لم يكن رحيله مفاجئاً، فهو رجلٌ جاوز التسعين بخمس سنوات، ويعاني من المرض منذ أعوام طويلة، والموت مكتوبٌ على كل حي.

مع ذلك، حين استيقظت فجر الجمعة الماضية، هزّني خبر رحيله. وكان أول ردة فعل أن كتبت على تويتر: «مانديلا... ورحل ماديبا العظيم فجر الجمعة»، «سيبكيه جميع الأحرار في العالم، وستؤبنه كل الشعوب الحرة... ولكن لن يتمكن أحد كتّاب العملة أن يكتب سطراً واحداً في تأبينه». وثلّثت: «اليوم مات القائد الذي أسقط نظام الفصل العنصري البربري (الأبارتهايد) وحوّل بلاده من حظيرة أغنام إلى دولة نظام ومساواة». كنت أريد أن أوثّق هذه اللحظة الحزينة، وأسجّل شعوري تجاه هذا الرجل الحرّ الأبي.

في مخيلتي، ارتبطت صورته بصورة والدي، فكان في سنواته الأخيرة، كلما شاهد مانديلا على نشرة الأخبار، توجّع وقال: «هذا الرجل سجنوه 27 سنة». ربما لم يسمع اسمه قبل إطلاق سراحه، ولم يطّلع على سيرة نضاله ضد نظام الفصل العنصري، إلا من خلال النتف البسيطة التي ترد على هامش الأخبار. لكن هذه المعرفة البسيطة كانت كفيلةً للتعاطف معه من جانب مواطن بحريني مسلم عجوز، كان يقترب يومها من السبعين.

بالنسبة لي، وبعد سنوات، قرأت مذكراته، وتأثّرت كثيراً بتفاصيل سيرته النضالية ومعاناته مع النظام العنصري، وتمنّيت لو كان الوالد حيّاً لسردتها عليه، أثناء زيارتي له كلّ ليلة وهو يشاهد الأخبار في غرفته الدافئة. كان صديقه، أو هكذا خُيّل إلي، وكان سيُسرّ كثيراً لو عرف المزيد عن حياة صديقه، وعائلته، وأبيه الذي مات لاعتلال صحته بسبب التدخين، مثله تماماً.

بالنسبة لي، كان أكثر ما أثر فيّ، وبقيت أتذكّره طويلاً من صفحات سيرته، موقفان: الأول حين نُقل في سيارة السجناء، ربما لمقابلة عائلته أو لعلاجه، وكان أن اعتلى سطح السيارة أحد رجال الشرطة، وكشف عن فتحة السقف، وقام بالتبوّل على مانديلا من الأعلى. لا أدري كيف شعر مانديلا ساعتها، ولكنه كان موقفاً لم تحتمله أعصابي، لأنه كان يمثل منتهى البربرية والانحطاط الأخلاقي، حين تهين سجيناً لا يملك قوةً أو وسيلةً يحفظ بها كرامته. كان هذا الفعل الهمجي يمثل عصارة ذلك النظام الذي شرعن العنصرية، ورسّخ التمييز بين الناس بفعل القانون وأدوات النظام.

الموقف الآخر الذي حُفر عميقاً في أعماقي، حين وصف مانديلا طريق عودته يومياً من الجبل، حيث حُكم على مجموعته بالأعمال الشاقة. كان مانديلا يصف كيف كان يقضي سحابة يومه في قطع الأحجار، ويعود عند الغروب. كانوا يمنعونهم من الحديث معاً، طوال الوقت، ويعاقبونهم حين يخرقون هذا القانون الحيواني الحقير. وكان حين عودته، يكون جسمه مغطّى بطبقة من الغبار الأبيض، ويأخذ حمّاماً حتى يتخلّص منها. كان ذلك أحد أسباب إصابته ومعاناته بقية حياته.

هذا الرجل، الذي حاولوا إهانته وإذلاله وسحق شخصيته، كان يعرف طريقه، وكانت بوصلته على المستقبل، فلم ييأس أبداً، مهما طال ليل العذاب والألم والمعاناة. كان يعرف تماماً أنه يسير في الاتجاه الصحيح للتاريخ، ويسير أعداؤه إلى المزبلة.

قبل ثلاثين عاماً، كان قادة الغرب المتحالفون مع نظام بريتوريا العنصري، يصفونه بالإرهابي، وقبل ثلاثة أيامٍ وصفه رئيس أكبر دولة غربية (أوباما) بأنه «عملاقٌ من عمالقة التاريخ».

كل أحرار العالم حزينون لفقدك يا ماديبا، ولو كان والدي حيّاً لبكاك.