العدد 4074 - الجمعة 01 نوفمبر 2013م الموافق 27 ذي الحجة 1434هـ

ماذا بقي من النقد الأدبي في البحرين؟

بعد عقود على أول تجربة:

في حديث عابر منذ مدة مع الناقد والكاتب البحريني الكبير أحمد المناعي عن الشاعر الكويتي فهد العسكر نبهني إلى مسألة غاية في الأهمية وهي أسبقيته في تدشين الرومانسية الشعرية في الخليج العربي. وكان المناعي ذكّرني أنه سبق أنْ كتب مقالاً في مطلع السبعينات من القرن الماضي يتناول تجربة الشاعر العسكر، وقد أثارت هذه المقالة بعض الشعراء ومنهم الشاعر الراحل إبراهيم العريض عن أسبقية فهد العسكر في ريادته للرومانسية، معتبراً العريض نفسه رائد هذا الاتجاه في الشعر وليس العسكر.

وفي الحقيقة يعكس هذا المثال حالة عامة تعبر عن مدى الحساسية فيما بين الشعراء والنقاد والمثقفين عامة حول اشكالية الريادة. وشعراء الخليج ليسو استثناءا من ذلك، كما يعكس المثال المواقف المزدوجة والمتبادلة ضمنا أو صراحة بين الشعراء حول تجارب بعضهم بعضاً فيما يتعلق بالشعر والمرجعيات الاجتماعية والفكرية التي تؤطر تلك المواقف.

وبخصوص السجالات الفكرية التي اتحذت طابعاً نقديّاً وفيها قدر كبير من الحساسيات غير النقدية أشار المناعي في معرض حديثه إلى تلك المعركة النقدية التي دارت على صفحات صحيفة «البحرين» في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، من أكتوبر/ تشرين الأول 1941 إلى يوليو/ تموز 1942، وكان محور السجال تجربة الشاعر البحريني عبد الرحمن المعاودة.

وفي سبيل إبراز أهمية هذه المعركة النقدية؛ قام الناقد والأكاديمي البحريني إبراهيم عبدالله غلوم بدراسة وتوثيق هذا السجال في كتاب قيم اختار له عنواناً له دلالته وهو «المرجعية والانزياح/ دراسة بدايات النقد الأدبي في البحرين والخليج وتوثيق النصوص النقدية حول شعر عبدالرحمن المعاودة» معتبراً أن هذا السجال يمثل البداية الحقيقية للنقد في البحرين، وعلى رغم ما شابه من اصطفافات سوسيولوجية ومذهبية واثنية ومناطقية - المنامة/ المحرق.

أما فيما يتعلق بتجربة الشاعر المعاودة فهي وإنْ اتخذت منحى اجتماعيّاً قوميّاً وثيق الصلة بالحركة السياسية الوطنية في البحرين، واتسمت بخطابية سياسية مباشرة، فهي في كل الأحوال تبقى تجربة جديرة بالاهتمام على الأقل من حيث المحتوى؛ لأنها كانت تعبيراً صادقاً عما كان يدور ويمور في البحرين من رغبة اجتماعية في تفكيك البنى السياسية التقليدية القارّة والتعبير عن التطلعات المجتمعية التقدمية، وذلك بخلاف تجربة شعرية أخرى مواكبة وجديرة بالاهتمام أيضاً، لأسباب أخرى، هي تجربة الشاعر إبراهيم العريض والتي من أهم سماتها أنها لم تكن على تماس مباشر مع الواقع البحريني، ولا بأحداثه الساخنة، في حين ان «الارتباط النفسي بالوطن لدى المعاودة هو ما يميز تجربته الشعرية في هذه الناحية بالذات عن تجربة العريض التي لم تقترب من موضوع الوطن «كما يذكر علوي الهاشمي في كتابه (ما قالته النخلة للبحر).

إن تجربة المعاودة لو لم تكن جديرة بالاهتمام لما كانت أثارت هذا الكم من السجال النقدي والفكري العام على صعيد البحرين والخليج. أما موضوع السجال النقدي الفكري/ الاجتماعي فهو تلك المحاولات الريادية في شعر المعاودة، أعني تقديمه عدداً من الرباعيات على شكل معارضة لرباعيات الخيام أو ترجمة لبعض هذه الرباعيات بشكل أو بآخر ونشرها على صفحات صحيفة «البحرين» وعددها ست رباعيات، وهو ما استدعى لاحقاً تلك المعركة النقدية الحامية حول هذه الرباعيات وقيمتها الأدبية والفنية والتاريخية. وفيما يبدو من مجرى السجال النقدي فقد مثلت هذه الرباعيات الجانب الأهم من تجربة المعاودة الشعرية في نظر هؤلاء النقاد، وفي الوقت نفسه مثلت تلك الكتابات النقدية الأساسات الأولى لمسيرة النقد اللاحق في البحرين.

لقد مضت سبعة عقود على أول تجربة نقدية بالمعنى الحديث في البحرين والخليج العربي، إلا أنه على رغم ما شاب هذه المعركة من اصطفافات اجتماعية حول تجربة المعاودة الشعرية وتحزبات ضيقة او مبررة في حينها، فإنها مع ذلك قد مهدت الطريق للنقد اللاحق، وخاصة انها، ووفقاً لعبدالله آل مبارك في كتابه «أدب النثر المعاصر في شرق الجزيرة العربية»، أن هذه المعركة «أفادت في نشر المفاهيم الطيبة، مثل الدعوة الى ضرورة النزاهة في النقد والترفع عن البذاء والتعرض الشخصي. ومثل ورود الفاظ ومصطلحات –لأول مرة في ادب الخليج – كالنقد الذاتي والنقد الموضوعي» ص148. معركة دشنت لحالة جديدة من السجال الفكري الثقافي لم تكن معهودة من قبل في حياتنا الثقافية بوجه عام.

لكن هذه المعركة النقدية إذا ما اخذناها في السياق الثقافي العربي العام قبل سبعة عقود من الآن فإن هذه المعركة لم تكن اليتمية او الفريدة من نوعها في المنطقة العربية، انما هي امتداد لمعارك نقدية وفكرية جرت في مصر من قبيل ما جرى من سجال بين أحمد أمين وزكي مبارك، أو بين العقاد والرافعي، أو بين الرافعي وطه حسين، وكانت معظم تلك السجالات تدور حول شعر شوقي وريادته.

ومما يلفت النظر في هذه المعارك النقدية تحولها الى ما يشبه الصراعات الشخصية، بحيث يتم شخصنة الأفكار النقدية، وكذلك شخصنة التجربة الشعرية، بمعنى أنْ ينصب النقد على شخص الناقد بدلاً من أفكاره النقدية، وعلى شخص الشاعر بدلاً من أشعاره. وهذا ما حدث –مع الفارق- في التجربة النقدية الأولى في البحرين حيث كانت صدى بهذا القدر او ذاك لما يدور في بعض البيئات العربية، ومصر خاصة، وتسير على منوالها.

وكما اتخذت المعركة النقدية في مصر شكل صراع بين اتجاهين - الكلاسيكي من جهة والتجديدي من جهة أخرى - فقد ظهرت المعركة النقدية الاولى في البحرين على شكل اتجاهين ايضا - الكلاسيكيين والمجددين – على ما بينهما من تداخل او غياب الحدود القطعية. فالناقد قد يكون مجددا في جانب وتقليديا في جانب آخر، وهذا ما يشير اليه ابراهيم غلوم في كتابه بخصوص المقالات النقدية في صحيفة «البحرين» لكل من عبدالرزاق البصير من الكويت وعبدالرحيم روزبه من البحرين. ففي الوقت الذي نجد فيه البصير يذهب مذهب أحمد أمين في التجديد وتحرر الأدب من الماضي، نجده في سياق آخر لا يعترف بالفنون الجميلة، ويستهين بالرواية والقصة القصيرة ويعتبرها اعمالا لا قيمة لها، انه هنا تقليدي، وفي المقابل نجد عبدالرحيم روزبه مجددا ومؤيدا لتجديدات المعاودة الشعرية المتمثلة في معارضة الرباعيات وعلى رغم كونه تقليديا من اتباع زكي مبارك، نجده في سياق آخر متزمتا ومحافظا.

استمرت المعركة النقدية الأولى حوالي ستة أشهر على صفحات صحيفة «صوت البحرين» وكادت ان تتحول بعد ذلك الى ما يشبه المعارك الدينية او الاثنية او التوجهات المتعاكسة، ما اضطر فيما بعد احد رجالات الدين المعتبرين في تلك الفترة ومن له علاقة بالادب والشعر خاصة وهو الشيخ / عبد الحسين الحلي الى ايقاف هذه المعركة النقدية؛ لأنها ربما اضاعت اتجاهها الصحيح وتحولت الى ما يشبه المهاترات والتحزبات الضيقة جدا، وتحويل الصراع الموضوعي حول تجربة المعاودة الى صراع ذي خلفيات ذاتية بين كاتبين، الاول هو عبدلله محمد الرومي ومن يناصره من جهة، والثاني عبدالرحيم روزبه ومن يرى رؤيته من جهة اخرى.

وبذلك توقفت اول تجربة نقدية عند هذا الحد، لكن دون ان ينتهي او يتوقف النقد في البحرين، فقد واصل مسيرته عبر طرق كثيرة ومتعرجة، حيث برزت معارك نقدية جديدة في عقد الخمسينات على صفحات صحيفة «صوت البحرين»، ثم في عقد الستينات والسبعينات مرورا بالثمانينات والتسعينات حتى الآن مع اختلاف اللاعبين في الساحة النقدية، وحدوث مزيد من التراكم المعرفي والثقافي. والملاحظ أن كل فترة زمنية من تاريخ النقد في البحرين تبلورت فيها اشكالية معينة ظل النقد يدور حولها، ليتم تجاوزها في فترة لاحقة بالدوران حول اشكالية اخرى على امتداد العقود السبعة الماضية.

والآن وبعد مرور سبعة عقود من التجربة النقدية الاولى نتساءل: ماذا بقي من هذه التجربة وما أهميتها؟ . قد لا تكون هناك اجابة واحدة بالتأكيد على سؤال كهذا، لكن ما هو مؤكد أن ما بقي من هذه التجربة النقدية هو أهميتها التأسيسية الفكرية من طرف، وأهميتها التاريخية من طرف آخر، وهي التجربة التي كانت تعبر عن السياق الثقافي والسوسيولوجي في البحرين والخليج بشكل عام قبل سبعة عقود مضت. وفي كل الأحوال وبغض النظر عما آلت اليه هذه المحاولة، فإن لها ولشخوصها فضل الريادة والسبق على مستوى الحركة النقدية الحديثة في البحرين كما في منطقة الخليج العربي.

العدد 4074 - الجمعة 01 نوفمبر 2013م الموافق 27 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً