العدد 4048 - الأحد 06 أكتوبر 2013م الموافق 01 ذي الحجة 1434هـ

إشكالية سؤال النهضة: لماذا تأخر المسلمون؟ وكيف يتقدمون؟ (2)

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

(كاتب وباحث سوري ينشر المقال بالاتفاق مع منبر الحرية)

لقد عملت النخب والسلطات الديكتاتورية الحاكمة عندنا في عالمنا العربي والإسلامي على مر تاريخنا الثقافي والسياسي منذ قرون طويلة، على إلغاء هذا الجانب من حياة هذا الفرد بصور وأشكال شتى، والتلاعب بها، تفسيراً وتأويلاً، للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها التي تتعارض مع أساس فكرة «الخلافة الربانية» للفرد المسلم والإنسان عموماً.

نعم هناك عقود من الديكتاتورية والقمع السياسي والاستفراد المتوحش بالسلطة، وإلغاء لدور ومكانة الفرد المسلم ومساهمته في بناء مركب الدولة ككل، وربما قد يكون هذا نوع من التعميم ولو أنه يفيد التخصيص، لأننا كعرب عموماً بتنا مختصين ومعروفين ومشهورين وغارقين بهذا النمط البدائي من الحكم السياسي دوناً عن كثير من أمم وخلق الله كلهم تقريباً... مع أنه من الضروري هنا ذكر أسماء وعناوين واضحة وصريحة خاصة... بلا تعميمات لا طائل منها...

طبعاً نحن لا نريد تبسيط المسألة السياسية والثقافية التاريخية المعقدة، إلى حد تظهيرها بطريقة الثنائيات المطلقة، ولا نريد شيطنة المفاهيم والطروحات والمواجهات مع الغرب أو مع نظمنا العلمانية المستبدة، وتحميلهم دوماً مسئولية الفشل الحضاري المقيم عندنا منذ قرون وقرون.

نعم الغرب، والسياسات الغربية والدولية عموماً نفعية وذرائعية واستعمالية بالمعنى المادي العضوي للكلمة وليس فقط استعمارية هيمنية تسلطية رعناء... هذا واضح تماماً منذ عقود طويلة للجميع، وعندما نراجع كل أدبيات أحزابنا العقائدية الثورجية (من أقصى اليمين لأقصى اليسار) نجد أنها تبدع وتنتج وتتوسع - في عمق منظومتها التفكيرية ما شاء الله - في شرح أدق تفاصيل مؤامرات وخطط واستعمارية ونفعية الآخرين... لا بل أكثر من ذلك، فهناك أحزاب عندنا أقامت وجودها بالكامل على فكرة النفي والاستئصال والمواجهات وغيرها... هذا كله واضح ومعروف للقاصي والداني، بلا تنظير ولا طروحات مفاهيمية... لكن: ماذا فعلنا لمواجهة كل تلك السياسات النفعية الاستعمارية التي بتنا جزءاً منها بوعي أو بلا وعي؟ وماذا قدمت دول وحكومات العرب في مرحلة ما بعد عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي لتعمل وتواجه وتنتج وتبدع وتبني وتحدث وتطور؟! وما هي آليات المواجهة والاستجابة الإيجابية الفاعلة وردود الأفعال المنتجة والمثمرة حيال تلك السياسات الاستعمارية؟! فهل اهتمت بالإنجاز والبناء ومواجهة الاستعمار مثلما اهتمت بالحفاظ على الكراسي والبقاء الأبدي في جنان «الملك العضوض» الموروث تاريخياً وثقافياً؟!

الإجابات صعبة ولاشك، وربما تكون مهينة وقاسية، ولكن نعود للتأكيد مجدداً على ما سبق أن أجبنا عليه وقلناه وكتبنا عنه مراراً وتكراراً بلا نخبوية ولا وصائية فكرية... أزمتنا في عالمنا العربي ومنها أزمة مصر والعراق وتونس وليبيا واليمن وسورية هي بالتأكيد، ليست سياسية (وإن كانت السياسة من نتائجها) بل هي أزمة ثقافية معرفية تربوية بامتياز... فلا سياسة فاعلة ومنتجة وواعية بلا جمهور سياسي واعٍ ومثقف ومتحمل للمسئوليات في دوائر ومؤسسات الحياة الصغرى منها قبل الكبرى... ولا إنتاج حضاري مادي حاضر ومثمر في عالم اليوم والغد (عالم القوة والعقل والعلم والصناعة والإنتاج المادي الهائل) بلا تربية وتنمية ذاتية ومجتمعية، وقبلها بلا تنشئة تربوية صحيحة وحقيقية تبدأ من الأسرة، وتنتهي في مناصب ومواقع المسئولية الكبرى...

لقد صار لي أعمل وأشتغل على نقد الفكر ونقد التراث والفكر التراثي الديني منذ عقدين من الزمن تقريباً... ودعوت وماأزال أدعو لتربية الفرد المسلم على معايير وأخلاق الدين والسلوك الأخلاقي الديني المنظم، وهي أخلاق عملية واسعة الامتداد والعمق الاجتماعي... ولكن المشكلة، أن الأخلاق ليس فضاءات وتجريدات وأحلام وردية، حتى يقتنع الناس بها، بلا أرضية قوية ومتينة من القانون والنظام العام... وخاصة أن الإسلام قد أعطى الفرد المسلم مساحة واسعة من حرية الحركة القيمية الأخلاقية بلا تكلف، وبما لا يضيق على حياة ومعيشة الناس عموماً... وبما لا يؤدي إلى جعل القيمة سجناً نعيش في داخله بلا حركة ولا عمل ولا إنتاج.

إنني واثق أن الظروف الخارجية المهيمنة على الناس، والتي تشكل ضغطاً على وجودها ووعيها وفعاليتها، ربما تكون من أسباب عدم نجاح كثير من معايير وتطبيقات التنشئة والتربية الإسلامية الصحيحة، الأمر الذي جعلها (أي تلك الظروف المحيطة الخارجية) تضغط على واقع وحياة الناس وتدفعهم لطرق ومسارات لا يعتقدون ولا يؤمنون بها، أي جعلهم يخرقون كثيراً من تعاليم وقيم ومبادئ تلك التربية الصحيحة، ويتبعون سبل التطرف والتعصب... نعم الناس بطبعها وفطرتها تميل للبحث عن معيشتها وحياتها الطبيعية، وتريد تحقيق سعادتها وإقامة جنة حقيقية على الأرض بعيداً عن الوعود والأماني غير المنظورة، أو بعيداً عن كثير من القناعات الدينية وغير الدينية... نعم عندما نرفع الضغوط ومسببات التطرف فستعود الناس حتماً إلى وضعها ونسقها الحياتي الطبيعي...

المشكلة كما كنت أقول دائماً ليست في التراث بحد ذاته بل في استخداماته واستعمالاته السلبية، وتخويف الناس وإرباك وجودها وحياتها، ومنعها من ممارسة دورها الحقيقي، وحصولها على حقوقها الأولية البسيطة، ليست المادية فقط، بل المعنوية من حرية وكرامة وعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات وو ...إلخ.

وهنا يمكن أن نسأل: هل كان هناك تطرف وتعصب وتزمت وتخلف أكثر من تطرف الكاثوليك في أوروبا؟!! هل تعلمون بأن الحروب الدينية أو الصراعات الأهلية الأوروبية كلفت أوروبا عشرات الملايين من الأبرياء... ولكن التنوير والحداثة والعلم والمعرفة، كله ساهم لاحقاً في حصول الناس على حقوقها ومعرفتها بها قبلاً، ومن ثم أنشأت الحقوقيات المؤسسية والضمانات الدستورية، وعرف الناس والمجتمعات واجباتهم وحقوقهم المصانة بالقانون والدساتير وليس بالعسكر والأمن... فماذا ينقصنا نحن في عالمنا العربي؟... ينقصنا أن نشير إلى الخلل، ونكافحه، وهو - قبل أو بعد نقد الثقافة والتراث الديني - كامن في طبيعة السياسة واللعب السياسي والاستبداد بالناس وقهرها وجعلها محبوسة في القمقم وكبتها وكتم أنفاسها بلا قدرة على العمل والإبداع والحضور.

وهذا سيحدث عندنا آجلاً أم عاجلاً، فالتنوير الثقافي والمعرفي، وحداثة العقول النيرة، قادمة لا محالة، وهي شرط حدوث التغيير السياسي...

إن الدول المتقدمة الحضارية الدستورية الحرة، التي مرت بتجارب التنوير والحداثة العقلية والمعرفية والعلمية، والتي تحترم شعوبها بالدساتير والأنظمة والقوانين النافذة المطبقة على الجميع دون استثناءات، لم تقم ولم تتشكل ولم تتطور بالقسر والقمع والأوامر، ولا بالبيانات ولا بالتعميمات الجاهزة الصادرة عن الباب العالي بل تبنى بالأصول القانونية والمؤسساتية والأنظمة القانونية العلمية الرصينة... وهذا هو أحد مقاييس ومعايير نجاح الدول في تطورها السياسي والاجتماعي خدمة لمواطنيها الأحرار المستقلين...

وعلينا هنا أن نميز بين الدولة كهياكل وبنى ومؤسسات قائمة ثابتة لا تتغير من حيث الإجمال والتكوين الدولتي العام، وبين السلطة أو النظام السياسي الذي يحكم - لفترة زمنية محددة بالدستور قد تصل لأربع أو خمس سنوات - تلك الدول. وهي لاشك مسيرة شاقة وطويلة... مسيرة المعرفة العقلية والتنوير القيمي، وبناء دولة القانون والعدل والمؤسسات.

وكلما كانت هذه الدولة الموعودة المسترشدة بهدي الأخلاق العملية، بعيدة عن القوالب والفردانية والنمطية والحزبية والحالة السياسوية التنظيمية والاختزالية الواحدية... كلما كانت تجلياتها بعيدة عن التمثل والتشخصن في شيوخ ورموز وقادة وزعماء إلهيين أو شبه إلهيين.

أخيراً، أقول، وقد انتقدني بعض الأصدقاء لأنني انتقد كثيراً سلوكية وأفكار كثير من علماء ورجالات الدين، وأركز على نقد التراث، انتبهوا وافهموا نحن عندما ننتقد رجالات وعلماء الدين، ودعاة التدين ورموز الفكر الإسلامي والناطقون باسم الدين، لا يعني أننا نكرههم ونبغضهم، أو أننا ضد مسألة الدين، أو أننا ننتقد الدين ذاته... كلا، لأن هؤلاء المعبرين عن الدين في النهاية هم بشر مثلنا، حتى لو رأينا على رؤوسهم ريشة أو عمامة أو أي شيء آخر... إنهم، نسبيون في تفكيرهم وسلوكهم وتحليلاتهم ووعيهم ومداركهم التي تتأثر بظروف الزمان والمكان، وهي عرضة لعوامل «الحت والتعرية» الفكرية والمعرفية والتاريخية... وقد يخطئون ويصيبون في تأويلاتهم وشروحاتهم وتفسيراتهم للدين... أما الإسلام فهو حالة في الفكر والإحساس والممارسة، وهو حالة قد تكون مختلفة كلياً عن أتباعه ورموزه ورجالاته...

من هنا يكون نقدنا لرموز ومشايخ وحركات وخطابات التيارات والحركات الدينية الإسلامية، حالة بناء وتطوير، وتشخيص لأمراضها وعللها وما أكثرها في حالتنا العربية وفي اجتماعنا الديني الإسلامي.

وكثير من هؤلاء الرموز والعلماء قد يتحولون عقلاً مغلقاً سلفياً لا يقبل الحوار ويرفض النقد وقد يعتبر كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق... ولهذا العقل السلفي الديني المغلق شقيق وحيد هو العقل السياسي المغلق حتى لو كان علمانياً كاملاً.

إنني أعتقد أن التقوقع حول الذات الجماعية، والقطيعة مع الآخر، ورفض تقبل الحوار (وليس النقد!)، وادعاء القيمومة الفكرية والسياسية، واسترهان الكل من أجل الجزء، هي أبرز صفات رجالات ديننا السلفيين، والتي يشتركون فيها مع أصحاب العقول السياسية المغلقة اعتقاداً وقولاً وعملاً...

لقد كانت الدولة العربية تاريخياً دولة استبداد وقهر وغلبة، هذا هو الثابت في مسيرة الحكم السياسي العربي والإسلامي غالباً، بينما الطارئ والاستثائي فيها هو أن تكون دولة عدالة وإنسانية... وحتى لحظتنا الراهنة - التي نمر فيها حالياً بتحولات وتغيرات على شكل اضطرابات وقلاقل ومشاكل وأزمات خاصة في بلدان ما يسمى بالربيع العربي التي أضحت بلدان الشتاء القارس خاصة في مصر وسورية وليبيا - لاتزال الدولة القائمة المهيمنة والمستولية على كل شيء في مجتمعاتنا هي دولة الإكراه والاستبداد التي هي دولة بوليسية ظالمة، لم تهتم أبداً بمشروع التنمية الفردي والمجتمعي، ولا بمشروع بناء دولة القانون والمؤسسات، بما يعني أن ثقافة بناء الدولة كانت غائبة كلياً عند نخبها وحتى عند الفرد - المواطن الذي تربى في كنفها... وإن كنا نحمّل المسئول المتصدي لمهمة الحكم والقيادة الوزر والمسئولية الأكبر في هذا السياق.

إنني أعتقد أن الحرية هي هيكل وأساس بناء أية دولة أو مجتمع، لأنها هي جوهر الوجود وجوهر كينونة الإنسان في هذا الوجود... ومن دونها لن تقوم الدولة العادلة المنشودة، ولن تحدث أية تنمية حقيقية طالما أنها مستبعدة كفكرة وقيمة وسلوك من قاموس الدولة العربية الحديثة بشخوصها ورموزها ومختلف حركاتها وتياراتها.

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 4048 - الأحد 06 أكتوبر 2013م الموافق 01 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:47 ص

      عادات وتقاليد _ عرف يعني وكل واحد يقلد على الثاني لكن

      الحرية مسئوليه لكنها ليست مطلقه بينما البعض قد لا يقول بأن على الناس أن تحترم أنفسها بنفسها كما تحترم الآخرين. يعني الناس سواسيه ولا فرق بين عربي ولا عجمي – يعني غير معروف الأصل إلا بالتقوى – يعني بالعدل والإحسان للناس وعدم الإساءة (..). قد تكون عند بعض العرب مقولة لا ضرر ولا ضرار – يعني لا تضر الحيوان كما لا تضر الطبيعة كما لا تلوث البيئة ولا تعتدي على غيرك. يعني حتى بالشك أو الغيبه أو النميمة فهذه من المعاصي وليس فيها من الطاعات شيء!

اقرأ ايضاً