العدد 4134 - الثلثاء 31 ديسمبر 2013م الموافق 27 صفر 1435هـ

الطب الخاص والطب العام واستراتيجيات وزارة الصحة (2)

أحمد سالم العريض comments [at] alwasatnews.com

استشاري أمراض وزراعة الكلى

في العصر الحديث تخضع ممارسة المهن الطبية في البلدان المتقدمة إلى مراقبة مؤسسات تعيّنها الحكومات، أو جمعيات يختارها ويرشح أعضاءها الأطباء والصيادلة والعاملون في شئون الصحة. ففي بريطانيا مثلاً تخضع هذه المهن لمراقبة المجلس الطبي العام، ولا يحق لأي طبيب أن يمارس المهنة الانتماء لعضوية هذه المجالس. كذلك هناك العديد من الكليات الملكية الطبية تخضع أفرادها والمنتمين لها إلى قوانين وأخلاقيات ممارسة المهنة أكثر صرامةً وتحديداً من قوانين المجلس الطبي العام.

لذلك نرى ومنذ القدم، أن ممارسة المهن الطبية لم تترك بغير ضوابط وقيود تحدد ممارستها. وقد وضعت هذه الضوابط لحماية المريض ولم تترك هذه الممارسة لسوق العرض والطلب. وفي الحضارات اليونانية القديمة كما هو في الحضارة الإسلامية وفي العصر الحديث، يخضع الممارس لهذه المهن لتأدية «القسم» الذي يلزمه احترام أخلاقيات المهنة.

ومن جملة القوانين وأخلاقيات ممارسة المهن الطبية في كليات الزمالة البريطانية، إلزام أعضائها «بأن لا يكون للعضو المنتمي لهذه الكليات أي مصلحة مادية مباشرة أو غير مباشرة في شركة أو مؤسسة يكون هدفها الربح فقط في تقديم العلاج للمرضى»، يستثنى من ذلك طبعاً المعاش المادي الذي يتقاضاه العضو الطبيب من المؤسسة أو الشركة لقاء تقديمه خدمات العلاج أو الرسوم التي يحصل عليها العضو الطبيب لقاء تقديمه مثل هذه الخدمات.

ومع أن مثل هذا الشرط واضح فإننا نرى في بريطانيا قلة من أعضاء هذه الكليات الملكية الطبية لهم أسهم ومصالح في مؤسسات علاجية ومستشفيات خاصة هم أطباء ممارسون فيها.

وقد لاحظت لجان المراقبة في هذه الكليات مثل هذا التجاوز لبعض أعضائها فأصدرت القوانين والتشريعات لمنع ذلك، واشترطت بأن الطبيب المساهم في إنشاء مؤسسة علاجية أو مستشفى خاص أو يكون عضواً في مجلس إدارة مثل هذه المؤسسة أو المستشفى، لا يحق له تقديم الخدمات الطبية لمرضاه في هذه المؤسسات أو المستشفيات.

كل هذه القوانين وضعت لحماية أخلاقيات مهنة الطب من انحرافات البعض، ورفع القيود المادية التي يمكن أن يتعرض لها الطبيب الممارس في مثل هذه المؤسسات أو المستشفيات التي له مصالح مادية بحتة فيها.

تجربة حزب العمال في بريطانيا

حاولت حكومة العمال في بريطانيا في سنوات حكمها الماضية تنظيم وحل المشاكل التي تعرض لها الأطباء والمرضى، جراء رغبة بعض المرضى الميسورين من العلاج في الطب الخاص، ومن رغبة الأطباء في ممارسة التطبيب الخاص لرفع وحماية مستواهم المعيشي والاجتماعي، فتم تعيين نسبة من الأسرة في بعض المستشفيات العامة لتقديم خدمات الطب فيها نتيجة لهذه السياسة، وعند محاولة تطبيقها نشأت مشاكل أخرى منها:

أولاً: عدم رغبة الأطباء المقيمين والذين لا يحق لهم ممارسة الطب الخاص من معاودة المرضى في هذه الأسرة الخاصة.

ثانياً: هؤلاء المرضى لهم متطلبات بحكم وضعهم الخاص في العناية والخدمات، متميز لا تستطيع ممرضات القطاع العام توفيرها لعدة أسباب:

أولاً: لقلة عددهن.

ثانياً: لكثرة المرضى في القطاع العام.

ثالثاً: الاستشاريون والأخصائيون، ونتيجة لعملهم في الصباح في القطاع العام كثيراً ما يضطرون لمعاودة مرضاهم الخاصين في الساعات غير الرسمية للمستشفيات، حيث لا يجد هؤلاء الأطباء الخدمات المطلوبة من الأطباء المقيمين وهيئة التمريض لمتابعة حالة المريض الصحية.

رابعاً: بعض الأطباء أساءوا استخدام هذا الحق وأخذوا يقدمون مرضاهم الخاصين للعلاج ودخول المستشفى متخطين بذلك دورهم في القطاع العام.

تلك بعض المشاكل التي واجهت تطبيق فكرة خلط الطب الخاص والعام خلال حكم حزب العمال، وقد حاولت وزيرة الصحة والشئون الاجتماعية باربرا كاسل (سنة 1974 – 1976)، حسم هذه المشاكل، وقرّرت فصل ممارسة الطب الخاص عن الطب العام بالتدريج، فوضعت القيود والعراقيل أمام الأطباء والاستشاريين لعدم استخدام المستشفيات والعيادات العامة لممارسة الطب الخاص.

هذه تجارب بعض البلدان المتقدمة، أثبتت بعد التجربة فشل الخلط بين الطب العام والخاص. ومنذ ذلك الحين تشجعت بعض الشركات المالية وشركات الاستثمار والتأمين في بريطانيا، على بناء المستشفيات الخاصة لتقديم خدمات الطب الخاص فيها بدلاً من المستشفيات العامة.

تجربة المستشفيات الخاصة في عهد ثاتشر

عندما استلم المحافظون الحكم في بريطانيا، ولسياستهم العاملة على توسيع دور القطاع الخاص، شجّعت الحكومة هذه الشركات والأطباء والناس للمساهمة في إنشاء المستشفيات الخاصة لعدة أسباب.

السبب الأول: الذي حاولت حكومة المحافظين إقناع الناس لتقبل خطوتها هذه هو أهمية عامل المنافسة لتطوير خدمات القطاع العام. فتشجيع القطاع الخاص لتقديم خدمات صحية ورعاية متميزة لنسبة معينة من الناس سيشجع القطاع العام لرفع مستوى الخدمات فيه.

السبب الثاني وهو سياسي مادي بحت، هو أن تشجيع القطاع الخاص في الصحة لا يكلّف الحكومة والميزانية العامة أية تكاليف إضافية بل العكس، فإن تلك السياسة ستمكن الحكومة من تخفيض التزاماتها المالية تجاه مواطنيها لتوفير العناية الصحية العامة لهم، وبذلك توفّر مئات الملايين.

نتيجة لتطبيق هذه السياسة، نرى أن حكومة المحافظين أمرت بقطع ميزانيات الصحة العامة في البلاد، وأمرت بغلق بعض المستشفيات العامة وخفضت عدد الأطباء والممرضين العاملين في بقية المستشفيات في طول البلاد وعرضها، ما تسبّب في تسريح أربعة آلاف طبيب وعدة آلاف من الممرضين والممرضات من الخدمة العامة.

شركات التأمين والطب الخاص

حالياً في بريطانيا يزيد عدد شركات التأمين العلاجي عن العشرين، وقد انضم لهذه الشركات العديد من المواطنين البريطانيين للاستفادة من خدمات الطب الخاص، وقد شمل مواطنين من طبقات وشرائح كثيرة من المجتمع البريطاني حتى أن هذه الخدمات تقدم حالياً لعمال كثيرٍ من شركات القطاع الخاص وبعض عمال الشركات والمؤسسات الحكومية كرجال المطافئ والبوليس وعائلاتهم. والحكومة البريطانية الحالية تشجّع ذلك وتحثّ عمال وموظفي المؤسسات الخاصة والعامة على الاشتراك في هذه الشركات التأمينية.

وعندما بدأت نقابات العمال تعي وتنتبه للفخ الذي يحاول حزب المحافظين نصبه لهم، طالبت هذه النقابات الحكومة واشترطت لدخول أعضائها لهذا النوع من التأمين الصحي أن تخفض الضرائب التي تتقاضاها الحكومة عن من ينتمي لهذا النظام الصحي والتي تصل أحياناً إلى 30 أو 35% من راتب العامل، حتى يتمكن عمال هذه الشركات من تسديد رسوم التأمين، وهنا رفضت الحكومة ذلك.

كذلك ظهرت بعض المشاكل الأخرى نتيجةً لتطبيق هذه السياسة من قبل حكومة المحافظين لتشجيع انتشار المستشفيات الخاصة، منها أن هذه المستشفيات استقطبت خيرة الأساتذة والأطباء والجرّاحين البريطانيين، وهذه المستشفيات بإمكانياتها ووضعها الحالي، لا تستطيع تقديم الخدمات التعليمية والتدريب المهني في مجال الطب للأطباء الذين تفرزهم الجامعات الطبية البريطانية. هذه الخدمات التي قدمها وتقدمها مستشفيات القطاع العام بكل سهولة وتنظيم طيلة عقود ماضية، أكسبت هذه المستشفيات العامة التعليمية في بريطانيا والدول الغربية سمعةً عالميةً في مجال الطب.

كذلك لوحظ أيضاً أن بعض هذه المستشفيات والأطباء الممارسين فيها، ونتيجةً لضغوط مالية ولاستئثار عامل الربح والخسارة في علاج المرضى، لجأ بعضها لإطالة إقامة المريض فيها أو إجراء فحوصات لا يحتاج لها المريض، وأحياناً إجراء عمليات للمريض هو في غنى عنها. كل هذه الممارسات اللاأخلاقية، هدفها ابتزاز المريض مادياً لتبقى هذه المستشفيات فاتحةً أبوابها مستمرةً في عملها.

لاشك أن لقطاع الطب الخاص دوراً يجب أن يمارسه في المجتمع، فإعطاء الخيار للمريض لمعايدة الاستشاري الذي يرغب ويجب أن يضع ثقته فيه، وحق الطبيب في غرز وتنمية هذه الثقة عند مرضاه، حقٌ طبيعي يجب تشجيعه.

كذلك هناك حق معيشي مهم للطبيب يجب مساعدته على توفيره ليطمئن على وضعه ووضع عائلته اجتماعياً، حتى لا يصبح عالةً على دخل محدود أو هباتٍ وصدقاتٍ اجتماعية معينة.

كل تلك الأمور يجب دراستها مع دراسة تجارب الآخرين في تنظيم الطب الخاص، ففشل هذه التجارب أو نجاحها، وكذلك قيم مجتمعنا ودراسة تاريخه يجب أن يأخذ في الحسبان عند التصدي لمعالجة هذه الأمور من قبل المسئولين والأطباء وكل من يحاول إيجاد الحلول الناجحة للتوفيق الطلب الخاص والعام في البحرين.

قال معاوية لرجل من أهل الكوفة دخل عليه خلال حرب صفين: أبلغ علياً أني أقابله بمئة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والبعير. وكان فريق الإمام علي يحتوي على كتبة القرآن وحفاظ الحديث. وحتى يمن علينا جلالة الملك بتعيين منظومة إدارية جديدة لإدارة وزارة الصحة من حفظة الاستراتيجيات الصحية والعلاجية... علينا الانتظار.

إقرأ أيضا لـ "أحمد سالم العريض"

العدد 4134 - الثلثاء 31 ديسمبر 2013م الموافق 27 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:08 ص

      تصرفات الأطباء فى البحرين

      الكثير من المخالفات المذكورة فى المقال و الحاصلة فى بريطانيا تحصل فى البحرين. حتى بعض الأطباء فى القطاع الخاص يطلبون مبالغ من مرضاهم للتسريع بإدخالهم مستشفى السلمانية و إجراء عملية لهم، مع العلم بأن الخدمة مجانية فى المستشفيات الحكومية. مع الأسف الجشع هو أسلوب عمل الكثير من الأطباء فى القطاع الخاص و لا يشعرون بالحرج عند الفشل فى العلاج و يعتبرون إهمالهم أمرا طبيعيا.

اقرأ ايضاً