العدد 4065 - الأربعاء 23 أكتوبر 2013م الموافق 18 ذي الحجة 1434هـ

بنية الاستبداد «العميقة»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما أنتجه الربيع العربي من تغيّرات وتقلبات وانقلابات مضادة... كشف للعالم صلابة بنية الاستبداد في عالمنا العربي.

بقية مناطق العالم، مثل أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وحتى بعض دول أفريقيا، حقّقت نجاحات جيدة على طريق التحرّر من قبضة الأنظمة العسكرية والاستبدادية، إلا أن ما حدث حتى الآن أقل بكثيرٍ مما كانت تطمح إليه الشعوب العربية.

ليس ذلك مدعاةً لإحباط هذه الشعوب، فما حقّقته حتى الآن، يعتبر كبيراً عند النظر إلى الأمور من زاوية تاريخية. فقد تم إزاحة ثلاثة من الزعماء المستبدين في شمال أفريقيا، وأثرت على أوضاع أنظمة استبدادية أخرى. ويعود جزء كبير من ذلك إلى ظروف العصر، ووتيرته المتسارعة، ووسائل الاتصال المتقدمة. ومن الإنصاف القول أن ما أنجزته دول أوروبية في قرون قبل مئتي عام، وأنجزته بعض الدول الآسيوية الناهضة في عقود، تحاول الشعوب العربية إنجازه خلال سنوات. إلا أنه رغم تعثر هذه الحراكات الشعبية، وما يوضع في طريقها من عراقيل ومطبات، إلا أن المسيرة التاريخية قد بدأت، ولا مجال لهذه الشعوب للتراجع، فهي إما أن تمتلك حريتها أو تعود مرةً أخرى إلى الأغلال.

إن ما نراه من مقاومةٍ شرسةٍ للتغيير، من قبل الأنظمة العربية التي ورثت السلطة منذ الاستقلال، إنّما هو أمر طبيعي. فالتنازل عن السلطة غير وارد في عقلية هذه الأنظمة، لأنه ببساطةٍ تنازلٌ عن امتيازاتٍ وغنائم كبرى، ولأنه قد استقر في ذهن الحاكم الشرقي أن التنازل عيبٌ ونقصانُ رجولة، وعليه أن يبقى متربعاً على العرش، حتى يقبض الله أمانته، شاء من شاء، وأبى من أبى، مهما كان أداؤه ضعيفاً أو فاشلاً، حتى وإن رغمت أنوف.

من هنا فإن هذه المنطقة ستمر بمخاضات طويلة، وتدفع الشعوب الثمن دماً وعذابات، لكن نهاية النفق، في بحر عشرين أو ثلاثين عاماً، ستشرق شمس الحرية وتستقر قيم العدالة، ويتم تطبيق القانون والمساواة على الجميع، بعد أن تملّ هذه الشعوب من الحرب والتطاحن والاقتتال.

ليس هذا سيناريوهاً خيالياً أو افتراضياً، وإنّما هي سنة الحياة، وهذا ما سارت عليه الشعوب قديماً وحديثاً، من الفرنسيين والأميركيين، إلى الهنود والصينيين، إلى الأوروبيين واللاتين في جنوب الكرة الأرضية. وما جرى عليهم من سنن الثورة والتغيير، سيجري على هذه المنطقة، التي ستتبدل جلوداً غير جلودها، ووجوهاً وحكاماً وقيادات غير وجوهها الحالية... إنّما هي عملية وقت.

ربما ما جرى حتى الآن غير مشجّعٍ للكثيرين، خصوصاً شباب الربيع العربي الذي نزل الميادين وقدّم التضحيات وتحمّل أكبر الأعباء، لكن ما حدث حتى الآن ليس نهاية المطاف. القاطرة انطلقت ولن تتوقف حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

في تونس هرب بن علي، وفي مصر تم تنحية مبارك، وفي ليبيا أُزيح القذافي بطريقة عنيفة، وفي اليمن دُفع صالح للتنازل مرغَماً. لو عدنا إلى ما قبل خمس سنوات لم تكن أيّ من هذه السيناريوهات واردةً على مخيلة أكثر الروائيين العرب خصوبةً وخيالاً، لكنها أصبحت واقعاً وتحوّلت إلى تاريخ.

المقاومة التي تبديها هذه الدول «العميقة» للتغيير حتى الآن هي أعراض طبيعية للمرض المستوطن: الاستبداد. هذه الثقافة المتورمة كالسرطان، التي ورثتها هذه الشعوب منذ خذلان تجربة الشورى الإسلامية في نهاية عهد الخلفاء الراشدين، وتحوّلها على أيدي الأمويين إلى مُلكٍ عضوض.

ما حدث في هذه الدول، يؤكد أن بنية الاستبداد عميقة الجذور، تجري في دمائنا وتتحكّم في تفكيرنا بأكثر مما نتصوّر. ففي مصر عاد حكم العسكر من جديد، بعدما تحالفت معه أطرافٌ كانت من صفوف المعارضة، نكايةً بمنافسهم اللدود (الأخوان المسلمين). والعلمانيون في تونس يمارسون اللعبة ذاتها نكايةً بحركة «النهضة» الاسلامية. وهي خطيئة تاريخية تدل على تفكير قصير النظر، لن يكون فيه رابحٌ إلا قوى الاستبداد وبقايا الأنظمة الدكتاتورية، والسبب هو الاستبداد وعدم القبول بالآخر.

وسط هذا الجو المضطرب، سيخرج جيلٌ جديدٌ سيزيح كل اللاعبين الحواة، بقايا أنظمةٍ ومعارضةً منتهية الصلاحيات، ويعيد للكرامة اعتبارها، وللحرية ألقها. لن يتأخروا كثيراً، فانتظروهم إنهم قادمون.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4065 - الأربعاء 23 أكتوبر 2013م الموافق 18 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 18 | 9:16 ص

      شكراً استاذنا العزيز

      ألف شكر استاذنا العزيز على المقال الرائع دمتم فخراً و عزاً و دعماً و تشجيعاً للربيع العربي .. #البحرين #دوار_اللؤلؤة #الربيع_العربي #التغيير #الديمقراطية ..

    • زائر 17 | 6:46 ص

      يظنون نفسهم خالدين

      هذه هي دروس التاريخ. وهذه هي العبر. ولكن ما اقل من يعتبر. يظنون أنفسهم خالدين.

    • زائر 13 | 4:46 ص

      مقالك ومقال الدكتور الغبرا

      قرأت مقالك ومقالك الدكتور شفيق ناظم الغبرا اليوم في الحياة، فرايت درجة كبيرة من التطابق في الأفكار. كلاكما تتحدثان عن الجيل الجديد واستبداد النظام العربي وأخطاء حركات المعارضة . وكلاكما تؤمنان تماماً بالجيل الجديد وتبشران بسقوط (عبادة السلطة ووصناعة الدكتاتور) كما قال الغبرا، ومجئ الجيل الجديد (ليعيد للحرية ألقها وانهم قادمون) كما تقول.

    • زائر 11 | 4:06 ص

      المرء ونيته الفاسده أو الباطله!

      يقال عند ما تكون النيه باطله فلا يكون العمل صحيح لكن كيف تعرف أن العمل قد أسس على نيه باطله أو نيه صحيحه. قيل إعرف الحق تعرف أهله وإعرف الباطل تعرف أهل. ويش قال جحا من أهل الحق أو من أهل الباطل. أووا لسنا على الحق وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا؟

    • زائر 10 | 3:56 ص

      جحا والظواهر الطبيعيه!

      ما كشفه الربيع الغير عربي كما الفوضه ليست خلا قه وإنما مخرج من مخارج قيادة الأسطول الخامس مع قادة الأبيض الأبيض. هذه الحقيقه اليوم للعيان ظاهره وليست من الظواهر الطبيعيه. فمن الظاهر والباطن يعني المخفي عن الناس أن المخابرات أخفوا الكثير من المعلومات وتستروا عليها. من هذه المعلومات الكوارث المقبله عليها أوربا الوسطى وأمريكا وبعض مناطق الشرق الأقصى يعني اليابان كما بعض مناطق جنوب شرق آسيا وإستراليا ومنا طق أخرى. ويش قال جحا؟

    • زائر 8 | 2:52 ص

      صباح الخير سيد

      ذكرت مصر و تونس و اليمن وليبيا بس ما ذكرت سوريا ليش خايف من الانتقاد . لن قبل 4 أسابيع أو خمسه أنتقدت النضام السورى وكان موقفك مشرف وصريح بس التعليقات الى وردت من المعلقين على الموضوع أنتقدوك بشده

    • زائر 9 زائر 8 | 3:46 ص

      هناك دولة اخرى مثل سوريا هل تعرفها؟؟؟؟

      اعتقد لأن هذه الدول التي استشهد بها قاسم حسين كلها حدث فيها التغيير. أما سوريا (مع دولة اخرى انت تعرفها جيداً) لم يحدث فيها تغيير فلذلك لم يذكرها. وإلا كان السيد واضح في انتقاده لبشار وكان يعتبره على طريق القذافي وصدام.

    • زائر 12 زائر 8 | 4:12 ص

      قالها انتظروهم انهم قادمون

      سيدنا متفائل بحدوث تغيير شامل كامل خلال ثلاثين سنة. وليس فقط سوريا يا حبيبي. وكما قال انتظروا انهم قادمون.

    • زائر 7 | 2:05 ص

      هناك اركان للاستبداد لا يصلح الحال الا بعد ان تزول

      في الدول العربية يوجد اركان للاستبداد ولا يمكن صلاح بلد الا بازاحة اركان الاستبداد هذه قاعدة فلا يمكن لشخص مستبد ان يتحول بين عشية وضحاها لشخص مصلح وهناك دول بعينها تساند الاستبداد وتسخر كل طاقاتها من اجله ولن يصلح الوطن العربي الا بتغيير هذه الاركان

    • زائر 6 | 1:27 ص

      إبداع

      كلمات رائعة .. أدب رفيع .. اختيار موفق للاستشهادات والألفاظ .. دمتم سيدنا العزيز ..

    • زائر 5 | 1:25 ص

      لا تكن متفائلا

      قبلا قيل العدل لا يبقى وإن بقي عمر والطلم لا يبقى وإن بقي دمر فالشطر الاول من المثل ذهب لغير رجعة وبقي الشطر الثاني وهو الظلم الباقي والجاثم علئ الصدور والمتمسكبن به لا يهم عندهم دمر الانسان او البلاد او حتى الكرة الارضية بمن عليها المهم هو اشباع نزعة الاستبداد المعششة في اذهانها والتي اصبحت جزء من تكوينهم فهم يطلمون ومستبدون ادن هم موجودون.

    • زائر 4 | 12:52 ص

      كبير

      كم انت كبير ياستاذ قاسم المقال روعه في الصميم الله يحفظكم

    • زائر 3 | 12:34 ص

      كلمات .........

      كلمات ليست كا الكلمات...ياأخذني من تحت ذراعي ويزرعني في احلي الغيمات

    • زائر 2 | 12:34 ص

      حتما سوف تنال الشعوب حقوقها

      لابد ان تنال الشعوب حقوقها طال الزمن او قصر وهذه سنة الحياه.

    • زائر 1 | 10:15 م

      لا أمل

      لا أمل أن تتطبق الديموقراطية فى دول العالم الثالث. السبب الرئيسى هى الثقافة العامة التى لا تقبل المشاركة فى الرأى و النقاش على أساس الفكرة بفكرة و الرد برد. كل من يصل الى الحكم يكون صورة للذى سبقه. تعاملت مع كثيرين يتحدثون عن العدالة الإجتماعية و المساواة و الديموقراطية و بعد تبوأهم منصب تتغير شخصيتهم و يكونواصورة بنفس الصفات التى كانواينتقدونها. مسألة احترام الرأى الآخر يجب أن تبدأ من القاعدة و تسود المجتمع قبل التحدث عن ازالة الإستبداد. الحقيقة: كلنا مستبدون و مستعدون لإزالة كل من يعارض رأينا.

اقرأ ايضاً