العدد 4074 - الجمعة 01 نوفمبر 2013م الموافق 27 ذي الحجة 1434هـ

أربع ملاحظات على الـ 125 مليار

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بـ 125 مليار عملية تجسُّس حول العالم، وفي بحر شهر واحد (يناير 2013) فهذا يعني أن الأمر مهول جداً. لكم أن تتخيلوا ذلك الرقم بشكل دقيق، وعلى يمينه تسعة أصفار (125000000000)! إنه رقم لا يمنح المرء قدرة على التفكير، لأنه بالأساس، خارج تغطية العقل، ولم تتعوَّد عليه السليقة البشرية، التي كوَّنتها الحضارة والمدنية، منذ أن اختُرِعَ البارود، واخترعت لاحقاً كل وسائل الاتصال والتفاعل المختلفة بدءًا من القرن الـ 16.

وما زاد الأمر عَجَباً، هو أن واشنطن لم تتجسَّس على سبعين مليون مكالمة هاتفية في فرنسا فقط، ولا على ستين مليون مكالمة هاتفية في إسبانيا فقط، ولا على 1.9 مليار عملية تجسُّس في مصر فقط، ولا على 1.6 مليار عملية تجسُّس في الأردن فقط، ولا على 7.8 مليار عملية تجسُّس في العراق فقط، ولا على ثمانية مليارات من عمليات التجسُّس الهاتفية في السعودية فقط، ولا على 1.73 مليار عملية تجسُّس في إيران فقط، ولا على 22 مليار عملية تجسُّس في أفغانستان فقط، بل إنها تجسَّست على خمسة وثلاثين زعيم دولة في مختلف أنحاء العالم، أغلبهم حلفاء وثيقون لها.

أمام كل ذلك المشهد دوَّنت بعض الملاحظات... الأولى: أن ذلك الرقم يحتاج إلى مزيد من التفكيك كي يسهل استيعابه. فإذا كانت هناك 125 مليار عملية تجسُّس أميركية في شهر يناير فقط، فهذا يعني أننا أمام 4.166 مليار عملية تجسُّس في اليوم! المسألة ليست في ذلك الرقم الذي قد يتراكم الكترونياً، بل في تحليل تلك الأرقام. نعم، قد تُجمَع كل تلك العمليات التجسُّسية، لكن المهم ليس في جمعها، بل في تحليلها وفق التكييف الأمني الذي تضعه وكالات الاستخبارات الأميركية الستة عشر.

هنا يزداد الأمر غرابة إذا ما تحدثنا عن العنصر البشري المخصص، والقادر دون سواه على التعامل مع هذه البيانات، لوضعها في السياقات الخاصة بالخطط الأمنية، وتحويلها إلى برامج مضادة في فترة زمنية محددة، للتحكم أكثر بالمعركة مع العدو. كم من الأفراد يمكن أن يُوظفوا من أجل ذلك الغرض؟ ألف؟ ألفان؟ عشرون ألفاً؟ مئة ألف؟ مع توفر شروط الأمان الذاتي كي لا يتحول بعضهم إلى «سنودن» آخر. لا أحد يعلم بالتحديد، إلاّ أن الرقم هو فلكي بالتأكيد.

الملاحظة الثانية: إن ما يجب إدراكه هنا، هو الحديث عن القوة الاستخباراتية للولايات المتحدة، بحيث تقوم بأعمال من هذا النوع وبهذا الاختراق العابر للحدود والأبواب والأسوار. وربما ما لم يستطع ادوارد سنودن كشفه كان أكثر كيفاً وكماً، ولكن ضمن هذا المنسوب، يعطينا قراءة، لمدى السطوة العلمية والتقنية التي وصلت إليها القدرات الأميركية، في مجال البحوث والعلوم. وهو اعتراف حقيقي حتى ولو كنا على خلاف مع الأميركيين.

وقد يعود هذا كله، إلى حقبة الحرب الباردة، التي أنفقت فيها الولايات المتحدة 16 تريليون دولار على «تطويرات في البحوث العسكرية والمدنية» إلى الحد الذي رأت فيه دولٌ أوروبية رائدة في مجال التكنولوجيا، كألمانيا وبريطانيا وسويسرا، أنها متخلفة إلى الوراء بعشرات السنوات أمام تقدم الولايات المتحدة. وللعلم، فإن الأميركيين، أنشأوا المجلس القومي للبحوث منذ العام 1916، وهو ما جعلهم يراكمون مزيداً من العلوم والتكنولوجيا، بالاعتماد على الهجرات العالمية، والعقول المهاجرة، بما فيها العقول النازية الفارّة من ألمانيا بعد الحرب.

الملاحظة الثالثة: ما يجب أن ندركه جيداً في هذا الأمر، أن الحديث المتكاثر، عن ضعف الولايات المتحدة الأميركية، وَوَهَنِها يحتاج إلى إعادة تفكير. نعم، نحن نؤمن بما قاله آرنولد توينبي من أن الحضارات تنعقد نطفتها ثم ثُولد ثم تنمو ثم تزدهر ثم تأفل وتتحجّر، لكن ذلك لم يحن بعد في الحالة الأميركية. بالتأكيد، نحن لا نؤمن بالمشروع الأميركي لا «سياسياً» ولا «اقتصادياً» ولا «ثقافياً» وقلنا ما قلناه في سياساتها تجاه العرب والمسلمين، لكننا أيضاً لسنا بُلَهاء لهذه الدرجة، التي نصدِّق فيها أن أميركا في طريقها إلى الانحدار والهاوية بالطريقة الكارتونية التي يُصوِّرونها لنا. فهذا الأمر يدفعنا لأن نستكين للتمنيات والأحلام لا أكثر.

في العديد من المرات، كنتُ أدقّق في التقديرات الاقتصادية والمالية، التي تتحدث عن قرب انهيار هذا الكيان السياسي، لكنني لم أحصل (في الأغلب) سوى على أرقام وإحصائيات يتيمة، لا تحوطها قراءات وثيقة، تعطينا المزيد من القناعة بما يقال عن قرب انهيار أميركي، خصوصاً أننا نسمع بهذا الكلام عنها وعن اقتصادها الضعيف والمتهالك منذ أن كنا صغاراً. وإلاَّ ماذا يعني أن تسيطر أميركا على أربعين في المئة من اقتصاد العالم، أو عندما يُصاب اقتصادها بالبرد يصاب نصف العالم بالسُّعال والحمى. هذه تساؤلات حقيقية، تحتاج إلى تحليل متماسك لا إلى إنشاء.

الملاحظة الرابعة: أن هذه الحادثة، تعطينا حقيقة السياسة الأميركية في التعامل مع العالم. هي لا تعترف كثيراً بمسميات الحلفاء والأعداء. بل قد تقوم بعملية غربلة بين الفينة والأخرى لهذه السلة من التعاملات، فيتحول العدو إلى صديق، والصديق إلى عدو. العمدة في كل ذلك هي المصالح. وهو أمر لا يخفيه الأميركيون، بل هم يقولونه علناً، وعلى الجميع أن يفهمه ويستوعبه.

فإذا كانت السياسة البريطانية صدى للسياسة الأميركية (كما قال أحدهم) وإذا كانت ألمانيا (ميركل) وفرنسا (أولاند) وإسبانيا (ماريانو راخوي) وبقية حلفاء أميركا في العالم يتم التعامل معهم بهذه الطريقة «المهينة» فما بال الخصوم والضعفاء إذاً؟ إنهم بالتأكيد في مرمى أكثر دقة وملاحظة، وفي الوقت نفسه، أقل قدرة على الصَّد والمواجهة، كون أغلبهم يعتمدون على وسائل أقل كفاءة. في المحصلة، فإن ما جرى هو درسٌ للجميع، وإعادة تقييم لمفهوم الصداقة والعداوة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4074 - الجمعة 01 نوفمبر 2013م الموافق 27 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 11:32 ص

      متابع

      بالنسبة للاقتصاد الامريكي ، يقولون وصل الدين الامريكي الى حدود 16 تلريون دولار ، البعض يدعي ان هذا دليل على قرب تهاوي امريكا اقتصاديا ، خصوصا ان الصين فقط ( عدو امريكا ) تمتلك لوحدها سندات تلريون دولار كدين على امريكا بحيث يمكنها ان تسقط امريكا في لحظة لو طالبت بها ، . . . . فهل هذا الكلام صحيح ؟

    • زائر 8 | 9:27 ص

      متابع

      نرجوا من الكاتب القدير أن يكتب لنا مقالات تتناول الأمور التالية : 1- قضية النفط الصخري في أمريكا و تأثيرها على امريكا اقتصاديا و على علاقاتها الاقتصادية و السياسية مع العالم و الدول النفطية بالأخص ، وأخص من ذلك الخليج ( هل صحيح أنها ستتخلى عن الخليج قريبا بسبب ذلك ؟ ) ...... 2- سوريا : الواقع الميداني ، أين تسيطر المعارضة تحديدا و أين يسيطر النظام ؟ بغض النظر عن التهويل الاعلامي لكلا الطرفين ، و أيضا من يتقدم الآن عسكريا و سياسيا ؟ أم أن الوضع شبه ثابت ؟ نسبة الاراضي التي يسيطر عليها الطرقين ؟

    • زائر 7 | 8:16 ص

      ملاحظتين

      الأولى تتعلق بقدرة امريكا بفاترة المكالمات التليفونية والمسجات والإيميلات وغيرها عن طريق وضع ضوابط توجه المراقب لها من خلال رموز،مثلا ككلمة إرهابي أو جهادي أو مسلم. الثانية فيما يتعلق بعدم أفول سطوة امريكا،فأنا لا أتفق معك مع هذا التحليل المبسط.....وذلك واضح فيإمتداد النفوذ الروسي والصيني وغيرها.وفقدان امريكا قدرتها على تغيير الوقائع في العالم الحر طبعا....تهالك البنية التحية لها وكونها أكبر دائن عالمي هو من أهم ملامح سقوطها......فلننتظر....فسحة قريبة من الوقت...وكل من سار خلفها وقع.

    • زائر 5 | 3:37 ص

      مو شرط امريكا ضعفت

      امريكا لم تضعف لا تزال في اوج قوتها و لكن هناك من يستطيع ان يكون مستعصيا عليها مثل روسيا و الصين و غيرهما .
      و لكن ليس بل الأمر المستعصي عليها القضاء عليها بل على الأقل تحقيق استراتيجية الدمار المتبادل بين هذه الدول في جهة و امريكا من جهة اخرى.

    • زائر 4 | 3:14 ص

      اضافة للارقام المذكورة اعلاه فقد اضافت الانباء انه تم فحص و تحليل البيانات وتم استخلاص الآتي:

      تفيد الوكالة الامريكية للتجسس "سي آي إيه" انها خرجت ببعض النتائج لم نفهم معانيها علي سبيل المثال لا الحصر:
      أ ) اجرينا 70 مليار مكالمة تجسس علي السعوديين ، 90 % تقول " اطلعوا برع انا عند الباب"
      ب ) كذلك اجرينا 10 مليار مكالمة علي البحرينيين ، 80% منها "ايش تبون عشاء الليلة"...
      واضافت الوكالة انه سيتم الاستعانة بشركة خاصة مشهود لها بتحليل البيانات في فك الشفرات لهاتين الدولتين الصديقيتين

    • زائر 2 | 1:43 ص

      فلربما انقلب الصديق عدوا وكان اعلم بالمضرة

      واي صديق هذا الذي يتمكن ان يتجسس بـ 125 مليار عملية تجسُّس بل ويستطيع ان يزيدها الى (125000000000)! صديق داهية وما له حل

    • زائر 1 | 12:11 ص

      هلاك القوي

      امريكا التي حطمت الاتحاد السوفيتي لا تستطيع تحطيم دول مارقة في الشرق الاوسط؟؟؟؟؟ تستطيع في غمضة عين لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد فاحيانا يصبح الضعيف سببا لهلاك القوي

اقرأ ايضاً