العدد 4142 - الأربعاء 08 يناير 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1435هـ

لو سَكَتَ الجاهل ما اختلفَ الناس

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من الأدواء الاجتماعية «المهلِكَة» أن يتحكَّم في مصائر الناس «جُهَّالها» من الدَّهْمَاء. فالجهل نقيض العِلم، وليس نقيضاً للعقل. وقوله تعالى في سورة البقرة: «يَحْسَبُهُمُ الجاهلُ أَغنياءَ»؛ يعني الجاهِل بحالهم ولم يُرِدِ الجاهِلَ الذي هو ضد العاقل، إِنما أَراد الجَهْل الذي هو ضد الخِبْرة. يقال: هو يَجْهَل ذلك أَي لا يعرفه، كما جاء في لسان العرب.

وقد وَرَدَ الجهل في الآيات القرآنية على عِدَّة صور. فمرة جاءت «إِذ أَنتُم جاهلونَ»، وثانية «ولكنَّ أَكثرَهُمْ يجهلونَ»، وثالثة «إِنَّكُم قومٌ تجهلونَ»، ورابعة «أَراكُمْ قوماً تَجهلونَ»، وخامسة «بل أَنتم قَومٌ تجهلونَ»، وسادسة «إذا خاطبَهُمُ الجاهِلُونَ»، وسابعة «أَنْ أَكونَ من الجاهلِينَ» وثامنة «أَكُنْ من الجاهلِينَ». كما جاءت «جَهُولاً» و»جهالة» و»الجاهلية» أيضاً.

في المحصلة، فإن الجهلَ أمرٌ مذموم. هو كذلك سواء أكان جهلاً بسيطاً صريحاً، أم مُركباً ممزوجاً بالحمق والغرور، أم مكتَسَباً بجهل وسَفَه، أم الجهل بفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يُفعَل (كما سُمِّي). ومردُّ ذلك، هو أن الجاهل يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم والمصلحة والتقدير، مشوباً بِنَزَقِ الخلق، وادعاء الفهم، وهو ما يُفضي عادة إلى دمار المجتمع وتفككه.

كما أن الجاهل يفتقد إلى أهم خصلة في الإنسان القويم، وهي الأخلاق. فهو غير معني بأي معيار قيمي، مادام هو عابد لجهله، كعبادة قوم موسى لِعِجْل السامري. وبالتالي، ترى الجاهل لا يكتفي بحمل الجهل، بل بالتعصب له دون رادع أخلاقٍ ولا ضميرٍ واحترام. وهنا، تكمن الخطورة، وتتعاظم سوداوية الحال، إلى الحد الذي لا يُرَى فيه إلاَّ كونه جائحة قاتلة.

في كلِّ المجتمعات، تتبايَن الرؤى والتصوُّرات للمشاكل الدينية والسياسية والفكرية والثقافية، وهو أمرٌ أخذ «طبيعيته» من كون تلك الرؤى بمثابة المُكمِّلات لبعضها، خصوصاً وأنها تتفق (في كلها) على نسبيَّة ما وصلت إليه من نتائج، ولا يبقى حينها لضبط إيقاعها سوى التفاهم، وإيجاد الصِّيَغ والآليات لتدعيم تلك الرؤى لبعضها كي تتكامل.

هنا، لا مجال للحديث (ضمن تلك الدائرة) عن الجهل والجاهلين، كونهم يفتقرون إلى اجتراح «رؤى» نابعة من عقل راجح، ولها مسوِّغات الفكرة. فالجاهل، يتحدَّث بغير عِلم، ويعمل بغير هدى، ويُفكِّر بدون أفق. وأمام كل ذلك الافتقار، يُقيم مبانيه ولقلقة لسانه على عواطفه وانفعالاته المنفلتة، حتى يتخيَّل نفسه وكأنه ضمن سِكَّة الحياة الطبيعية، التي يتوجَّب على الآخرين تفهمها كونهم مُخطئين وعليهم التوبة!

في أمور الدِّين، تتفجَّر عضلات الجهل من غير العارفين في شأنه، كوْن الدِّين، يحمل صفة مُقدَّسة وبالتالي ينبري كثيرٌ من أولئك الجُهَّال للدفاع عنه بجهل وحَمِيَّة، ولكن على غير هدى ولا بصيرة. وقد حَصَلَ مثل ذلك في التاريخ، سواء في مشاريع الدفاع «الجاهلة» عن اليهودية أو عن المسيحية الأولى واللاحقة، أو عن الإسلام من قِبَل سارقيه ومتطرفيه، وكذلك في الشرق عند الديانات الوضعية كالبوذية والهندوسية.

وفي أمور السياسة، تنتفخ أوداج الجهل، دفاعاً عن المشاريع الفاشلة، التي تَدْلَهمّ فيها الظلمة أمام بوصلة الطريق، فلا يُصبح هدفها إلاَّ كجنون انفلت من عقاله. وهنا، يموت المشروع برمته، ويفقد جدواه، وهو أمر في غاية الخطورة والسوء، كون المشروعات السياسية، تُغطِّي حياة الناس بلا منازع، حين يختلط فيها كل ما يخص دينهم ودنياهم، خصوصاً في المجتمعات المنغلقة، المحكومة بالديكتاتورية.

إذا كانت قيادة طائرة، تحمل على متنها مئتي راكب، لا تُعطَى إلاَّ لأصحاب الخبرة والدراية لقيادتها، وإيصالها ومَنْ فيها إلى بر الأمان، فإن من السذاجة أن تُعطى قيادة الأمم بألوفها وملايينها ومشاريعها إلى الجاهلين بالدين والسياسة والفكر، والذين لا يُفرِّقون بين الصالح والطالح، فلا يجلبون لها إلاَّ النزاعات والدمار، ولا لمستقبلها إلاَّ المشكلات، ولا لأجيال الأمة سوى المعاناة والألم. وكم حَفِظَ لنا التاريخ القديم والحديث من صور ذلك ما تفيض به الكتب والتدوينات.

عندما قالت فرنسا في العام 1598 (ولاحقاً في العام 1789) كلمتها للعلم أن يتقدم على الجهل، استطاعت أن تحمي نفسها من التشظّي السياسي والديني الأعمى الذي قاده الجَهَلة في بارما، وما نتَجَ عنها من بلاء. وعندما انبرى إيطاليو الشمال لتقديم العلم، وسَحب البساط من تحت أرجل الجهلة، استطاعت أن تبني لنفسها مستقبلاً زاهراً تقدمت به على عموم أوروبا.

يخطئ مَنْ يعتقد أن الشجاعة هي فقط أن تقول لا، بل هي قبل ذلك أن تقول نعم للعقل والمنطلق والضمير الحي، الرافض للعبودية، والدافع لإعطاء ذوي الحِجَا حق الرأي والمشورة، ويمنعها عن الجنون وأصحابه، ثم استفتاء الضمير، وإلى أيّ كفة يميل. هذه ليست فلسفة هزلية، بل هي الحقيقة التي يجب أن نفهمها جميعاً. إنها صورة من صور العقل الراجح، الذي تمتَّع الإنسان به دون سواه (على الأقل في أغلبهم).

أختم مقالتي هذه بقصة ذكرها ابن عساكر عن مآسي الجهل. القصة تقول بأن خالد بن عتاب والي الرَّي من قِبَل الحجَّاج خَطَبَ مرةً فقال: أقول كما قال الله عز وجل في كتابه:

ليس شيءٌ على المنونِ بباقي

غير وجهِ المسبّح الخلاق

فقيل له: أيها الأمير، هذا قول عدي بن زيد. قال: فنعم والله ما قال عدي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4142 - الأربعاء 08 يناير 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 9:38 ص

      محمد الادريسي

      السلام عليكم
      اشكرك ثم اشكرك ثم اشكرا بارك الله فيك لقد والله امتعني موضوعك هذا الذي كتبت واني لفي شوق الى مزيد من مثل هذه الاقلام المضيئة التي اتمنى لها من كل قلبي النجاح والحياة فلا يمكن ان يموت قلم قلم يكتب بصدق وهو يأمل ان يعيش ما احوجنا الى مثل هذه الاقلام النيرة بارك الله فيك مرة اخرى

    • زائر 2 | 11:04 م

      نريد الطبيب الجيد والجاهل الجيد

      الناس تبحث عن افضل الاطباء لكي تتعلاج لكنها تلجأ للجهال كي يقودونها!!!!!!

    • زائر 1 | 10:57 م

      شكرا

      أصبت كبد الحقيقة يابو عبدالله . شكرا

اقرأ ايضاً