العدد 4109 - الجمعة 06 ديسمبر 2013م الموافق 03 صفر 1435هـ

المسكون بمهمّشي الأرض... رحيل نجم...صاحب «كِلمتين يا مصر»

يرحلون تِباعاً. كأنهم يكتبون نص احتجاجهم المُفْجع على ما آل إليه هذا الكوكب عموماً، وإنسانه، وقود المحارق، خصوصاً. رحل صاحب: «كِلمتين يا مصر» و«جيفارا مات» و«كلب الست» و«شيد قصورك» و«يعيش أهل بلدي»، وغيرها من نصوص ذهبت بالعامية المصرية إلى آفاق عالمية. ذلك لمن لم يكن على تواصل مع تجربة شاعر العامية المصري أحمد فؤاد نجم. يختصر بأس تجربته في الحياة وبأس نصه في الوقت نفسه الشاعر الفرنسي لويس أراغون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار». قوتان قدَّمتْه إلى العالم، قوة روحه ومواقفه، ومنهما استلهم نصه العصيّ على النسيان. أراغون يتحدث عن نجم. من عاصمة استغرقت 400 عام كي تقر حقوق الإنسان إلى عاصمة قعّدت لحقوق الإنسان لكن لم ترَ طريقها إلى الإنسان إلا في مراحل تاريخية تكاد لا تُذكر من فرْط الحيف والظلم الذي طال الإنسان.

الذهاب إلى سيرة الرجل تكشف كمَّ وتلاوين الإقصاء والنبْذ والقمع الذي مسّه مع رفيق دربه ونضاله الشيخ إمام عيسى. سيرة القرية المُسوّرة بالبؤس والفقر واليتْم والشقاء. سيرة لا يمكن لها بعد أن تولّد شاعراً بحجمه وهمّه الركون إلى حفلات الكوكتيل وبرامج الإهانات عبر أنظمة تعاقبت عليه ولم يتعاقب عليها؛ لأنها لم تكن الأصل بالممارسة التي عمّقت الشقاء والظلم والتخلف والفقر. كان «جنرال الغلابَةْ» إذا صح التعبير؛ لذلك تعاقب عليه الجنرالات وما دونهم لأكثر من 60 عاماً، والشاهد والأثر لم يبَرح جسده النحيل في طريقه إلى الله، تعذيباً وأوشام استجواب!

في السيرة نياشين لا تنتهي، من طفولة ممعنة ثرية في عذاباتها وصولاً إلى فتوّة جامحة، وانتهاء بخريف عمر لم يره ولم يشعر به الذين يعلمون أنه لم تكن مصادفة أن يكون شاهداً على ربيع عربي تآمر عليه الداخل أكثر من الخارج!

في السيرة أكثر من تجلٍّ... «في الفترة ما بين 51 و56 اشتغل عاملا في السكك الحديد. وبعد معركة السويس قررت الحكومة المصرية أن تستولي على القاعدة البريطانية الموجودة في منطقة القنال وعلى كل ممتلكات الجيش هناك. وكانت ورش وابورات الزقازيق تقوم في ذلك الحين بالدور الأساسي؛ لأن وابورات الإسماعيلية والسويس وبور سعيد ضربت جميعاً في العدوان».

يقول: «وبدأنا عملية نقل المعدات. وشهدت في هذه الفترة أكبر عملية نهب وخطف شهدتها أو سمعت عنها في حياتي كلها. أخذ كبار الضباط والمديرون ينقلون المعدات وقطع الغيار إلى بيوتهم... وفقدت أعصابي وسجلت احتجاجي أكثر من مرة... وفي النهاية نقلت إلى وزارة الشئون الاجتماعية بعد أن تعلمت درساً كبيراً. أن القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية، كنت مقهوراً وأرى القهر من حولي أشكالاً ونماذج... كان هؤلاء الكبار منهمكين في نهب الورش، بينما يموت الفقراء كل يوم، دفاعاً عن مصر».

في السيرة - تذكيراً - تعاقب أنظمة أربعة، لم تنل من روحه وقناعاته وانحيازه إلى «الغلابَةْ» والمهمّشين. قد يكون السجن نال كثيراً من جسده النحيل، الطويل باتجاه ما يريد لا ما يُراد له أن يريد.

لم يجامل أو يهادن أيّاً من الأنظمة تلك، ولذلك كُلَفُه. كان حادّاً في سخريته وهجائه. لا يبتغي الهجاء مذهب حياة؛ ما لم يعرض بعض بشر تلك الحياة قائمة بموجبها يمهر الإنسان بدمه صكّ مصادرته. تلك حياة وأوطان وأمكنة لا يمكن يستقيم معها نجم وهو العابث حتى بالهدوء لا يتركه في حال سبيله!

وفي السيرة ما يشبه الذي تحته الريح بحسب تعبير أبي الطيب المتنبي (على قلقٍ كأن الريح تحتي) ولو كان الشاهد هنا يلتقطه كثيرون باعتباره نقيضاً لروح نجم وذهابه في التهلكة والمهالك.

لم تجامل روحه وموهبته السجون التي تعاقبت على وهم خنق روحه أو على أقل تقدير: تحييدها.

أخطر ما تلتفت إليه الأنظمة احتواء وتوجيه وتأثير طرف خارج مؤسساتها وهيمنتها على وعي من شريحة الشباب. ذلك ما فعله أحمد فؤاد نجم مع رفيق وجعه وهمّه الشيخ إمام، بالتفاف وتبنّي وهوَس طلّاب الجامعة بالبيانات التي تحويها نصوص نجم وصوت البصيرة: إمام؛ اختراقاً للحدود والدول، ولم تسْلَم من ذلك الاختراق دول ظلت واثقة بأنها في حدود اللاممكن!

في الربيع العربي، كان شاهداً حيًّا ومتفاعلاً مع حراك رجرج القارات والحدود، من تونس البوعزيزي، و»مَن أنتم» القذافي، وسرْد السيرة العسكرية مع كل خطاب للمتفرعن الذي حاول توريث فرعنته لابنه (مبارك)، وليس انتهاء بالرئيس/ الملك/ الإمبراطور الأمي الذي قرر قبل 20 عاماً ألاَّ يعيد ترشّحه في الانتخابات الرئاسية اليمنية (علي عبدالله صالح) في كذبة مع مرور الزمن تم تصديقها (الانتخابات)، وحين غادر بلاطه مازال يكيد كيده لاستعادة سلطانه الدموي البائد. كان شاهداً على كل ذلك. أحصى الشهداء نصّاً نصّاً، وأحصى المتخاذلين والمتآمرين لعنة لعنة، وأحصى المتفرّجين بالكثير من بذاءته الضرورية!

الوقوف على نص نجم، قراءة وتأمّلاً وتفكيكاً له مساحته التي لا يدّعي محتلها أنه في الجانب المطمئن من فضائه. لم يكتب شعراً ليكون مطمئناً في حيّزه الخاص فيما الخلق تساق إلى الاستعراض باسم القانون. كان يكتب الناس، وكان الناس يقرؤونه. بعضهم قرأه كما يحب، وبعض آخر يرى وجوب أن يختفي هذا الكائن البشري البذيء من على سطح الكوكب. وبمناسبة البذاءة، صفة صدرت من الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات: الشاعر البذيء!

ربما تكون قصيدته «كِلمتين يا مصر»، واحدة من قدرته الفطرية على مجالسة الذين يؤجلون البوح بعنائهم، والكشف عن بحر لجيّ يضطرب في أنفسهم في ظل جغرافيات الخوف والرعب والنهب:

كِلمتين يا مصر

واسمحي لي

بكلمتينْ

كِلمتين يا مصر يمكن

همّا آخر كلمتين

حدِّ ضامنْ

يمشي آمنْ

أو مآمن يمشي فينْ؟

إلى اللامكان. إلى إصراره على استعادة حتى الكرامة للمكان الذي ظلَّ برسْم تشكيله من قبل الحاكم كيف وأنّى شاء. وقبل ذلك استعادة الإنسان لنفسه في ظل اختطاف يمتد من الماء إلى الماء يطول حتى الذي نتوهم بأنه غير مرئي!

أحمد فؤاد نجم تذكّرنا كثيراً. لم نغب عن مشهد نصّه. لم تدفع له مكاتب علاقات عامة منتشرة في المدن كي يهجو حيناً ويمدح حيناً آخر، كحمَلة الشنط، والذين جاءوا من الجوع والعدم ليحتلوا أمكنة، ويزايدوا على بشر المكان وقضاياه. ظل منافحاً عن الإنسان من دون أن يرى ملامحه. ظل مدافعاً عن القيم من حيث هي قيم من دون أن يسأل عن النبي الذي جاء بها والذين يتبعونه!

وباستعادة شهادة الشاعر الفرنسي لويس أراغون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار»، لا نحتاج إلى استدعاء قوة ذلك النحيل الفارع لنكتشف قدرته على إسقاط الأسوار!

العدد 4109 - الجمعة 06 ديسمبر 2013م الموافق 03 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً