تواصلاً مع المقالات السابقة، بعثت لي احدى القارئات تلوم الام على سرد رسالتها وان المجتمع صغير، ولا يصح ان تتداول المشاكل خارج العائلة لان ذلك قد يسبب حرجاً لها وقد تتفاقم المشكلة بالاشهار!

والغريب في الامر ان المسألة اضحت وكأن الموضوع مسلسل عربي او فيلم هندي! وعوضاً عن الانتباه للمشكلة الاساسية ومحاولة ايجاد حل لعدم ذهاب الاطفال للمدرسة، تطورت الى ان في ذلك تشويها لسُمعة العائلة العريقة، واغماض العين عن جوهر المشكلة.

واذ انني ارى بعض الصحة في التعليق، ولكنني لا اتفق معها تماماً، فحينما تُغلق ابواب الحلول وتتسارع الايام، ويشعر الانسان بأنه امام طريقٍ مسدود! وان هنالك اطفالا ابرياء وبضرورة الالتفات قبل ان يكبروا ويضيعوا في الحياة وعن أنهار التعليم المشترك، والا يكونوا حصاد الامراض النفسية التي يعاني منها الآباء بعمل تجاربهم عليهم، وعزلهم عن الحياة الطبيعية التي يعيشها الآخرون، واعطائهم حقهم من التعليم الالزامي كحدٍ ادنى وعدم الاجحاف في حقهم ومستقبلهم!

وبألا يفرضوا قراراتٍ على اطفال قُصر غير قادرين على حفظ حقوقهم، فهم لا حول لهم ولا قوة! فابعادهم عن المدارس فيه الايذاء النفسي والجسدي والاجتماعي مهما كانت عناية الوالدين لهم ورعايتهم وحبهم وخوفهم!

فبعدهم عن المشاركة في اللعب مع اقرانهم وتكوين صداقات والاختلاط الاجتماعي من الدعائم الاساسية للنضج العقلي، والادراكي ناهيك عن التحصيل العلمي والثقافي والنمو الجسدي والحركي!

وقد يؤدي عزلهم في البيت الى الاكتئاب والامراض النفسية، آنياً او لاحقاً واعاقة لمستقبلهم في مسلسلٍ متجدد من الامراض النفسية التي ستصيب الابناء، والتي سيحصدونها فيما بعد بأشكالٍ مختلفة!

وانه في الغرب والبلاد الاكثر وعياً وتقدماً في العلاجات النفسية، يشملون الطب النفسي والعصبي مع العيادات الاخرى من العلاجات العضوية جنباً الى جنب، وكل فردٍ تقريباً لديه ملف عند الطبيب النفسي كالامراض الاخرى! لمساعدتهم في مختلف المراحل العمرية! وهم لا يعتبرونهم مرضى حيث هنالك اشياء يصعب على الانسان فهمها وادراكها والتعامل معها بُيسر، بدءا من سنوات المراهقة وتأثير الهرمونات على المشاعر النفسية المتغيرة تجاه النضج، حتى سنوات البلوغ، وإلى ما عدا ذلك من سنوات العمر المتأخرة، ومن ازمات الكِبر حتى الشيخوخة الموجعة!

ليس ذلك فحسب بل انهم يتكلمون ويناقشون قضاياهم ومشاكلهم العامة منها والخاصة امام الملأ في الإعلام المرئي والمسموع لنشر الوعي للعموم، ومثلما كنا نرى في احد البرامج المشهورة والجريئة في معالجة القضايا الانسانية يومياً مع (اوبرا وينفري) الاميركية من اصولٍ افريقية، وهي تستضيف محللين نفسيين لذلك، ولا يخجل الناس من طرح مشاكلهم ومعاناتهم.

وهم يناشدونها من كل الولايات لاستضافتهم لطرح ما يعانونه من مشاكل وبكل جرأة على الشاشات وبلسانهم شخصياً، ليستفيد الآخرون من خبراتهم!

بمن فيهم المشاهير، ولا يخجلون من عرض مشاكلهم! بل ان اوبرا طرحت مشكلتها الشخصية (والمخجلة جداً في مجتمعاتنا) وأنها تم الاعتداء عليها جنسياً ومن اقرب الناس اليها وهو ابوها وهي طفلة!

وتمكنت بعد ان كبرت ومن خلال علاجها النفسي والتحليلي ان تتواءم وتشفى من ذلك الشرخ والجرح الكبير الذي حصل لها يوماً في حياتها! ليس ذلك فحسب فقد غفرت لأبيها زلته وجريمته في حقها لأنه كان حينها تحت تأثير الكحول!

وان غفرانها له لم يكن من اجله فقط! بل من اجلها هي حيث يساعد الصفح والغفران في رأي الطب والكثير من فلسفة الحضارات القديمة، بأنه الجزء الاساسي والمكمل للعلاج لأنه يساعد على التئام جروحه والشفاء التام منها، وواصلت حياتها! ولم تدع ما حدث من مصاب يؤثر على مسيرتها الحياتية!

وتقول اوبرا انها تُعزي شفاءها وبكلِ فَخرٍ الى العلاج النفسي الذي اخذ بيدها وساعدها على المضي قُدماً الى التمتع في حياتها وعلى احسن وجهٍ، وهي الآن اشهر النساء صيتاً ومالًا (من المليارديرات في العالم)، واللواتي قُمن بالتأثير الايجابي لمساعدة الآخرين!

وفي تلك البلاد ينظرون الى الامراض النفسية كأي مرض ولا يتشمتون أو يعايرونهم وعائلاتهم!

واصبح الآن من صُلبِ حضارتهم! فهم يتحاورون في كل ما يؤرقهم ويتثقفون وتصرف الدول الملايين لحصاد آخر التطورات في هذا المجال لتوفيره من اجل حضارةٍ ومجتمعٍ افضل وبشر اصحاء ومنتجين ويضفي السعادة والفرح على المجتمعات، واما في منطقتنا العربية والخليجية على وجه الخصوص، فنحن نخاف من هذا وذاك وسمعتنا هي الاهم وكل شيء عيب أو حرام! ونتفنن بكتم ودفن مشاعرنا مع مشاكلنا! وتخبئة رؤوسنا في الرمال.

وكأن الامراض النفسية والاكتئاب وصمة عار تصيب صاحبها وعائلته، وتعم الفوضى، ويزداد الشقاء بل وقد تتوقف حياتنا بسبب مشاكل تافهة من صِداماتٍ عائلية أو مشادات في العمل، أو نتيجةً لتراكماتٍ تربوية أو مفاهيم خاطئة لم تأخذ حقها في الحلول في بداياتها فيمرض الانسان، تدريجياً وهو غافلٌ عن سلوكه المرضي! وقد يصابون، ببعض الامراض النفسية مثل القلق والخوف الدائم وبأن الآخرين سوف يؤذونهم أو اطفالهم، ولا يثقون بأحد، والاكتئاب والملل من الحياة والغضب السريع وتكسير الاشياء واهمال النفس والمظهر والبكاء والصراخ او الانعزال المرضي والابتعاد عن الناس، الخ.

وينعكس عليهم سلباً في التصرفات الصبيانية وهجر زوجاتهم او ازواجهم او التسرع في الطلاق وعدم تحمل المسئولية وانهيار العائلة، بأطفالها او الى الاعتداء بالضرب الجسدي للمقربين او اللفظي للوالدين والزوجة، الخ! وتنقلب حياتهم رأساً على عقب، والتنقل في الوظائف حتى الاستقالة او الفصل! والادمان على المهدئات والمخدرات واشياء اخرى من الرذيلة، الخ.

ان هؤلاء اذا ما لجأوا للعلاج مبكراً قد تتم معالجتهم بسهولة ببعض الجلسات الارشادية او الادوية! ولكن قد يتفاقم المرض للانهيار النفسي، ويلزم دخول المستشفى، والشلل العقلي اذا ما تأخروا في العلاج.

ان الكثيرين في مجتمعنا لا يعرفون انهم بحاجة الى علاجٍ نفسي ربما لجهلهم وثقافاتهم المحدودة!

فنحن نطبطب عليهم وندعو لهم بالشفاء ويلجأ البعض الى التدين لحل مشاكله والآخرون الى اعمال السحر والشعوذة وتناول الاعشاب والعيش مع الاوهام!

ويقف الانسان عاجزاً ومشلولاً عن الحركة او التقدم في حياته وبسبب مُعتقداتٍ قديمة خائبة بأن من يمرض نفسياً قد يوصف بالجنون ويبتعد الناس عنه! فالمرض النفسي مصيبة ووصمة عار وسرٌ لدى العائلة يجب كتمانه ويُعتبر فضيحة كُبرى خاصة للمعروفين منهم!

وقالت لي سيدة انه يؤدي الى عدم التزاوج من العائلة التي بها امراض نفسية لاعتقادهم بانها تورث!

انه في حال عدم اللجوء الى العلاج اي بعد فوات الاوان سيظلم الفرد نفسه والآخرين معه وفي كلتا الحالتين سوف نخسر انساناً سوياً، كان بامكانه اعطاء الكثير لمجتمعه وللعالم وبذا تتراجع بلادنا في تقدمها من افرادٍ كان بالامكان انقاذهم ليعيشوا حياة جميلة يتمتعوا ويمتعوا الآخرين بها! عوضاً عن التردي والموت قبل الموت.