العدد 4118 - الأحد 15 ديسمبر 2013م الموافق 12 صفر 1435هـ

بين الدبلوماسية والشعر... تقي البحارنة نموذجاً

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

يبدو في الظاهر أن الأدب بوجه عام والشعر بوجه خاص بعيد عن الدبلوماسية من حيث اللغة والمفاهيم، فالشعر لغته رقيقة ناعمة فضفاضة، ومفاهيمه تدور حول الحب والجمال أو الشجاعة والفخر والهجاء. أما الدبلوماسية فهي لغة المصالح الناعمة وهي تمثيل الدولة حيث الكلمات موزونة بدقة، وكل كلمة ينطق بها الدبلوماسي فهي محسوبة على مدى الساعة.

ولكن التطور المعاصر جعل هذين المجالين يقتربان من بعضهما، ولعل من أشهر الشعراء العرب المعاصرين نزار القباني، فقد بدأ حياته دبلوماسياً عربياً ممثلاً لجمهورية مصر العربية في سفارتها بالصين، ثم انتهى شاعراً رقيق الإحساس سلس العبارة وتفوق في مجالات شعره ما بين السياسة كما في قصيدته «متى يعلنون وفاة العرب» وفي قصيدة «قتلوك يا آخر الأنبياء» وغيرها، وبين شعر الحب والغزل الذي شدت به أكثر من سيدة من سيدات الغناء مثل أم كلثوم ونجاة الصغيرة وغيرهن كثيرات. كما أعجب بذلك الشعر الرقيق الرجال والنساء، فالشاعر مرهف الحس رقيق العبارة التي تتسم بالجزالة وتفيض حباً وحلاوة.

وعندما كنت استعد للقدوم إلى البحرين قابلني صديق وزميل مصري من خيرة سفراء مصر هو السفير أحمد الغمراوي، الذي عمل في أفغانستان في الثمانينيات عندما كنت أعمل في سفارة مصر بالهند، ولذلك كان كثير التردد عليها، وكنا نتجاذب أطراف الحديث السياسي آنذاك، ولكنه بعد أن عاد وتخلص من العبء الدبلوماسي اكتشفت مواهبه الأدبية والتي لم أكن أعرفها رغم أنها كانت تلازمه طوال عمله الدبلوماسي وهي موهبة الشعر والأدب، وكان أول ما قاله لي عندما ذكرت له أنني سوف أسافر إلى البحرين، أن التقي بصديق له يدعى تقي البحارنة، وأنه أديب وكاتب وشاعر، وإنه عمل سفيراً لمملكة البحرين في مصر في سبعينيات القرن العشرين، ولكن عندما حضرت للبحرين انشغلت في عملي ولم التقِ بالشاعر السفير تقي البحارنة إلا بعد بضع سنين، عندما كرّر علىّ أحمد الغمراوي أكثر من مرة ضرورة الالتقاء به مشيداً بشخصيته.

السفير الشاعر تقي البحارنة اتسم من أول مرة التقيت به بالكرم الأدبي، فأعطاني عدة دواوين له ومؤلفات أدبية واطلعت عليها بسرعة ثم تركتها للزمن كما قالت أم كلثوم في إحدى أغنياتها «اسيبك للزمن»، ومرّت الأيام وأعطاني تقي كتباً أخرى، وكلما نلتقي وهي مرات محدودة أجد لديه زاداً من الفكر والشعر والأدب.

ولست في معرض تناول حياته التي سجل كثيراً منها في كتابه الجميل المعنون «أوراق ملونة»، وفي كتابه «أحاديث وسير»، وقد أهداهما لي ووعد بدعوتي على العشاء أو الغداء للنقاش فيهما وخصوصاً «أوراق ملونة» بعد أن أفرغ من قراءته، وبالفعل التهمت الكتابين ولكنني لست متحمساً للغداء أو العشاء لأسباب صحية، ولذلك قررت أن أعبّر عن رأيي في هذين الكتابين باختصار في هذه المقالة.

«أوراق ملونة» تناولت بعض لقطات من تاريخ البحرين في أقسامه المعنونة «الزمن الأول، و»أحاديث مسافر»، هي بعضها من السيرة الذاتية للمؤلف و»أوراق أدبية» وهي مقتطفات من شعراء عديدين من البحرين ودول عربية أخرى، و»أوراق إسلامية». ومعظم الأوراق كتبت منذ فترة طويلة ولكن مضمونها مازال قائماً، خصوصاً أن الإسلام عقيدة إلهية، فهو رسالة محمد بن عبد الله الخالدة التي انحرف عنها كثير من المسلمين بالاختلاف والخلاف، منذ انتقال الرسول الكريم للرفيق الأعلى، وأدى تداخل الدين مع السياسة أو تداخل السياسة مع الدين إلى تصارعهماً حيناً، أو تحالفهما حيناً آخر، وكل منهما حاول امتطاء ظهر الآخر للوصول إلى غايته. ولكن بالنظر للتناقض بينهما لا ندري هل سيتم وصول أي منها لغاية؟ أم سوف نضيع نحن البشر في الطريق نتيجة للصراع بينهما؟ وينطبق علينا المثل العربي «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».

أما الشاعر تقي فهو جزل العبارة والتي بها كثير من أسلوب عميد الأدب العربي طه حسين، ففي كثير من فصول الكتاب أحسست كما لو كنت أقرأ في كتب طه حسين من حيث اللغة، وليس من حيث المفاهيم أو المضامين، فالفارق بين الاثنين كبير، فكتابات تقي ليس بها نقد ولا إثارة للمشاكل والقضايا الكبرى، وإذا تعرّض لأمر سياسي أو حسّاس، فإنه يمر عليه مرور الكرام ويلمسه برفق؛ أما طه حسين فهو أديب سياسي جرئ في تناوله للقضايا الدينية والأدبية والسياسية، ولعل أبرز مؤلفاته المشهورة كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي أدخل عليه بعض التعديل لاحقاً، وتغيّر اسمه إلى «في الأدب الجاهلي»، بعد تخفيف المنهج النقدي الذي أدى لاتهامه بالكفر إثر صدور كتاب «في الشعر الجاهلي»، ومن مؤلفاته «الفتنة الكبرى» التي تناول فيها مسيرة بعض الخلفاء الراشدين وخصوصاً «عثمان» ثم «عليٌّ وبنوه»، وكان محللاً موضوعياً إلى حد كبير في تناوله للأحداث الخلافية بين المسلمين.

ثم عاد طه حسين إلى الرقة الإيمانية في كتابه «مرآة الإسلام»، ولقد عشت مع طه حسين في مؤلفاته الأدبية والدينية وكنت أستمتع بها، كما عشت مع عباس العقاد رغم صعوبة اللغة والمفاهيم، كما استمتعت بقراءة مصطفى لطفي المنفلوطي في كتاباته الأدبية المعربة بلغة الضاد والتي لا يمكن اكتشاف أن أصولها من لغة غير عربية، فهو يفهم المعاني ويعيد صياغتها بلسان عربي مبين.

ويبدو لي أن الشعر بالنسبة لتقي البحارنة هو حياة، أما الدبلوماسية فكانت حدثاً عارضاً، فنادراً ما وجدت له كتابات فيها، وإن كنت في لقاءاتي المحدودة معه أحرص على التعرّف على فترة عمله سفيراً في القاهرة. كما يبدو لي أن تقي اكتسب من مهنته الأصلية وهي التجارة حكمة وممارسة، ولكنه لم يكتسب منها الحرص الشديد، أو هكذا انطباعي، على المال وغلب عليه طابع الكتاب والباحثين الذين ينشرون فكرهم ويقدّمونه هدايا مجانيةً لمن يقرأ وهم في غاية السعادة، وهذا أحسن شيء في الحياة، لأن المثقفين ينتمون إلى طبقة «البؤساء» إذا استعرنا اسم مؤلف فيكتور هوجو التي عربها المنفلوطي، ولكن البحارنة ليس بائساً، فهو يحرص على ممارسة قول الرسول «تسعة أعشار الرزق في التجارة»، فهو ابن البحرين وشبه جزيرة العرب الذين هم تجار بطبيعتهم كما أوضح القرآن الكريم ذلك في سورة قريش التي تناول فيها رحلاتهم في الشتاء والصيف.

وختاماً أقول إن تقي أديب ودبلوماسي ومثقف وتاجر، ولا أدري كيف يجمع كل هذه المتناقضات، ولكنها الشخصية العبقرية التي استطاع تقي أن يبلورها عبر العصور، فهو عاش وتعلم في العراق، وهو ابن البحرين وطناً، وسافر كثيراً وأمتعنا بسرد رحلاته من الهند إلى الصين والأندلس ولبنان ومصر وغيرها. ومن دقة ملاحظته فان المرء يعيش كما لو كان يسافر معه لتلك البلاد خصوصاً في وصفه لرحلته إلى أسبانيا وزياراته للآثار الاندلسية الباقية، وكذلك في تحليله للشخصية اللبنانية، وإن كان أبرز بدقةٍ أحد جوانب الحياة اليومية اللبنانية وحلّل من خلالها الشخصية اللبنانية، ولم أجد في كتاب «أوراق ملونة» الجانب الثقافي والفكري في الحياة اللبنانية.

أما ما احتواه الكتاب عن البحرين وبساتينها وعيونها والينابيع فهو بمثابة سجل للبحرين القديمة قبل أن تصلها أيدي التطوير والتحديث، كما تتناول الأندية الثقافية في البحرين والقلاع المختلفة، ولذلك تعد مدونة حضارية على غرار كتاب أمين الريحاني المعنون «ملوك العرب»، ونفس الشيء نجده في كتابه «أحاديث وسير» الذي يسرد فيه ذكرياته ويجمع فيه عدداً من مقالاته في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين وكلها تعبر عن روح التسامح وحب الوطن والإعجاب بشخصيات إسلامية عديدة في مقدمتها شخصية علي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والشريف الرضي، وعبدالحسين الحلي، وإبراهيم العريض، وينعي بحسرة الخلاف بين السنة والشيعة، وهم أبناء وطن واحد، ويرى أن الطائفية والقبلية والتعصب هي من بقايا الجاهلية. فهل يمكن أن نقول إن تقي البحارنة هو مؤرخ ينتمي للعصر القديم؟ ربما ولكنه مؤرخ أدبي بعين العاشق المحب لتاريخ البحرين وحضارتها، ومن منا لا يعشق البحرين ويحب شعبها الطيب الذي وقعت في غرامه من أول لحظة وأول نظرة.

وقد جمع تقي البحارنة بين المتناقضات في بعض كتاباته وتحليلاته، وكم في الحياة من متناقضات أولها تعاقب الليل والنهار، والموت والحياة، والفقر والغنى، وهكذا سنة الله العلي القدير. وحقاً إن البحرين هي أرض الخلود، ومانزال نبحث عن ذلك الخلود كما فعل جلجامش في الأسطورة المشهورة... فتهنئةً للشاعر الأديب السفير التاجر تقي البحارنة.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4118 - الأحد 15 ديسمبر 2013م الموافق 12 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 3:55 م

      صناع التاريخ

      هذا الرجل فعلا فخر للبحرين فقد مثلها خير تمثيل في جميع المواقع التي شغرها ولاننسى ما يتصف به من تواضع جم هذا الرجل وأخويه صادق الإقتصادي الكبير وكذلك العلامة القانوني الفطحل الدكتور حسين هؤلاء ممن بنوا البلد ومثلوا البلد خير تمثيل فهم فطاحل بلا منازع وهذه البحرين ولله الحمد ولادة وبرجالها فتجدهم في كل مكان وزمان

    • زائر 2 | 7:34 ص

      و نعم السيرة

      حقاً و كلمة الحق تقال... تقي البحارنة من أعرق و أصدق و أرمق الشخصيات البحرينية التي تركت ولا زالت بصمة في التاريخ البحريني و خطى المستقبل و هذا الكلام يأتي من صدق العبارة و النية و واقع التجربة من خلال معرفتي الشخصية به كسيد نبيل و شاعر حالم يعيش يومه راسماً مستقبله

    • زائر 1 | 2:57 ص

      بساتين و ينابيع البحرين

      سجل تقي ووثق تاريخ البحرين الحديث و ذكر بساتينه الخلابة و ينابيعها العذبة و ما طالها من خراب و دمار ممنهج مما لم يذكره تقريركم الكريم.

اقرأ ايضاً