية التي رغم كل هذه السنوات من التعايش تظل في دوائرها وتتعامل بحذر وازدراء مع الأعراق الأخرى، كانت الجرأة في التحدّث عن هذه الأعراق التي نصادفها في العمل وتشاركنا القرى والمدن التي نقطنها وتحاول أن تتلمس الدوافع.

«لم أكن أعرف أن في البحرين أعراقاً مختلفة. لم أدرِ أن هناك العرب والبحارنة والأعاجم والهولة والميناويين والبلوش بل حتى اليهود! وأن كل جماعة تكاد تتقوقع على نفسها، فأصدقاء الأعجميات الأعاجم فقط، وكذلك البحارنة.» ص40، ج2.

وبطبيعة الحال تبقى المقارنة في أشدها بين المكونين الرئيسيين في البحرين (السني، الشيعي) فالشخصية الرئيسية «أمل» تتحول من السنية الهولية إلى الشيعية الإمامية، وهذا في حد ذاته مثار سخط لفئة ومبهج لفئة أخرى.

تتطرق الرواية لفروقات مذهبية كثيرة، لكنها تخلص أن كل هذه المكونات سبباً للتآخي والتلاحم والتطور، لا للأحقاد والنزاعات والتخلف، وأن ذريعة الدين في توحيد المذاهب أو تكفيرها هي ذريعة يجب ألا تنطلي على العقول الراجحة، وأن الهوية يجب تقوم على المواطنة لا على الأعراق والمذاهب.

الشخصيات وأدوارها المحورية

في رواية البحث عن النفس تجد كل الشخصيات معدّة سلفاً لقضية ما، تنجزها وتمضي في حال سبيلها، لتظل الشخصية المحورية «أمل» حتى الخاتمة توزّع ما تبقى لديها من ملامح على وجوه شخصياتها. سنحاول إيجاز بعض الشخصيات التي أخذت مكانتها بشكل عابر...

رباب: صديقة الطفولة التي تأخذ أمل معها لحياة القرى والمآتم «الشيعية»، هذه الشخصية ينحصر دورها في بنت الريف القروية المؤدبة لكنها منطلقة في البراري، التي لا تخشى منها لأنها تجد أن كل القرية أهلها، تدخل أي بيت، وتلعب مع الجميع، وتمثل المجتمع المهمش والفقير والراضي بقدره بطيب خاطر.

لورا: هذه الصديقة المسيحية، التي تترك الأثر الطيب في نفس أمل، وتتخذها بعد ذلك مثالاً صارخاً على الذين يتمنون السوء للبلاد الغربية، متناسين أن بها أشخاصاً طيبين، يحبون الإسلام وتعاليمه. وسوّقت المؤلفة للدين الإسلامي كثيراً من خلال هذه الشخصية، التي كانت باحثة عن ملامح الإسلام من خلال القرآن وغيره من الحوارات التي دارت بينهما في هذا السياق.

أم عامر: لهذه الشخصية أبعاد كثيرة جداً وهي قد تنحصر في شخصية أم عامر لكن أبعادها تمتد طويلاً لتلامس كل من يمثل الهالة الدينية كالمشايخ وعلماء الدين. تتناول من خلال هذه الشخصية الانقياد الأعمى من قبل الناس البسطاء الذين يصدقون كل كلمة ينطق بها عالم دين، مهما كانت طريقة تعامله معهم استعلائية «أي دعوة إلى الدين هذه التي تتزعمها امرأة لا تبتسم! وتحرج الحضور، وتضع قوانين صارمة لمن يرغي في الاستماع لدرسها المديد... أليس الأحرى بها الترغيب في دين الله، لا الترهيب؟» ص290، ج2.

وتختتم السيرة مع شخصية أم عامر بفضحها من خلال أختها بتول التي عانت من رفض أم عامر التي تدّعي ما تدعيه بشأن الدين والقيم والمبادئ القائمة على التسامح والتقارب في حين يكمن في داخلها الغرور والتباهي والرفض القاطع للآخر.

سلمان: بعيداً عن تمثيل هذه الشخصية لزوج أمل، فإنه يمثل في الرواية الصوت العروبيّ، المتألم على وضع فلسطين وما آلت إليه ويؤجج بكل ما يستطيع لاستنهاض الحلم العربي والبحث عن الهوية من خلال النظر للأمة العربية على أنها كيان واحد. «أحلم يا عزيزتي أن أرى أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة وأرى كل الأقاليم العربية صارت كياناً واحداً كما هي في الأصل...» ص81، ج3.

وفي مفارقة غريبة نكتشف أن سلمان أساساً ليس ملتزماً دينياً بشكل مطلق في إشارة إلى أن هذا الحلم العربي لا يقع على الإسلاميين بل كل أطياف المجتمع مهما كانت توجهاتهم الإيدلوجية وأنسابهم العرقية. تظل هذه الشخصية تشتبك بالهاجس المذهبي رغم البريق العام للعروبة.

العدد 4032 - الجمعة 20 سبتمبر 2013م الموافق 15 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً